* وجدت رسائل المملكة صدى واسع النطاق تجسد في الحفاوة البالغة والاستثنائية التي قوبلت بها زيارة ولي العهد السعودي
* قرقاش: المتابع لزيارات الأمير محمد بن سلمان التاريخية لباكستان والهند لا يغيب عن ناظره ثقل السعودية وحجم دورها
* الشراكة الطويلة مع باكستان كانت متعددة الأبعاد، ولم تكن دينية أو عسكرية فحسب، بل تُعد اقتصادية واستثمارية أيضاً
* الهند قطب دولي متصاعد الحضور على المستويات المختلفة، وقيادتها تحرص على تعزيز الروابط والعلاقات مع المملكة، انطلاقاً من حضورها المتصاعد وقيادتها لإقليم الشرق الأوسط
* خاتمة الزيارة تحمل رسالة تعبر عن التقاء مشروع الصين الكبير مع رؤية السعودية 2030. ومسعى البلدين للتكامل ليصعدا بقوة في التأثير على الاقتصاد العالمي.
* دعم العلاقات وتوثيق الروابط ونشر قيم التسامح وحل الخلافات عبر آليات الحوار، تمثل ركيزة أساسية في توجهات المملكة الخارجية
* وصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب صداقته بالأمير محمد بن سلمان بـ«العظيمة». وكسر البروتوكول للاحتفاء بولي العهد
أنقرة: إن رسائل السلام تتعدد صياغاتها وأدواتها، ولكن محركاتها وركائزها تظل ثابتة في سياسة المملكة العربية السعودية الخارجية، أوضح ذلك الزمن وتتابع أحداثه وتواليها عبر عقود وسنوات خالية، وقد أثبتت جدارة توجه قيادات المملكة وجسدتها مؤخرا زيارة ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان بن عبد العزيز، إلى عدد من البلدان الآسيوية، شملت كلا من باكستان والهند والصين. وحملت الزيارة رسائل المملكة للسلام القائمة على تحسين العلاقات مع كافة الأطراف والاضطلاع بأدوار مباشرة وغير مباشرة، من أجل تهدئة حدة الصراعات والتوترات على الساحتين الإقليمية والدولية، بالتزامن مع التحرك من أجل دعم مصالح المملكة العليا مع مختلف القوى العالمية.
وقد وجدت رسائل المملكة صدى واسع النطاق تجسد في الحفاوة البالغة والاستثنائية التي قوبلت بها زيارة ولي العهد ووزير الدفاع السعودي، والتي أفضت إلى تعزيز مكانة المملكة وتأكيد حضورها ونفوذها، فضلا عما تكللت به من اتفاقيات وصفقات تجارية قدرت بمليارات الدولارات، وذلك على نحو أعاد تأكيد أن علاقات المملكة الواسعة مع الغرب لا تحول دون القدرة على توسيع نطاق علاقاتها ونفوذها على ساحات الشرق، ليس انطلاقا من الرغبة في المناورة وإنما بهدف توسيع الخيارات وتعزيز الروابط والتحرك في مختلف الاتجاهات بذات الثقة ولنفس الهدف المتمثل في دعم مصالح المملكة العليا.
وقد تعددت التعليقات والاتجاهات السياسية التي أشادت بهذه التحركات وأنماطها وتوقيتاتها، حيث قال وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية، أنور قرقاش: «المتابع لزيارات الأمير محمد بن سلمان التاريخية لباكستان والهند لا يغيب عن ناظره ثقل السعودية وحجم دورها... زيارة الأمير محمد تكللت بتعميق للمصالح الاقتصادية، وتمتين للعلاقات السياسية، وبناء شراكات استراتيجية ربما العنوان الأبرز لها (شراكات سلام) والتي باتت تربط سياسات ومصالح السعودية مع دول العالم أجمع وتأتي ضمن (رؤية 2030) بوصف السعودية ذات موقع حيوي بين القارات الثلاث، آسيا وأفريقيا وأوروبا، وبحسبانها صانعة حلم المنطقة في أن تكون (أوروبا الجديدة)».
