هل أنقذ الربيع العربي الدولار الأمريكي؟

هل أنقذ الربيع العربي الدولار الأمريكي؟

[caption id="attachment_55232350" align="aligncenter" width="620" caption="أزمة اقتصادية خانقة في تونس.. تخفيضات في المحلات التجارية في محاولة لانعاش السوق"]أزمة اقتصادية خانقة في تونس.. تخفيضات في المحلات التجارية في محاولة لانعاش السوق[/caption]

مأساة "العمّ بشير".. هي مأساة مئات التونسيين الذين فقدوا كل شيء بفعل الحرق والنهب والسرقة التي طالت البلاد من أقصاها الى أقصاها، بخاصة في الأيام القليلة التي أعقبت هروب زين العابدين بن علي من تونس في 14 يناير 2011 تاركا خلفه الفوضى وغياب الأمن وقانون الغاب.
بعد أكثر من سنة على "الثورة"، كثيرون هم الذين مازالوا ينتظرون التعويضات، البعض لم يخسر متجرا صغيرا في حي شعبي فقط بل فقد استثمارت بمئات آلاف الدينارات كانت مصنعا أو معملا للمواد الكهربائية أو الملابس الجاهزة يشغّل عشرات بل مئات العمال فقدوا جميعهم مصادر رزقهم وانضموا لقافلة العاطلين عن العمل في انتظار حلول وطنية لم تأت ومساعدات دولية لن تأتي.

الى جانب البطالة التي ارتفعت نسبتها بفعل هروب الاستثمارت الخارجية وخوف المستثمر الوطني من "المقامرة" وتواصل الاضرابات والاعتصامات فقد شهدت السلع الاستهلاكية في تونس غلاء كبيرا أثار سخطا واسعا لدى المواطنين.
بعد سقوط النظام تعلقت آمال التونسيين على تحسّن قدرتهم الشرائية، لكنهم فوجئوا بغلاء المعيشة فزادت أسعار الخضر والغلال والمياه المعدنية واللحوم بأنواعها، فيما انتعشت السوق السوداء بسبب اختفاء بعض السلع الغذائية المدعمة من الدولة مثل السكر والزيوت النباتية.

وقد أظهرت بيانات المعهد التونسي للاحصاء ارتفاع مؤشر الأسعار عند الاستهلاك العائلي في تونس إلى مستوى 5.7 في المائة منذ بداية العام الحالي وهو ما يعد أعلى مستوى لارتفاع الأسعار منذ 6 سنوات.
ووفقاً لما أوردته وكالة الأنباء السعودية "واس"، فقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 9 في المائة والطاقة بـ 8.1 في المائة والنقل بنسبة 4.7 في المائة فيما سجلت منتجات الملابس 3 في المائة وهي أقل نسبة ارتفاع خلال يناير الماضى.

وارتفع مؤشر كلفة أشغال صيانة و ترميم المنازل بنسبة 6.6 في المائة (إلى 14.9 في المائة) كما ارتفعت أسعار الإيجار في تونس إلى موفى شهر أوت الفارط بنسبة 4.6 في المائة.
ويرجع مراقبون هذا النسب الى ارتفاع أسعار مواد البناء وتزايد الطلب على البناء وتراجع العرض بفعل الاعتصامات التي أثرت على نسق إنتاج الإسمنت وازدهار السوق السوداء والمتاجرة بمواد البناء خاصة علاوة على تنامي ظاهرة البناء الفوضوي وانعدام رخص البناء (سعر الإسمنت قفز من 5.8 دنانير العام الماضي إلى حوالي 12 دينارا للكيس الواحد حاليا - 4.3 دولارات إلى 8.8 دولارات).

