* هل تكون سلسلة الرتب والرواتب وأجور المتقاعدين «كبش الفداء» لتأخير الانهيار الاقتصادي؟
* البنك الأوروبي والبنك الدولي يحذران لبنان من أزمة وشيكة وضيق الوقت للإنقاذ
* الرئيس الحريري: التحديات من حولنا كبيرة وقاسية جدًا، وثمة قرارات صعبة على الجميع أن يتشارك في مسؤولية اتخاذها
* وزير الاقتصاد: الإجراءات الإصلاحية لن تطال راوتب المواطنين إنما ستطال مسارب الهدر ابتداء من ملف الكهرباء
بيروت: يقف الاقتصاد اللبناني منذ سنوات على شفير الهاوية وما يجري حتى اللحظة هو تأخير هذا السقوط، إذ دفعت سنوات من الفساد والهدر وسوء الإدارة وعدم الاستقرار السياسي والأمني إلى غرق لبنان في ديون بقيمة 86 مليار دولار، مع عدم وجود آفاق حقيقية للتعافي في الأفق. وفي حين أنّ جميع التوقعات والتحذيرات من انهيار اقتصادي ليست جديدة إلا أن هذه المرّة تبدو ملامح العاصفة أشد، مع تسارع المؤشرات الخطرة لأزمة اقتصادية ومالية واجتماعية تقترب منها البلاد. خصوصا مع استمرار صدور تحذيرات خارجية لدول أو منظمات مالية أو هيئات اقتصادية غربية معنية بمقررات مؤتمر «سيدر»، وكان آخر الأصوات المحذرة من «أزمة وشيكة» في لبنان قبل أيام البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية بعد التحذيرات المماثلة التي أطلقها البنك الدولي حول دقة الوضع وضيق الوقت للإنقاذ.
وقد حضر رئيس البنك الأوروبي لإعادة الإعمار والتنمية، يورغن ريجتيريك، إلى بيروت ليبلغ المسؤولين اللبنانيين أيضا أن المؤشرات الاقتصادية الحالية تشير إلى أزمة وشيكة، وأن هناك حاجة لإصلاحات مهمة وجريئة وقد تكون مؤلمة ولكن البديل منها مؤلم أكثر...
وكان قد حذر نائب رئيس منطقة الشرق الأوسط في البنك الدولي، فريد بلحاج، قبل أيام بعد لقائه وزير المالية علي حسن خليل أن «الوضع الاقتصادي في لبنان دقيق وهذا ما قلناه عدة مرات»، مشيرًا إلى أن «الموضوع اليوم هو كيفية ارتقاء الحكومة اللبنانية إلى مستوى الإصلاحات لأنها هامة وجوهرية ويجب أن يقوم بها لبنان للتواصل مع الجهات المانحة».
ويبدي الموفدون الدوليون الخشية من أن يكون لبنان دخل عمليا «مرحلة ما قبل الانهيار» لا سيما أن الخطوات الإنقاذية لا تزال تتعثر وتتأخر، وهو ما يتزامن مع ما تمثل في سباق جدي وحقيقي نادرًا ما ظهر مثله سابقًا بين الاتجاهات العاجلة لبت مواقف الحكومة وخططها الحاسمة من ملفات حيوية لاحتواء الأزمة والتعجيل بسلسلة الإصلاحات. ولا يخفي المسؤولون اللبنانيون أيضًا خطورة الوضع وكان البارز التصريحات التي أدلى بها رئيس الحكومة سعد الحريري قبل أيام حين شدّد على أن «التحديات من حولنا كبيرة وقاسية جدًا، وأن هناك قرارات صعبة فيما يختص بالموازنة والإصلاحات وعلى الجميع أن يتشارك في مسؤولية اتخاذها».
القرارت الصعبة التي لفت إليها الرئيس الحريري كانت كفيلة بإثارة موجة مخاوف وتساؤلات حول طبيعتها مما دفع بالبعض الحديث عن احتمال المس برواتب المتقاعدين أو التراجع عن سلسلة الرتب والرواتب التي سلكت مسارها عام 2018. وفي هذا السياق رأت مصادر متابعة أن حلّ «إلغاء السلسلة» يعتبر من الحلول السريعة التي من شأنها تأخير الانهيار الاقتصادي، مما يمنح الحكومة وقتًا للوصول إلى حلول حقيقية ومستدامة، مشيرة إلى أن «هذا الحلّ أيضًا لا تَوافُق عليه».
مدير المحاسبة الأسبق في وزارة المال الخبير الاقتصادي، الدكتور أمين صالح، رأى في حديث خاص لـ«المجلة» أنه «يمكن توصيف الوضع في لبنان على أننا في أزمة اقتصادية ومالية ونقدية عميقة جدا، بدليل إيقاف الدولة الإنفاق وإقدام وزير المال على وقف الاعتمادات المالية مما يشير إلى شلل وجمود اقتصادي».
