* شرعت السعودية في كثير من المشاريع الثنائية مع عدد من بلدان القارة السمراء، على غرار تدشين محطة طاقة شمسية في جنوب أفريقيا بلغت قيمتها نحو 328 مليون دولار
* من المظاهر الرئيسية لتحركات المملكة العربية السعودية توظيف اقتراب القدرة على التأثير في كثير من الدول من أجل تسوية الصراعات أو تخفيض منسوب حدتها
* تقد السعودية الدعم الغذائي للاجئين والنازحين من دول القارة السمراء، خصوصًا الصومال والسودان، من خلال الصندوق السعودي للتنمية
* سعيد برهان عبد الله: الهجمات الشرسة التي توجه إلى المملكة والتهديدات المتكررة التي تجابهها لن تؤثر في هذه الدولة المباركة
* تسعى السعودية، والتي تعد ثالث أكبر منفق في العالم على قطاع الدفاع، للدخول في شراكات لتطوير صناعة الدفاع المحلية
أنقرة: اتجهت السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية خلال السنوات الأخيرة إلى إعادة تكثيف وصوغ مقارباتها من أجل امتلاك زمام المبادرة على نحو تدريجي، في أقاليم مجاورة للمنطقة العربية، تأسيساً على أن الأحداث الساخنة التي شهدتها ساحة الإقليم أثبتت، عبر عقود خالية وخبرات متراكمة، أنه لا انفصال بين تحقيق الأمن الإقليمي، من جانب، ومواجهة سياسات عدم الاستقرار التي تعاني منها أقاليم مجاورة، من جانب آخر.
أفضى ذلك لأن تبدو القارة الأفريقية- لاعتبارات المساحة الشاسعة والتعداد الديموغرافي والجوار الجغرافي والمشتركات التاريخية- مسرحاً مهماً للحركة الدبلوماسية السعودية النشطة عبر أطر وأدوات وظفتها المملكة تأكيداً للمكانة وتعزيزاً للقدرة.
السياسات السعودية ارتبطت محركاتها بطبيعة المتغير القيادي ورؤية المملكة لأنماط أدوارها الجديدة على الساحة الإقليمية والدولية، وتأسست أيضا على طبيعة الصراعات متزايدة الحدة التي باتت تشهدها الساحة الأفريقية والتي طالما كانت مطمعًا استراتيجيًا لدول إقليمية وقوى دولية.
ونظرًا لإطلالة الدول الأفريقية على الممرات الملاحية التي تربط قارات العالم، فقد كانت لها أهمية بالغة في تأمين صادرات دول الخليج، إلى العالم، وكذا الواردات من السلع والخدمات، إلى جانب الأهمية الاستراتيجية في مواجهة أي تحرك عسكري في المنطقة. ترتب على ذلك أن اتبعت المملكة استراتيجية بعيدة المدى لبناء علاقات ثقة وثيقة مع الدول الأفريقية، تنبني على توجه سعودي متعدد الأبعاد يشمل الاقتراب التنموي وسياسات بناء الشراكات الاستراتيجية، فضلا عن الحفاظ على التوجهات التقليدية الخاصة بالعمل الإنساني و«التوجه الخيري»، في بيئات تحتاج وتتطلع إلى العمل السعودي وارتداداته.
المحرك الاقتصادي في العلاقات المشتركة
على الرغم من أن الاهتمام السعودي بالقارة السمراء لم ينقطع على مدى عقود خلت، فإن التطورات الإيجابية التي شهدتها العلاقات المشتركة منذ وصول الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود إلى الحكم، قد تجلى أثرها في الطفرة التي شهدتها العلاقات وأنماط المبادرات لتعزيز الشراكات، على نحو تجلت مظاهره الأبرز في أن يكون لدى المملكة وزارة دولة معنية بالشؤون الأفريقية، وذلك بعد صدور أمر ملكي بتعيين السفير أحمد قطان وزير دولة لشؤون الدول الأفريقية. وقد أفضت خطى المملكة وإجراءاتها المتوالية في هذا السياق، إلى بناء علاقات سياسية أكثر قوة، وروابط أمنية مستجدة، وأطر مؤسسية لم تكن قائمة مع كثير من دول القارة الأفريقية.