خسائر بالجملة



بعد عام من الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت شرارتها من تونس لتشمل مصر وليبيا مرورا باليمن وسوريا وأطاحت بحكام اربعة منها، فشلت التحولات السياسية في معالجة الضائقة الاقتصادية التي تعيشها تلك البلدان.
البعض أمام تحول الثورات الى "ثورات مفلسة" تنتظر المعونة الخارجية وأمام الأزمة الاقتصادية العالمية التي تهدد اقتصادات كبيرة في أوروبا لم يصلها "حريق البوعزيزي"، طرح تساؤلا حول دور الأحداث السياسية في بلدان "الربيع العربي" في دعم الدولار الأميركي.
هل فعلا، ساهمت "الثورات العربية" في انقاذ العملة الأميركية وعودة الاستقرار للاسواق العالمية المضطربة اصلا بفعل ازمة اليورو؟.. تساؤل ليس وقته لكن بالتأكيد يستحق إجابة.




اختلفت التقديرات في شأن الفاتورة الاقتصادية لدول الربيع العربي، وتتراوح الخسائر حسب دراسات وتصريحات مختلفة ما بين 75 و100 مليار دولار حتى بداية العام الحالي، اضافة إلى ارتفاع نسبة البطالة إلى مستويات قياسية.
وأدى الربيع العربي إلى تعطل العديد من المشروعات وانسحاب معظم المستثمرين الأجانب، وانخفاض حجم الاستثمارات الأجنبية في المنطقة العربية، حسب خبراء مصرفيين بنحو 83 في المائة، إلى أقل من 5 مليارات دولار، وذلك لتعطل دورة الإنتاج في عدد من تلك البلدان، ما أثر في حجم الصادرات، وتراجع السياحة إلى أدنى مستوياتها، وارتفاع البطالة والنقص الحاد في الوارد من العملات الأجنبية.

تداعيات اقتصادية



مصر من أكثر الدول المتضررة، فالازمة ادت لتراجع احتياطي البلاد من العملات الاجنبية بنحو 50 في المائة وفقا لبيانات البنك المركزي المصري، رغم انه قلل من مخاطر تراجع تلك الاحتياطيات ويزعم انها لا تزال في الحدود الآمنة، فيما يرى بعض الخبراء غير ذلك.
يرى "عبد القادر ورسمه غالب" المستشار القانوني ومدير دائرة الشؤون القانونية في بنك البحرين الكويت أن الاقتصاد المصري على المدى الطويل يواجه مشكلات حقيقية، نظرا لان مصادر الدخل كلها تعتمد على عوامل خارجية أهمها المعونة الأمريكية ومداخيل قناة السويس والغاز والسياحة ومعدلات الاستثمار التي تعتمد على دول الخليج وبعض الدول الاوروبية.

واشار الخبير الاقتصادي في تصريح لـ"المجلة" أن هذا التراجع هو نتيجة لخروج الأجانب من الاستثمار في أذون وسندات الخزانة المصرية، فضلا عن سحب الاموال المستثمرة بالبورصة، وايداعها لدى البنوك الاجنبية في الخارج.
وتوقع ورسمه أن تستمر الأزمة الاقتصادية لمدة خمس سنوات، وقال: "الوضع الاقتصادي اصبح في مرحلة ضبابية، بخاصة وأن الجنيه المصري فقد نحو 3,8 في المائة من قيمته منذ اندلاع الثورة، ولم يشهد تعافيا وذلك لغياب استراتيجية قصيرة المدى لمعالجة تداعيات الاقتصاد".

وتقدر القيمة الاجمالية للاقتصاد المصري بنحو 217 مليار دولار، لاعتماده على 4 مصادر فقط، لكنه يواجه تحديات ضخمة في مقدمها اتساع رقعة الفقر وزيادة التضخم وارتفاع البطالة التي نحو 15 في المائة.

ووفقا لمسح اجراه معهد السلام الدولي ومقره نيويورك في سبتمبر "ايلول" الماضي، فان ما يقرب من ثلثي المصريين يرون أن معالجة الازمة الاقتصادية هو التحدي الأكبر في البلاد.
ويشير التقرير إلى أن المساعدات التي تعهدت بها الدول الغربية لم تصل حتى الان، وقد نمت المدخرات بالعملات الأجنبية وسط المواطنيين تحوطا من انهيار الجنيه المصري، مما ادى لارتفاع تكاليف الاقتراض الحكومي.