كما رأى صالح أن تحذيرات المنظمات الدولية ليست بجديدة، مشيرا إلى أنه «لا يأخذ تحذيراتها بجدية لأنها تساهم في بعض الأحيان بأزمات البلاد المالية».
هذا وتأسف أن «يقوم المسؤولون السياسيون بالتحذير من خطورة الوضع علما بأن السلطة السياسية هي من يضع السياسات المالية والنقدية وهي المسؤولة أولا وأخيرا عن هذه الأزمة وبالتالي يقع على عاتقها إيجاد الحلول»، وتابع: «الحل سيكون مؤلما ولكن الألم يجب أن تتحمله الفئات التي استفادت من نتائج الأزمة وأوصلها إلى هذا الحدّ».
كما رأى صالح أنه حتى الآن السلطة اللبنانية لم تقم بأي إجراء إصلاحي، مؤكدا أن «شيئا لن يتغير وأن (سيدر) مثله مثل مؤتمرات باريس السابقة لم يكن سوى مسكنات لشخص يعاني من سرطان». مشيرا إلى أن «المشاريع والاستثمارات تحتاج لكثير من السنوات لتنفيذها ومعرفة مردودها الاقتصادي وبالتالي فإن ترجمة إيجابياتها على أرض الواقع تحتاج وقتا طويلا».
إلى ذلك، أكد صالح: «إننا نستطيع دون (سيدر) ودون خبراء من الخارج إذا توفرت إرادة وطنية حاسمة وتوفرت حلول إيجابية البدء من اليوم وبدلا من إصلاح 1 في المائة يمكن إصلاح 5 في المائة» لافتا إلى أن «أولى الخطوات تتمثل بإقرار الموازنة».
ختاما توجّه صالح بالقول إنه «قبل المس برواتب المتقاعدين فليسددوا لهم المبالع التي اقتطعت من رواتبهم طوال 40 عاما والتي قاموا بصرفها بدلا من وضعها في صندوق خاص وتوظيفها بشكل صحيح»، مضيفا: «سلسلة الرتب والرواتب حق للموظفين ولا يحق لهم المساس بها»، مشيرا إلى أن «إصلاحات الوضع المالي تبدأ عبر وضع حد لأكبر هدر والمتمثل بفوائد الدين العام، وبدلا من المساس بجيوب المواطنين فلينظروا إلى الـ220 ثقبا بخزان المال العام من نفقات السفر ومخصصات النواب والوزراء والرواتب العالية في الدولة والمؤسسات العامة وغيرهما».
لكن ما حقيقة الوضع الاقتصادي؟ وهل لبنان فعلا قادم على انهيار اقتصادي ومالي؟
الخبير الاقتصادي البروفسور، جاسم عجاقة، شرح لـ«المجلة» بإسهاب الوضع الاقتصادي والمالي في لبنان موضحًا أنه «في بادئ الأمر ثمة ثلاثة أمور منفصلة عن بعضها إلا أنها مع ذلك تتداخل وتؤثر على بعضها البعض، وهي: النشاط الاقتصادي، والمالية العامة، والوضع النقدي»، لافتا «بما أن النمو الاقتصادي في لبنان يزداد سنويا 1 في المائة لا يمكن الحديث عن انهيار اقتصادي علما بأن هذه النسبة ضئيلة، وبالتالي كل ما يحكى عن انهيار اقتصادي هو كلام غير دقيق»، مشيرا إلى أن «الوضع المالي هو السبب في انخفاض نسبة النمو الاقتصادي الذي لا يمكن رفعه إلا من خلال الاستثمارات».
أما فيما يتعلق بالمالية العامة فهي، بحسب عجاقة، في حالة يرثى لها، نظرا لأن نفقات الدولة أكثر من مداخيلها وذلك بسبب الهدر المالي والفساد وغيرهما، مشيرا إلى أن «حلّ هذه الأزمة يكمن في إيجاد التمويل اللازم الذي يتمّ إما عبر الاستدانة وإما عبر رفع الضرائب وهو الأمر الذي سيواجه برفض شعبي مما سيؤدي بشكل غير مباشر إلى انخفاض النشاط الاقتصادي»، وتابع: «لبنان الآن مجبر على الاستدانة لسد عجز عام 2018 الذي سجل أكثر من 6 مليارات دولار إلا أن التحدّي الكبير أمام الدولة اليوم هو عدم رفع العجز بموازنة 2019 وذلك عبر المحافظة على نسبة الدين العام وهنا تأتي معضلة الموازنة».
وأشار عجاقة إلى أن «الدولة اللبنانية ذاهبة نحو خيارات معينة للتخفيف من نسبة الإنفاق ويحكى أن هذه الخيارات موجعة وهي قد تكون عبر التراجع عن السلسلة إلا أن هذا الخيار مستبعد بالنسبة لي»، ورأى أن «التوجه قد يكون أكثر نحو خفض رواتب المتقاعدين إذ يعتبر المسؤولون أنه منذ عام 2010 حتى اليوم زاد حجمها الضعفين».