وعُنيت المملكة بتعزيز قدراتها الاقتصادية والتجارية على نحو غير مسبوق، عبر العمل على توثيق علاقاتها التجارية وشراكاتها الاقتصادية مع الدول الأفريقية، تأسيسا على أهمية التعاون الاقتصادي مع أفريقيا، كونها مستودعا للثروات الخصبة في مختلف المجالات، بما في ذلك الإنتاج الزراعي، والتعديني، والصناعي، فضلا عن الحركة التجارية والشراكات الاستثمارية ذات القيمة المضافة.
وشرعت السعودية في الكثير من المشاريع الثنائية مع عدد من بلدان القارة السمراء، على غرار تدشين محطة طاقة شمسية في جنوب أفريقيا بلغت قيمتها نحو 328 مليون دولار. وفي مثال آخر على التوجه السعودي الاستراتيجي في أفريقيا، كشف ضياء الدين بامخرمة، سفير جيبوتي لدى السعودية، عن توجه رسمي لإقامة خطوط ملاحية مباشرة بين موانئ جيبوتي، وجدة، وجازان لدعم التبادل التجاري بين البلدين، وتعزيز وجود المنتجات السعودية في دول القرن الأفريقي.
وقال وزير الطاقة السعودي خالد الفالح إن المملكة تخطط لبناء مصفاة نفطية ومصنع للبتروكيماويات في جنوب أفريقيا ضمن استثمارات تقدر بعشرة مليارات دولار. وأضاف أن النفط السعودي سيُستخدم في المصفاة المزمع إنشاؤها بقيادة شركة أرامكو السعودية. وعلق الفالح قائلا إن السعودية مهتمة أيضا باستخدام منشآت تخزين النفط الكبرى في جنوب أفريقيا، وإن شركة أكوا باور السعودية تتطلع للاستثمار في برنامج جنوب أفريقيا للطاقة المتجددة. ويبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 13.8 مليار ريال في العام 2016، ودعا الوزير السعودي لبذل المزيد من الجهود على كافة المستويات سواء على مستوى الحكومات أو رجال الأعمال، للرفع من حجم التبادل التجاري بين البلدين، وتعزيز الشراكة الاقتصادية، بما يحقق تطلعات الدولتين ومكانتهما الاقتصادية على المستوى الإقليمي والعالمي.
وكان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، قد التقى بالرئيس سيريل رامابوسا على هامش قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين. وقالت المتحدثة باسم الرئاسة في جنوب أفريقيا إن السعودية ستستثمر ما لا يقل عن 10 مليارات دولار في جنوب أفريقيا معظمها في قطاع الطاقة، بما في ذلك بناء معامل للتكرير.
وحقق الميزان التجاري بين البلدين فائضاً لصالح المملكة يقدر بنحو 7.6 مليار ريال عام 2016. حيث بلغت قيمة الصادرات السعودية إلى جنوب أفريقيا خلال هذا العام نحو 10.7 مليار ريال سعودي، بما يمثل نحو 2 في المائة من إجمالي قيمة صادراتها للعالم في العام ذاته. في حين بلغت وارداتها نحو 3.1 مليار ريال سعودي بما يمثل نحو 1 في المائة من إجمالي قيمة الواردات السعودية من العالم في العام ذاته.
وارتفعت قيمة الصادرات السعودية إلى جنوب أفريقيا عام 2016 بمقدار 481 مليون ريال سعودي مقارنة بعام 2015، بينما انخفضت بمقدار 17.1 مليار ريال مقارنة بعام 2012. وارتفع معدل نمو صادرات المملكة إلى جنوب أفريقيا عام 2016 بنحو 4.7 في المائة عن عام 2015.
وبحسب مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية «أونكتاد»، فإن حجم التبادل التجاري بين السعودية ودول أفريقيا في 2014 سجل نحو 18.2 مليار دولار، منها 14.9 مليار دولار صادرات سعودية، و3.3 مليار دولار واردات المملكة، وتواصل هذه الأرقام ارتفاعها خاصة مع زيادة استثمارات المملكة في دول أفريقيا. فعلى سبيل المثال: تجاوز عدد المشروعات الاستثمارية السعودية في إثيوبيا 294 مشروعًا بنحو 3 مليارات دولار، نحو 50 في المائة منها في القطاع الزراعي والإنتاج الحيواني، وتحتل بها المرتبة الثالثة من حيث الاستثمار في إثيوبيا.
