* أنشأ الفاطميون «دار الكعك»، و«دار الكسوة» لتوزع الكعك وملابس العيد الجديدة على الفقراء... وكانت الولائم الرمضانية تقام طوال الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، وهي الفكرة التي تطورت في العصر الحديث إلى ما يعرف باسم «موائد الرحمن».
* عقب قيام ثورة يوليو عام 1952 بدأت أولى مراحل الاستخدام السياسي لـ«شنطة رمضان»، حيث كان يتم توزيعها على الموظفين في المصالح الحكومية والعمال في المصانع قبيل شهر رمضان لسعي نظام عبد الناصر إلى إرساء مبدأ العدالة الاجتماعية
* خبير في التراث الشعبي: مصر عرفت منذ فجر التاريخ فكرة مساندة الأغنياء للفقراء خاصة في المناسبات الدينية.
القاهرة: مع حلول شهر رمضان كل عام بطقوسه المصرية الخاصة تبرز إلى مقدمة المشهد «شنطة رمضان» التي تحوي بعض المواد الغذائية الأساسية ويتم توزيعها على الفقراء، وعلى الرغم من ارتباطها بشهر الصيام فإنها كفكرة إنسانية نبيلة قديمة، غير أن اتخاذها المظهر الديني المرتبط بالطقوس والأجواء الرمضانية بدأ مع ما يعرف تاريخيا بـ«عصر الولاة» عقب دخول الإسلام إلى مصر، وساهم تعاقب أنظمة حكم مختلفة في تحولها إلى شاهد عيان على تحولات سياسية واقتصادية واجتماعية شهدها المجتمع المصري، لتتحول من فكرة إنسانية نبيلة إلى أحد أبرز المظاهر الرمضانية، إلى أن بدأت مرحلة الاستخدام السياسي في العصر الحديث.
عرف المصريون «شنطة رمضان» كفكرة نبيلة منذ بداية الدولة القديمة في عهد الفراعنة، وكانت تصنع من «الخوص» ويوضع بداخلها بعض المواد الغذائية الأساسية من المنتجات الزراعية، وتترك أمام منازل الفقراء خاصة في المناسبات والأعياد الفرعونية.
ويقول الدكتور بسام الشماع، الباحث في علم المصريات لـ«المجلة» إن «الكثير من النصوص والبرديات وثقت إيمان المصري القديم في العصر الفرعوني بفكرة مساندة الفقير وقضاء حاجات المحتاجين، وقد انتشرت وقتها الكثير من المظاهر الاجتماعية التي أكدت على قيم ومفاهيم مساعدة الفقراء والمحتاجين خاصة في المناسبات والأعياد».
ومن بين المظاهر الفرعونية الشهيرة ما يعرف باسم «شجرة أوزوريس» وهي تشبه شجرة عيد الميلاد في العصر الحديث، ففي الأعياد كان الأطفال يقومون بكتابة أمنياتهم واحتياجاتهم على قطع من الفخار، ثم يتركونها تجف ويضعونها تحت الشجرة، ويأتي الكهنة ليقرأوا هذه المطالب ويقومون بإحضارها ويضعونها للأطفال في نفس المكان أسفل الشجرة.
وبدأ ارتباط «شنطة رمضان» بالمظاهر الرمضانية عقب دخول الإسلام إلى مصر مع بداية ما يعرف تاريخيا بـ«عصر الولاة»، حيث كان مندوب الوالي يمتطي حصانا أو حمارا ويتجول في المدينة خلال شهر رمضان لتوزيع المواد الغذائية الأساسية على الفقراء.
ومع بداية الدولة الفاطمية وتحول مصر من المذهب السني إلى الشيعي، ازداد ارتباط الفكرة بمظاهر وأجواء شهر رمضان التي استمر الكثير منها حتى الوقت الراهن.
وأنشأ الفاطميون وقتها ما عرف بـ«دار الكعك»، حيث كان يتم توزيع كعك العيد على الجميع، وأيضا «دار الكسوة» التي كانت توزع ملابس العيد الجديدة على الفقراء، وكانت ولائم الفقراء تقام طوال الجمعة الأخيرة من شهر رمضان، وهي الفكرة التي تطورت في العصر الحديث إلى ما يعرف باسم «موائد الرحمن».
ومن جانبه، يقول الدكتور عادل عبد الحافظ، أستاذ التاريخ الإسلامي بجامعة المنيا لـ«المجلة» إن «شنطة رمضان ارتبطت بالدين الإسلامي واعتبارها جزءا من الزكاة منذ عهد الولاة، لكنها تحولت إلى طقس من طقوس رمضان مع بداية عصر الفاطميين، لأنهم حولوا مصر إلى المذهب الشيعي، لذلك كانوا يستخدمون أي مناسبة دينية وخاصة رمضان في التقرب من الناس».