يذكر أن الاقتصاد المصري كان يعاني من تداعيات الأزمة المالية العالمية قبل ثورة 25 يناير حيث وصل انخفاض معدلات النمو في نهاية 2010 نحو 4.7 مقابل 7.2 في عام 2009.
وقال تقرير صادر من وزارة التنمية الاقتصادية حول مؤشرات العام المالي 2009 – 2010 أن القطاعات التي كانت أكثر تأثرا بالأزمة هي قناة السويس التي حققت انخفاضا بلغ نحو 7.2 مقابل نسبة نمو 16 في المائة عام 2008، تلاه قطاع السياحة حيث بلغ معدل نسبته 3.1 مقابل 21 في المائة، وقطاع الصناعات التحويلية حيث حقق نموا لا يتجاوز 4.2، في حين انخضفت تحويلات العاملين في الخارج ما يقرب من مليار دولار.




واشار التقرير إلى زيادة معدل البطالة إلى 9.4 عام 2009 – 2010 مقابل 8.4 عام 2008، إلا أن التضخم انخفض إلى 9.4 خلال نفس العام وبلغ اجمالي الناتج المحلي الاجمالي 1.4 تريليون جنيه مصري.
عجز موازنة
بالعودة الى "مهد الثورات".. يبلغ حجم الاقتصاد التونسي 44.29 مليار دولار، وتبلغ نسبة البطالة 13 في المائة، وتشير البيانات الأولية إلى أن الاقتصاد التونسي نما في حدود 0.2 في المائة في بداية العام 2011 مع اندلاع الثورة، وبلغت احتياطات البنك المركزي التونسي 9 مليارات دولار، في حين بلغت نسبة الديون إلى الناتج المحلي الاجمالي 39 في المائة بنهاية 2010 مقارنة مع 55.6 في 2003.

قبل سقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي، كان متوقّعاً أن يصل النمو الاقتصادي في تونس لعام 2011 إلى 5.4 في المائة، وألا يتجاوز العجز في الموازنة 2.5 في المائة من الناتج المحلي الاجمالي، وأن تظل نسبة الدين العام دون 40 في المائة.
منذ اندلاع الثورة تراجعت السياحة التي تعّد أكبر مزوّد للنقد الاجنبي في تونس بنسبة بلغت 50 في المائة، وتقلصت الاستثمارات الأجنبية حوالى 20 في المائة، وأغلقت العديد من المصانع أبوابها، مما ساهم في زيادة عجز الموازنة، وتخفيض التصنيف السيادي وارتفاع كلفة الحصول على قروض، إلى جانب الاثار الجانبية للثورة الليبية وتداعيات أزمة اليورو.

وبعد الاطاحة بالرئيس بن علي منذ أكثر من عام، فقد الدينار التونسي قيمته، وقال محافظ البنك المركزي مصطفى كمال النابلي في مقابلة على هامش المنتدى الاقتصادي في دافوس بسويسرا، في 27 يناير الماضي أن عجز ميزان المدفوعات بلغ نحو 7 في المائة، وتراجع الناتج الاقتصادي نحو 3.9 في المائة.

تراجع الاحتياطيات



في ليبيا قال صندوق النقد الدولي انه منذ اكتوبر "تشرين الأول" الماضي فقد الدينار 20 في المائة من قيمته مقابل الدولار بسبب عدم قدرة البنك المركزي الحصول على العملات الاجنبية بسبب توقف تصدير النفط.

وكان المركزي الليبي يقدر الاحتياطيات الأجنبية في مارس "آذار" الماضي بما يقرب من 130 مليار دولار، بينما أشارت تقارير في ذلك الوقت إلى أن نظام القذافي لديه ما قد يصل إلى 110 مليارات دولار، تمكنه من التواصل في القتال من دون الاعتماد على تسويق النفط الليبي لعدة أشهر نظرا للعقوبات المفروضة عليه، لكن نظام القذافي لجأ إلى بيع ما يقرب من خمس احتياطي الدولة من الذهب ليتمكن من الإنفاق على الحرب للبقاء في الحكم.