وتمتلك أفريقيا موارد طبيعية وبشرية ضخمة، وتطل القارة على معظم الممرات الملاحية العالمية، وهي تمتلك اقتصادات ضمن الأسرع نموًا في العالم، وخاصة منطقة غرب أفريقيا، لذلك أصبحت هي ومنطقة شرق أفريقيا جاذبة بقوة للاستثمار الأجنبي، إذ حققت معدل نمو وصل إلى 5 في المائة، كما أن ستّة من أصل أسرع 10 اقتصادات نموًا بالعالم موجودة في أفريقيا، ومن المتوقع أن يرتفع الناتج المحلي الإجمالي للقارة إلى 29 تريليون دولار في 2050.
وبحسب تقرير مشترك صادر عن منظمة التجارة والتعاون الاقتصادي والبنك الأفريقي للتنمية، فإن التدفقات المالية إلى أفريقيا وصلت إلى نحو 180 مليار دولار بنهاية 2017، بينما كانت في عام 2012 نحو 200 مليار دولار، وذلك خلال فترة انتعاش أسعار الطاقة والمواد الأولية. ويشير التقرير إلى أن الاستثمارات الأجنبية المباشرة بلغت 57.5 مليار دولار، بواقع 11 في المائة من قيمة الاستثمارات الأجنبية.
السعودية وحل الصراعات الأفريقية
من المظاهر الرئيسية لتحركات المملكة العربية السعودية توظيف اقتراب القدرة على التأثير في كثير من الدول من أجل تسوية الصراعات أو تخفيض منسوب حدتها، حيث برزت كثير من النماذج على ذلك خلال السنوات الأخيرة، وفي ساحات مختلفة، وبدا ذلك جليا على الساحة الأفريقية، وذلك بعد أن نجحت المملكة في تسوية واحدة من أعقد القضايا السياسية بين إثيوبيا وإريتريا عبر تسوية القضايا العالقة في مبادرة أشرف عليها الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، لإنهاء صراع تاريخي فشلت أغلب القوى الإقليمية والدولية في المساهمة في تسويته. وقد تبع ذلك تسوية الصراعات المختلفة بين إريتريا وجيبوتي.
أفضى ذلك إلى توقيع رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد والرئيس الإريتري آسياس أفورقي، يوم 16 سبتمبر (أيلول) 2018، اتفاق سلام في جدة. أسهم ذلك في وضع حدٍّ للحرب والتشنجات المستمرة منذ عقدٍ من الزمن بين البلدَين. وفي اليوم التالي، استضافت السعودية أيضًا أول محادثات مباشرة بين إريتريا وجيبوتي بعد نزاعات حدودية مستمرة منذ أكثر من عقد من الزمن، على أثر اتفاق سلام وقّعه البلدان في السادس من سبتمبر الماضي. وقد لقيت الوساطة السعودية ترحيبًا من رئيس جيبوتي إسماعيل عمر جيله الذي صرّح، بأن الدور السعودي أساسي من أجل تطبيع العلاقات بين بلاده وإريتريا.
لم يكن إرساء قواعد للسلام بين إثيوبيا وإريتريا من جهة، ثم إريتريا وجيبوتي من جهة أخرى، سوى حصاد جهود حثيثة ومضنية بدأتها المملكة منذ سنوات خلت، انطلاقا من قناعات راسخة مفادها حتمية سيادة السلام بين الأمم القريبة جغرافيا، ونشر الأمن والأمان، كشرطين رئيسيين لتحقيق التنمية والازدهار، في منطقة عانت ولا تزال من الآثار السلبية للرؤى البرغماتية والإمبريالية للقوى العظمى، والتي لا تقيم وزنا إلا لمصالحها.