عرفت مصر طوال تاريخها الكثير من الأفكار التي تعكس قيمة مساندة الفقراء، ففي العهد العثماني ظهر ما عرف بـ«التكية» وهي مكان كان يقدم الطعام للفقراء طوال العام وليس في شهر رمضان فقط، وكان يتردد على التكايا معظم الفقراء والمسافرين، لكن روادها الدائمين كانوا من الدراويش الذين كان يطلق عليهم وقتها «تنابلة السلطان».
وخلال فترة حكم الأسرة العلوية، عرفت مصر ظاهرة موائد الخديوي، حيث كانت تقام الموائد الدائمة للفقراء في معظم المناسبات، وعرف المصريون ما سمي بـ«أرز أم إسماعيل» نسبة إلى الخديوي إسماعيل حيث كان يقيم الموائد الممتدة من قصر عابدين «وسط القاهرة» إلى حي إمبابة «بمحافظة الجيزة» وكانت الوجبة الرئيسية هي الأرز واللحم.
ويقول الدكتور محمد أحمد عبد الرازق، أستاذ التاريخ والتراث الشعبي بجامعة المنصورة بمصر لـ«المجلة»: «إن مصر عرفت منذ فجر التاريخ فكرة مساندة الأغنياء للفقراء، خاصة في المناسبات الدينية كشهر رمضان، فحتى وقت قريب كان يوجد في القرى ما يسمى (المضيفة) وهي غرفة أو مبنى ملحق بالمنازل ويفتح طوال شهر رمضان، ويقف كبير القرية قبيل الإفطار يستقبل القادمين ويصر على تناولهم الإفطار، ومعظم مظاهر رمضان الاحتفالية بما فيها الشنطة انتشرت خلال العصر الفاطمي».
وتابع: «ساهم اختلاف توجهات وأشكال أنظمة الحكم في مصر خلال العصر الحديث في تحول شنطة رمضان إلى أحد أدوات التأثير السياسي في الجماهير خاصة في مواسم الانتخابات، وأدت التعقيدات السياسية إلى سقوط الخيط الفاصل ما بين كونها ولدت فكرة إنسانية نبيلة ارتبطت بمظاهر شهر رمضان، وبين الاستخدام السياسي».
وعقب قيام ثورة 23 يوليو 1952 بدأت أولى مراحل الاستخدام السياسي، فمع سعي نظام الرئيس الراحل جمال عبد الناصر إلى إرساء مبدأ العدالة الاجتماعية تحولت «شنطة رمضان» إلى ما يشبه التوجه الرسمي للدولة، حيث كان يتم توزيعها على الموظفين في المصالح الحكومية والعمال في المصانع قبيل شهر رمضان، إضافة إلى ميلاد فكرة العلاوة الحكومية للموظفين والعمال التي ارتبطت أيضا بشهر رمضان.
وخلال فترة حكم الرئيس الراحل أنور السادات، ظهرت بوضوح فكرة استخدامها في الدعاية الانتخابية، وتحولت «شنطة رمضان» إلى أحد وسائل التأثير في الناخبين طوال العصور اللاحقة، وشهدت فترة حكم الرئيس الأسبق حسني مبارك الذي أطاحت به ثورة يناير 2011 تنافسا حادا بين جماعة الإخوان المسلمين والحزب الوطني الحاكم وقتها في توزيع شنطة رمضان، وكان الأمر يأخذ شكلا أكثر صراحة خلال الانتخابات.
وشهدت الأعوام الأخيرة توسعا في دور الجمعيات الأهلية الخيرية في توزيع «شنطة رمضان» على الفقراء، حيث تقوم بالأساس بدور الوسيط بين المتبرعين الأغنياء والفقراء المحتاجين، وهو ما أدى إلى تطور شكل «شنطة رمضان» إلى «كرتونة» من الورق المقوى رغم أنها ما زالت تحمل نفس الاسم التاريخي، ومع التطورات الاقتصادية دخلت المتاجر الشهيرة على خط الاستخدام الاقتصادي، إذ تقوم بإعداد «كرتونة» متكاملة جاهزة تحوي بعض المواد الغذائية الأساسية بأسعار متنوعة تحدد حسب المحتوى، ويقوم البعض بشرائها لتلبية احتياجاته المنزلية خلال شهر رمضان، فيما يقوم آخرون بشراء عدد منها بحسب إمكانياتهم المادية وتوزيعها مباشرة على المحتاجين في محيطهم الاجتماعي أو التبرع بها للجمعيات التي تتولى توزيعها على المحتاجين.