وشكل سقوط نظام القذافي فرصة تاريخية لبناء الاقتصاد الليبي على دعائم صلبة تتسق والامكانيات الطبيعية وتحقيق تنمية حقيقية، بخاصة وأنه منذ عام 1969 عانت ليبيا من المركزية المفرطة للسلطة ومن غياب الشفافية في إدارة عائدات النفط.
ووضع الصندوق الدولي رجوع الإنتاج النفطي شرطا أساسيا لإعادة بناء البلاد وإنعاش اقتصادها بعد حرب أهلية استمرت ثمانية أشهر، لكنه حذر من أن الأوضاع المالية مازالت متذبذبة، وتوقع الصندوق تعافي النشاط الاقتصادي الليبي بعد عودة الاستقرار المفقود مع زيادة إنتاج النفط وانحسار أزمة السيولة التي تعاني منها الحكومة في الفترة الراهنة.

ورسم التقرير صورة قاتمة عن الاقتصاد الليبي وقال إن "الناتج المحلي الاجمالي انكمش بنسبة كبيرة بلغت 60 في المائة في عام 2011 مع تراجع انتاج النفط الخام الى 22 ألف برميل يوميا في يوليو "تموز" 2011 من 1.77 مليون برميل يوميا في 2010"، وهذا أثر بقوة على الإقتصاد الليبي لاعتماده بصورة اساسية على ايراداته النفطية لسد التزاماته.

وما يزيد من الأزمة الاقتصادية لدول الربيع العربي في السنوات المقبلة التوقعات بتعمق أزمة الديون الاوروبية، وأزمة الاقتصاد الأميركي ما ينعكس سلباً على اقتصادياتها نظراً لتراجع الانتاج المحلي، وحركة السياحة وتعقيد آليات الحصول على مساعدات وقروض.
وحول فرضية انقاذ الدولار بسبب الربيع العربي يقول مختصون في مجال الاقتصاد أن ذلك غير صحيح لان عملات الدول التي تاثرت بالتغيرات السياسية تراجعت عملاتها المحلية أمام الدولار، ولا يعد ذلك في صالح الدولار المتهاوي.

خسائر اضافية



يرى كثير من الخبراء الاقتصاديين أن الدولار تأثر بالسياسة الأميركية، حيث تم توجيه سياسة البنك الفيدرالي النقدية ليس لحماية الدولار وانما لتنشيط الاقتصاد الأميركي وحمايته من التعرض لركود محتم بخاصة بعد أزمة القروض في السوق الأميركية في عام 2008 والتي أدت إلى تراجع الكثير من المؤسسات المالية عن تقديم التسهيلات الائتمانية خوفاً من تحقيق خسائر إضافية.

هذه السياسة اثرت على أداء الاقتصاد الأميركي بشكل مباشر، ومن ثم اضطر البنك الفيدرالي إلى خفض أسعار الفائدة على الدولار ما تسبب في تهاوي قيمته، اضافة إلى أن الدولار الضعيف في مقابل العملات الأخرى سيفتح مجالاً أكبر للصادرات الأميركية لتدخل الأسواق العالمية بسبب انخفاض سعرها المقوم بالدولار، وبالتالي ما حدث في دول الربيع العربي هو تراجع عملاتها المحلية أمام الدولار وهذا لا يؤدي إلى ارتفاع العملة الاميركية أمام العملات الاخرى.

ويرى خبراء أن اقتصاديات دول الربيع العربي تتأثر بالأزمة العالمية ومن ضمنها الدولار الضعيف، ففي الحظة الحالية فإن الدولار كقيمة لم يتأثر سلبا أو ايجابا بما حدث، لان سعر صرف الدولار في مصر عام 2010 وصل إلى 6.5 في المائة، وحاليا وصل سعره نحو 6.1 في المائة.
عودة الدولار إلى سابق مجده هي عملية صعبة نظرا لان ذلك يتطلب معالجة العجز التجاري الأميركي القياسي، وعجز الموازنة، اضافة إلى ضرورة رفع سعر الفائدة على الدولار إلى مستوى 0.6 تقريباً، وهذا مستحيل في الوقت الراهن لتداعياته على الاقتصاد الأميركي والعالمي.


font change