وكانت المملكة بدأت علاقة مع تلك المنطقة التي أصيبت بداء الصراعات الأهلية والقبلية من الصومال، الذي قدمت له المملكة وطوال عقدين من الزمن الدعم السياسي والاقتصادي، وبذلت الجهود الحثيثة لإنهاء الحرب الطاحنة الدائرة هناك، الأمر الذي أدى في نهاية المسار إلى توقيع اتفاقية للمصالحة بين الأطراف والأطياف الصومالية المتناحرة عام 2007 في جدة، تحت رعاية الملك عبد الله بن عبد العزيز.
وحسب دراسة حديثة لمركز كارنيغي للكاتبة كاميل لونز، منسِّقة برامج في إطار برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، تأمل إريتريا، التي تسعى إلى الخروج من عزلتها الدبلوماسية، بأن تساهم الهدنة مع جيبوتي في وضع حد للعقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة لأنها لم تسحب قواتها من الحدود المتنازع عليها بين البلدَين. وتعكس السياسات السعودية تصاعد مظاهر الانسجام بين سياساتها ومواقفها وسياسات الكثير من الدول الأفريقية، فقد شاركت إريتريا في التحالف الإسلامي لنصرة الشرعية في اليمن. كما أنها تستضيف قاعدة إماراتية على مقربة من ميناء عصب، وتلقى إريتريا الكثير من الدعم من المملكة السعودية على مستويات مختلفة.
وفيما يتعلق بإثيوبيا الواقعة عند الحدود الجنوبية لإريتريا، فتحتل المرتبة الثانية بين البلدان لناحية أعداد السكان في أفريقيا، كما أنها من الاقتصادات الأسرع نموًا في القارة الأفريقية. بيد أنها تعاني من عدم توفر أي منفذ بحري منذ إغلاق الحدود مع إريتريا في عام 1998، فاعتمدت بالكامل على ميناء جيبوتي. ومن شأن التقارب مع إريتريا أن يؤدّي إلى تجدّد الوصول إلى موانئها، الأمر الذي يمكن أن يعود بمنافع جمة على الاقتصاد في البلدَين، وكذلك بالنسبة لشركائهما الخليجيين.
ومن شأن فتح الحدود بين البلدين أن يفضي إلى تحقيق طفرة في احتياجات البنى التحتية في إثيوبيا وتوليد فرص استثمارية مهمة. وقد أكّد منسّق العلاقات العربية الإثيوبية، جمدا سوتي، أن توقيع اتفاقية السلام بين إثيوبيا وإريتريا في جدة، يمثّل حدثًا فارقًا في تاريخ منطقة القرن الأفريقي، ويعطي دليلاً راسخًا على عمق العلاقات العربية - الأفريقية، وعلى دور المملكة العربية السعودية في نشر قيم المحبة والسلام إقليميًا ودوليًا.
وأوضح سوتي أن توقيع «اتفاقية جدة» والذي تمّ برعاية مباركة من خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، ليس بغريب على قادة المملكة الذين طالما دعموا وساندوا أشقاءهم من شعوب المنطقة، سيما دول القرن الأفريقي التي يربطها بالجزيرة العربية التاريخ والجغرافيا والعلاقات الاجتماعية والثقافية والروابط الروحية والأمن القومي والأهداف الاستراتيجية، لافتًا إلى أن حضور الزعيمين الإريتري والإثيوبي إلى جدة لتوقيع اتفاقية السلام، يُظهر مدى الاحترام الذي تكنه القيادتان لخادم الحرمين الشريفين وولي عهده الأمير محمد بن سلمان.
تعزيز أدوار محور «الاعتدال العربي»
تتحرك المملكة من أجل مصالحها والإقليم الذي تضطلع بأدوار قيادية على ساحته، وذلك بالتنسيق ودعما لمجهودات دول عربية تشاطر المملكة توجهاتها القائمة على تحسين شروط التفاعل السياسي والأمني على مستوى الشرق الأوسط والساحات المجاورة له والمتداخلة معه. وثمة تنسيق سعودي – إماراتي – مصري في هذا السياق. فعلى سبيل المثال، اضطلعت دولة الإمارات بأدوار مساعدة في التوصل لاتفاق السلام بين إثيوبيا واريتريا، وذلك في توجه يهدف إلى بسط الاستقرار في المنطقة، والتوسط من أجل السلام في البحر الأحمر والقرن الأفريقي.