وعن الوضع النقدي، أوضح عجاقة أنه «يتأثر بالوضع الاقتصادي والمالي ووسط الركود الاقتصادي الحاصل والدين العام المتراكم لا شك أن ثمة ضغوطات على الليرة اللبنانية، إلا أن سياسة حاكم مصرف لبنان من حيث تكوين احتياطي من العملات الأجنبية لتثبيت سعر صرف الليرة حالت دون ذلك، لذا لا مخاوف على الليرة إنما المخاوف هي على المالية العامة».
وأكّد عجاقة على أنه «في حال استطاعت الحكومة تأمين موازنة عام 2019 بشكل مقبول يكون العجز فيها بأقصى حدّ يساوي العجز عام 2018 دون إضافة ضرائب هذا يعني أن لبنان تخطى هذه الأزمة، وفي حال لم تتمكن الحكومة من ذلك يعني مزيدا من الدين مما يعني بدوره مزيدا من الضغوطات الاقتصادية والنقدية»، مشددا على أن «الانهيار في المالية العامة لا يزال بعيدا إلا أنه حتمي في حال استمر الوضع على حاله ولم تتم معالجته».
كما رأى عجاقة «أن ما يحكى عن انهيار غير دقيق إنما المقصود توجيه رسائل سياسية لممارسة الضغوطات بسبب الاستحقاقات السياسية الكبيرة القادمة».
وفيما يتعلّق بدور مؤتمر «سيدر»، قال عجاقة: «لا شك أن الإصلاحات ستساهم بخفض عجز المالية العامة والاستثمارت تساهم بزيادة حجم الاقتصاد لا سيما أنها بقيمة 11 مليار دولار لذا من المؤكد أنها ستكون واعدة»، مشيرا إلى أن «المجتمع الدولي فرض على لبنان جملة من الإصلاحات غير سهلة تتعلق بمكافحة الفساد والسيطرة على المالية العامة وذلك مقابل إعطائه القروض وهنا يأتي دور الموازنة وكلما تأخر إعدادها سيؤثر ذلك بشكل سلبي على الإصلاحات لعدم تمكنهم من توفير الأموال مع مرور الوقت لمحاربة العجز».
ختاما شدد عجاقة على أن «الدولة اللبنانية لن تستطيع بأي شكل من الأشكال الهروب من الإصلاحات وأن الاستمرار على هذا النمط أمر لا يبشر بالخير»، مؤكدا «علينا انتظار أداء الرؤساء الثلاث لأن الواضح من خطاباتهم أن النية موجودة».
هل تكون سلسلة الرتب والرواتب وأجور المتقاعدين «كبش الفداء» لتأخير الانهيار الاقتصادي؟
وزير الاقتصاد والتجارة، منصور بطيش، أكّد لـ«المجلة» أنه «لا سبب ليكون هناك انهيار اقتصادي على الإطلاق». وعن الإجراءات التي يحكى عنها قال بطيش: «نحن بانتظار الموازنة كي يبنى على الشيء مقتضاه ولكن نحن لسنا في هذه الأجواء».
وشدّد بطيش على أن «الأوضاع الراهنة صعبة وثمة إجراءات سوف يتم اتخاذها لكنها لن تطال رواتب المواطنين إنما ستطال مسارب الهدر ابتداء من ملف الكهرباء حيث تم الاتفاق على التخفيض التدريجي لنسبة الهدر فيه، ومكافحة التهرب الضريبي وصولاً لتأمين الشفافية في الصفقات والحسابات العامة». مؤكدا على أنه «لا أحد يريد أن يطال طبقات محدودة الدخل ولا أحد يريد تطبيق سلسلة ضرائبية جديدة ولم يكن المقصود عند الحديث عن إجراءات سلسلة الرتب والرواتب».
وحول توقعاته بمدى مساهمة «سيدر» في تحسين الوضع الاقتصادي، قال بطيش، إنه «قبل الحديث عن (سيدر) علينا تحمل المسؤولية وأن نقوم بالإصلاحات على مستوى المالية العامة بأسرع وقت ممكن، ولا شك أن (سيدر) سيساهم بإعادة بناء البنى التحتية في لبنان الذي تأثر بشكل كبير نتيجة وجود أكثر من مليون ونصف المليون سوري طوال 8 سنوات وهو ما كبد الخزينة خسائر كبيرة وحمّل المالية العامة أعباء ثقيلة».
إذن في لبنان ليس هناك انهيار مالي واقتصادي حتى الساعة، واليوم الحكومة الموضوعة تحت المجهر الدولي أمام امتحان إثبات القدرة والنجاح في اتخاذ هذه الخطوات الإصلاحية التي تشكل أولوية مطلقة وملحة للنهوض بما تبقى من اقتصاد ومالية للدولة اللبنانية.