[caption id="attachment_55232677" align="aligncenter" width="620" caption="ليبيون يتظاهرون ضد نهب خيرات الشعب الليبي بعد الثورة"][/caption]
من روائع اللغة العربية احتواؤها على الفعل القاموسي غير المستخدم (قَمِرَ). فالبيئة العربية ليست بيئة ثلجية حتى يتوفر فيها مثل هذا المعنى.
وهذا الفعل الساحر الذي تفوق مادته الثلاثين معنى، من معانيه اضطراب العين وتحيّرها. نقول مثلا: قمرت عينا فلان. أي تحيرتا من شدة بياض الثلج. ونقول: قَمِرَ الرجلُ يَقْمَرُ قَمَراً أي: حار بصره في الثلج فلم يبصر.
فالقَمَرُ إذا هو: تَحَيُّرُ البصرَ من الثلج.
اندثر هذا الفعل وعوض بجملة طويلة مملة.
احتفظ العرب بلغتهم في القواميس وظلوا ينظرون إليها في تحسر، ولا يحركون ساكنا. الغريب في الأمر أن الأقوام الأخرى الذين اندثرت لغاتهم أو تكاد تندثر، لا يألون جهدا في إحيائها من جديد، بينما تمكن العبرانيون فعلا من إحياء لغتهم القديمة، وهم يستخدمون الآن مفرداتها الموغلة في القدم.
شيء مذهل في أمة تشاهد لغتها تتوارى، وفي كل بلدانها وزارة تسمى وزارة الثقافة. وكثير من دولها فيها مجمع يسمى المجمع اللغوي؟!
لكن ما علاقة العنوان بالموضوع الذي أتحدث عنه؟!
ما دعاني لهذا، هو أن الحديث ذو شجون، فالفعل قَمر له علاقة من بعيد أو من قريب بالفعل (جمد).
كلا الفعلين له علاقة بالصقيع. وأحببت هنا أن أضرب (طائرين) بحجر واحد. أن أنبه عن ضياع فعل. ثم ضياع أموال.
[caption id="attachment_55232678" align="alignleft" width="201" caption="أموال الشعب ذابت كما ذابت الثلوج التي سقطت أخيرا على ليبيا"][/caption]
ومثلما اندثر الفعل (قمر) ذابت أموال ليبيا. لكن كيف ذابت الأموال، أو من الذي ذوّبها؟! لا أحد يعرف! حتى وزير المالية الليبي حسن زقلام لا يعلم من أمرها شيئا. فهو إذا وزير بلا وزارة. وهذا أمر غريب جدا أن لا يعلم وزير المال ما في خزانته. ما الذي دخل إليها، وما الذي خرج منها. لكن الوزير يعرف أن الأموال دخلت إلى وزارته من أبوابها المشرعة، وهو الذي طالب وبقوة بأن يرفع التجميد عن أموال ليبيا في الخارج، حتى تمكن من إحراز هذا الهدف، والأموال الآن سائلة وجاءت كميات كبيرة منها إلى ليبيا، من أصل 200 مليار دولار على حد قول الوزير، إلا أنه لا يعلم كيف خرجت الأموال من نوافذ وزارته الخلفية. ولا يعرف من نهبها وكيف خرجت من دون توقيع الوزير، الذي صرح أنه لن يكون (طرطورا) وهو يشاهد «أموال بلده تهرب من المنافذ البرية والبحرية والجوية». وهو كلام لا يستجلب ذاهبا ولا يرد مقضيا.
يقول زقلام إن «امام الشعب الليبي خيارين لا ثالث لهما: اما ان تسيطر الحكومة على المنافذ كافة، واما ان تطلب من مجلس الأمن أن يجمد الأموال الليبية من جديد». بل إنه احتد قائلا: «لا يشرفني العمل في هذا المكان، لأنه خيانة لليبيا، وانا نادم على مطالبتي بالتسريع بالإفراج عن أرصدة ليبيا في الخارج (200 مليار دولار)، لأن الجزء السائل الذي وصل منها جرى تهريبه الى الخارج، واصبحت ليبيا محطة عبور فقط لهذه الأموال».
تصريحات الوزير زقلام جريئة، وتنم عن إخلاص وحرص، لكنها ليست ذات جدوى، ما لم تتبعها أفعال تشير إلى السارق بوضوح، ومن دون مواربة. فإذا عرف الوزير أن الأموال تهرب، فإنه يعلم جيدا من هم المهربون.
لقد كانت أموال ليبيا تذهب علنا إلى فيافي الأرض وحتى قفارها، ولا يعرف أحد مصيرها، وكان هناك احتقان شديد انتاب كل مناطق البلاد، مرده أن الأموال تخرج من البلد الذي أهمل إهمالا كليا في بنيته التحتية، ولا تعود إليه. وظف جزء منها لقلب الأنظمة وإثارة القلاقل في ربوع الأرض. ووظف آخر لـ(التبشير) بالكتاب الأخضر، وتجنيد أتباع له. وجزء ثالث كُرس للرشى والملذات. ونتج عن هذا الاحتقان ما نتج! فهل هذا البلد يحتمل احتقانا ثانيا؟!
السيد الوزير لم يكن حازما في القضية. لقد كان حازما في المطالبة بتسريع الإفراج عن الأرصدة المجمدة، ولكنه كان مرنا جدا في توقيعاته بصرف هذه الأموال.
فلماذا لا يوقفها الوزير، ويصرخ ويبلغ الانتربول، ويشير إلى من يقوم بتهريب هذه الأموال، لأن المال أتى عن طريق التحويلات من البنوك الخارجية إلى وزارة المالية الليبية، وهي وحدها التي تسمح بخروجه للوزارات والمؤسسات والهيئات بعد تسليم واستلام. فكيف خرجت هذه الأموال ومن هربها؟!
فهل استرعى الليبيون أموالهم القمر؟!
هذا أيضا من معاني الفعل قمر، فقد كانت العرب تقول: اسْتَرْعَيْتُ مالي القَمَرَ. إِذا تركته هَمَلاً بلا راع يحفظه.
للتسجيل في النشرة البريدية الاسبوعية
احصل على أفضل ما تقدمه "المجلة" مباشرة الى بريدك.