وقد رحبت مصر بالتوقيع على اتفاقية جدة، مثمنة الجهود المقدرة لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز في رعاية الاتفاق. وأكد بيان صادر عن الخارجية المصرية، أن توقيع الاتفاق يمثّل تطورًا مهمًا في منطقة القرن الأفريقي والقارة بأكملها، لما ينطوي عليه من إنهاء وتسوية للنزاع بين البلدين. هذا فيما قال جمدا سوتي، منسّق العلاقات العربية الإثيوبية: «يرى الجميع التكامل الواضح في مواقف ورؤى ومبادرات المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات في المنطقة، إذ أصحبت دول القرن الأفريقي تنعم الآن بالسلام والاستقرار بفضل رعايتهما».
وقد تسلمت مصر في بداية فبراير (شباط) الماضي رئاسة الاتحاد الأفريقي، وسط تفاؤل ودعم كبير ليس وحسب من قادة الدول الأفريقية، ولكن أيضا من المملكة العربية السعودية، لما لها من ثقل ووزن استراتيجي على الساحة الأفريقية، وكذلك دولة الإمارات. وتخدم الاستراتيجية السعودية حيال أفريقيا ليس وحسب المصالح السعودية العليا، وإنما المصالح العربية أيضا، سيما بعد أن أعادت مصر مؤخرا إلى النظر في توجه سياساتها الخارجية نحو أفريقيا بعد فترات من التهميش والفتور، وربما التوتر، بما يحقق المصالح المصرية والعربية والأفريقية، ويدعم التوجه السعودي القيادي الهادف إلى تعزيز العلاقات مع دول الجوار الأفريقي كافة، لدعم تحقيق التنمية المستدامة بالقارة.
التطورات التي تشهدها العلاقات المصرية – الأفريقية، ربما تكون أحد محركاتها سياسات السعودية حيال أفريقيا. ورئاسة مصر للاتحاد الأفريقي تعتبر المرّة الأولى في تاريخها، على رغم كونها دولة مؤسسة لمنظمة الوحدة الأفريقية في الستينات وبعد تحولها إلى الاتحاد الأفريقي في العام 2002. بما يؤكد أهمية الحدث التاريخي الخاص بتسلم مصر رئاسة القمة، وبما يؤكد عودة مصر لمكانتها في أفريقيا، سيما بعدما أضحى الاتحاد الأفريقي أحد أهم التكتلات والمنظمات الإقليمية على مستوى العالم.
وفيما يتعلق بالجانب الاقتصادي، فقد أعلن سامي العبيدي، رئيس مجلس إدارة الغرف التجارية بالسعودية، عن إطلاق مبادرة لعمل شراكة مصرية - سعودية تستهدف الأسواق الأفريقية للاستفادة من الاتفاقيات التجارية التي تتمتع بها مصر، لافتًا إلى أن المبادرة ستكون بالتنسيق بين الغرف التجارية المصرية ونظيرتها في السعودية. وقد قدم إلى مصر وفد يضم نحو 100 شركة سعودية لإجراء مباحثات مع شركات مصرية بهدف تنفيذ مشروعات مشتركة في القارة الأفريقية إضافة إلى استغلال الفرص الاستثمارية المتاحة في الكثير من البلدان الأفريقية.
المملكة ومجابهة التهديدات الإقليمية
أظهرت المملكة اهتمامًا بالقارة الأفريقية لواقع ارتباطها بالاهتمامات السعودية الرئيسية الخاصة بتعزيز المكانة ومواجهة التهديدات التي تنتج عن سياسات الكثير من دول الجوار الإقليمي، سيما القوى التي تدعم الجماعات الإرهابية، سواء على الساحة اليمنية أو على الساحات العربية الأخرى، وكذلك تأمين الملاحة في البحر الأحمر وباب المندب. وارتباطًا بذلك، حرصت السعودية على توقيع اتفاقات تعاون مع معظم دول المنطقة في مجالات عدة، باعتبارها تمثل من وجهة نظرها المنطلق الواقعي لتحقيق أهدافها ومصالحها، سيما في ظل السياسات الإقليمية والدولية الساعية إلى تعزيز الحضور والنفوذ في القارة الأفريقية.
وثمة توجه من قوى دولية والكثير من الدول الإقليمية إلى ترسيخ نفوذها في منطقة القرن الأفريقي وعلى ساحل البحر الأحمر، وذلك على نحو استوجب العمل على مجابهة التهديدات التي ترتبت على ذلك، سيما تلك التي تتعلق بالتوجهات الإيرانية لدعم الجماعات الإرهابية، سواء على ساحة الشرق الأوسط أو داخل الكثير من البلدان الأفريقية.
وحسب دراسة مركز كارنيغي (Carnegie endowment)، ففي سياق السباق على النفوذ، شكّل القرن الأفريقي مسرحًا للخصومات المتزايدة بين الكثير من القوى الإقليمية. وقد تنامي الدور السعودي في منطقة القرن الأفريقي كما تصاعد التنسيق المصري - السعودي - الإماراتي على الساحة الأفريقية. أسهم ذلك في تعزيز الأمن الإقليمي، وتأكيد حضور المملكة وريادتها على الساحات الإقليمية والدولية ودعم مصالحها ونفوذها على الساحة الأفريقية، بما خفف من حدة التهديدات المرتبطة بسياسات دول الجوار الجغرافي. فضلا عن تحقيق التنمية المشتركة وفق مبدأ الربح للجميع، والسعي لاستخدام الاستثمارات والعلاقات السعودية المتنامية مع دول القرن الأفريقي كأحد أوراق الضغط لتحقيق المصالح العربية.
ومن المرجح أن يكون لهذا التعاون دور في الحد من تنامي أدوار القوى الإقليمية المنافسة والقوى الغربية بتلك المنطقة الحيوية للأمن القومي السعودي والخليجي والعربي من خلال تشكيل نواة لوضع استراتيجية عربية موحدة لمواجهة الدور الإيراني وغيره وتأمين مضيق باب المندب الذي يتحكم بخطوط الملاحة عبر البحر الأحمر وقناة السويس.
السعودية والدور التنموي و«الإنساني» في أفريقيا
تعد المملكة العربية السعودية إحدى أكثر الدول عبر العالم تقديما للمساعدات الإنسانية والإنمائية، سيما على الساحة الأفريقية، فالسعودية تقدم الدعم الغذائي، للاجئين والنازحين من دول القارة السمراء، خصوصًا الصومال والسودان، من خلال الصندوق السعودي للتنمية. وفي ديسمبر (كانون الأول) الماضي قال وزير الدولة للشؤون الأفريقية بالمملكة أحمد قطان، إن المملكة العربية السعودية كانت من أوائل الدول التي ساهمت في تعزيز الأمن والاستقرار في دول الساحل الأفريقي. وأضاف أن المملكة العربية السعودية تبرعت عام 2017 بنحو 100 مليون دولار، لمكافحة التنظيمات الإرهابية ولدعم التنمية والاستقرار في دول الساحل الأفريقي.
وأشار إلى أن مركز الملك سلمان للأعمال الإنسانية قام بتخفيف معاناة من تعرضوا للعمليات الإرهابية في هذه الدول، مشيرا إلى أن الصندوق السعودي للتنمية قام منذ إنشائه بتقديم القروض لإقامة المشاريع الإنمائية في دول الساحل الأفريقي، حيث بلغت هذه القروض ما يتجاوز المليار دولار. وأكد أن العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز، وجه بتخصيص 100 مليون دولار، أخرى لمكافحة الإرهاب، وأمر بأن يخصص نصف هذا المبلغ للمشاريع التنموية في دول الساحل الأفريقي. وأعلن البيان الختامي لمجموعة الساحل الخمس حصول القوة المشتركة للبلدان على أعلى دعم مقدم من طرف المملكة العربية السعودية بمبلغ 50 مليون دولار.
التوعية الدينية على الساحة الأفريقية
راهنت المملكة على قدرتها في مواجهة سياسات بعض دول الإقليم التي تنزع إلى دعم الجماعات الجهادية والتيارات العنيفة على الساحة الأفريقية، واتبعت في ذلك استراتيجيات تقوم بالأساس على دعم الاعتدال والوسطية عبر مبادرات كثيرة عكست الاستراتيجيات الاستباقية للحد من تنامي الفكر المتطرف على الساحة الأفريقية. وفي هذا السياق أكد عدد من علماء أفريقيا في منتصف يناير (كانون الثاني) 2019 أن المملكة العربية السعودية تمثل المرجعية الروحية والعلمية للمسلمين، جاء ذلك خلال لقاء جمعهم بالأمين العام لرابطة العالم الإسلامي الدكتور محمد بن عبد الكريم العيسى. وعبر العلماء عن تقديرهم لهذا الحضور الإسلامي والإنساني الكبير في بعده الحضاري لرابطة العالم الإسلامي، مؤكدين أن المملكة العربية السعودية تمثل المرجعية الروحية والعلمية للمسلمين.
وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2018 نوه اتحاد علماء أفريقيا بالدور الريادي الذي تقوم به المملكة العربية السعودية في نصرة الحق والدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية وتحقيق الأمن والسلم الدوليين. واستنكر الاتحاد في بيان له ما يدور في الإعلام من سعي لاستثمار لبعض الأحداث للنيل من المملكة العربية السعودية وإضعاف مكانتها ودورها في العالم الإسلامي.
وأكد رئيس اتحاد علماء أفريقيا الدكتور سعيد برهان عبد الله وقوف وتضامن الاتحاد برئيسه وأعضائه المنتشرين في أفريقيا كافة، مع المملكة بقيادتها الحكيمة في كل مواقفها العادلة في دفاعها عن مواقفها وسيادتها لتبقى قوية وحصينة وتؤدي دورها الريادي في نصرة الحق والدفاع عن قضايا الأمة الإسلامية وتحقيق الأمن والسلم الدوليين، سيما أن المملكة العربية السعودية كانت ولا تزال تؤدي دورًا بارزًا في تحقيق أمن واستقرار ورخاء المنطقة العربية والأمة الإسلامية والعالم.
وقال: «إن المملكة برعايتها الدائمة لمقدسات المسلمين وخدمتها الفائقة لضيوف الرحمن، تحظى باحترام وتقدير المسلمين جميعًا ونالت حبهم وتقديرهم، وإن الجميع يشهدون بجهودها الدءوبة للقضاء على التطرف والغلو.
وشدد رئيس اتحاد علماء أفريقيا على أن الهجمات الشرسة التي توجه إلى المملكة والتهديدات المتكررة التي تجابهها لن تؤثر في هذه الدولة المباركة، وستبقى ثابتة عزيزة كعادتها مهما كانت الظروف ومهما تكالبت الضغوط لأنها تهتدي بشرع ربها.
إن المملكة حينما تتحرك نحو تعزيز الوسطية والاعتدال وتحقيق الأمن الفكري، إنما تستهدف أيضا مواجهة السياسات التي تتبناها طهران لنشر «التشيع السياسي»، والعمل على تشكيل جماعات مذهبية متمايزة عن محيطها.
وفي هذا الإطار، تشير اتجاهات دولية إلى أن طهران توجهت خلال السنوات الخالية إلى نشر مراكز ثقافية أحادية الفكر. لم يأت ذلك في إطار السعي وحسب لبث الطائفية، بل شمل أيضا محاولات لتأسيس أذرع عسكرية. ويُذكر في هذا السياق «حزب الله» النيجيري، الذي يعد من أكبر مناصري فكر الثورة الإيرانية، وبسبب ذلك دخل في صدامات كثيرة مع الدولة، في محاولات لإرساء قواعد نظام ولاية الفقيه في نيجيريا.
شراكات عسكرية سعودية على الساحة الأفريقية
شهدت القارة الأفريقية ما يمكن أن يُطلق عليه «حرب القواعد العسكرية» في الشرق الأوسط وشرق أفريقيا، سيما في ظل القواعد العسكرية الأميركية والفرنسية، والصينية، واليابانية، والإيطالية في جيبوتي، علاوة على القاعدة الإيرانية في إريتريا. وتوجد الإمارات العربية المتحدة بدورها على عدة موانئ في بحر العرب والبحر الأحمر، كما تمركز الجيش التركي في الصومال، لكنه فشل عند محاولته في جيبوتي، والتي تضم قواعد لفواعل دولية كبرى.
ويمثل البحر الأحمر الممر الاقتصادي الأهم في العالم. وخلال الأعوام القليلة الماضية بات السباق محموما على البحر الأحمر الذي يعتبر ممرا لنحو 3.3 مليون برميل من النفط يوميا، كما أنه يشكل المعبر الرئيسي للتجارة بين دول شرق آسيا، سيما الصين والهند واليابان مع أوروبا. وبالإضافة للدول الإقليمية المطلة على البحر الأحمر (الأردن، ومصر، والسعودية، والسودان، وإريتريا، والصومال، واليمن، وجيبوتي، وإسرائيل) دخلت قوى دولية وإقليمية على خط النفوذ في البحر.
لذلك، فالتحرك السعودي في هذا التوقيت يأتي في إطار عمليات إعادة التموضع التي تتبناها المملكة خلال السنوات الأخيرة على ساحات الجوار الجغرافي. وقد شمل ذلك تشكيل لجنة عسكرية مشتركة بين السعودية وجيبوتي، والتي تشكلت بعد انطلاق عملية عاصفة الحزم، فضلاً عن تقديم المملكة دعمًا عسكريًا لجيبوتي، التي حصلت على صفقة من الزوارق الحربية لإحكام مراقبة السواحل، وكذا السودان، بالإضافة إلى إجراء المناورات المشتركة: ومن أهمها مناورات «رعد الشمال»، التي نظمتها السعودية في منطقة حفر الباطن، بمشاركة عشرين دولة، منها من دول القرن الأفريقي السودان وجيبوتي، علاوة على الاتفاق بين السعودية وإريتريا في مجال محاربة الإرهاب والتجارة غير المشروعة والقرصنة في البحر الأحمر.
وتسهم التحركات السعودية في تعزيز الأمن الإقليمي والبحري بمضيق باب المندب، والحد من عمليات القرصنة وتحرك وتنقل المجموعات الإرهابية عبر البحار، وأيضًا السيطرة على عمليات تهريب السلاح إلى اليمن أو مناطق الصراع في الشرق الأوسط. وأسهمت التحركات السعودية في إحباط مخططات الحرس الثوري الإيراني الخارجية، والذي زرع خلايا إيرانية فاعلة ونشطة، تنطلق من القرن الأفريقي؛ لتلعب دورًا محوريًا في تطبيق المشروع الإيراني الرامي لنشر الفتنة والفوضى والطائفية في المنطقة العربية.
وعلى جانب آخر، سعت المملكة إلى إبرام صفقات تسلح مع كبريات شركات إنتاج السلاح في جنوب أفريقيا وحتى شراء حصص في شركة «دينيل» الدفاعية الحكومية، وأيضا استيراد تكنولوجيا الدفاع لتوطين الصناعات العسكرية المحلية في المملكة، بحسب ما أعلنت الشركة السعودية للصناعات العسكرية.
وتسعى السعودية، والتي تعد ثالث أكبر منفق في العالم على قطاع الدفاع، للدخول في شراكات لتطوير صناعة الدفاع المحلية وتستهدف توجيه نصف إنفاقها العسكري إلى مصادر محلية بحلول عام 2030.
وكان الوزير أحمد بن عبد العزيز قطان، وزير الدولة السعودي لشؤون الدول الأفريقية، قد أشار إلى توجه المملكة لعقد قمة سعودية - أفريقية للمرة الأولى، لتعقد قبل القمة العربية - الأفريقية المشتركة. ويبدو في هذا السياق أن المملكة العربية السعودية، وإن كانت تأخذ في حسبانها نمط التحركات الإقليمية وما تفضي إليه من تهديدات، فإنها على جانب آخر تؤسس تحركاتها المكثفة حيال العمق الأفريقي على طبيعة الأدوار الدولية المنوطة بالمملكة ذاتها.