التحركات في آسيا... تجديد الشراكات الاستراتيجية وتعزيز الروابط البينية
أوضحت تحركات ولي العهد السعودي الرغبة في إعادة تمتين الروابط وتوثيق المحركات الدافعة لعلاقات أعمق مع قوى دولية رئيسية في القارة الآسيوية. بدأت الزيارة الخارجية بباكستان، والتي مثلت المحطة الأولى في الجولة الشرقية لولي العهد، وهي دولة ترتبط بروابط وثيقة مع السعودية، فالبلدان يجمع بينهما علاقات قديمة تمتد لعقود خالية، وهي روابط تمددت وتوسعت بمضي الزمن، وقد وقفت السعودية مع باكستان في أحلك الظروف، وهو ما ذكره صراحة رئيس الوزراء الباكستاني عمران خان حين استقبل ولي العهد السعودي.
الشراكة الطويلة مع باكستان كانت متعددة الأبعاد، ولم تكن دينية أو عسكرية فحسب، بل تُعد اقتصادية واستثمارية أيضاً، وهي الرسالة المهمة التي أوضحتها الزيارة، حيث تم ترسيخ العلاقات بهدف إجراء نقلة نوعية في العلاقات نحو آفاقٍ أوسع ومستقبل أفضل، بما يحقق مصالح للبلدين، ليتم البناء على ما هو قائم للانتقال لما هو دائم.
وقد جاءت المحطة الثانية في جولة ولي العهد في الهند، وهي دولة تمثل قطبا دولياً متصاعد الحضور على المستويات المختلفة، وقياداتها تحرص على تعزيز الروابط والعلاقات مع المملكة، انطلاقاً من حضورها المتصاعد وقيادتها لإقليم الشرق الأوسط. وقد حافظت الهند على معدلات نمو متزايدة، وهي بتعدادها السكاني الكبير أثبتت أنها قادرة على صناعة اقتصاد مؤثر ومتطور يتجاوز التحديات.
الحضور السعودي في الهند لم يُعنى وحسب بالجوانب السياسية أو العسكرية، وإنما امتد كذلك إلى القضايا الثقافية بوصفها أحد أهم عناصر «القوة الناعمة» (Soft Power)، وقد كان ذلك بارزاً في هذه الجولة الآسيوية، وكان أبرز مثالٍ عليه ما أعلنه وزير الثقافة السعودي الأمير بدر بن فرحان من تأسيس «كرسي إبراهيم القاضي»، احتفاء بالفنان السعودي الذي أصبح أحد أهم رواد الفنون والمسرح في الهند خلال العقود الماضية.
الصين مثلت المحطة الأخيرة في الجولة السعودية وخاتمة الزيارة إلى الدولة التي استعصت على السقوط بعد انهيار المعسكر الشرقي بسقوط الاتحاد السوفياتي، وكان اعتمادها على التطوير الاقتصادي المتدرج سياسة متزنة سمحت لها، لا بالبقاء على قوتها القديمة فحسب، بل وتعزيز حضورها الدولي بثاني أكبر اقتصاد في العالم، وتطورها في جميع المجالات، ومشروعها المهم «طريق الحرير».
وبدا أن خاتمة الزيارة تحمل رسالة تعبر عن التقاء مشروع الصين الكبير مع رؤية السعودية 2030. ومسعى البلدين للتكامل ليصعدا بقوة في التأثير على الاقتصاد العالمي.
رسالة سلام... أهداف جولة ولي العهد السعودي
إن دعم العلاقات وتوثيق الروابط ونشر قيم التسامح وحل الخلافات عبر آليات الحوار، تمثل ركيزة أساسية في توجهات المملكة الخارجية، والتي تحظى بقبول ودعم من كثير من القوى الإقليمية والدولية، وهو ما تم التعاطي معه بشكل واضح في بكين ونيودلهي وإسلام آباد، فمختلف العواصم الآسيوية تدرك مكانة الرياض وأبدت عبر قياداتها الرغبة في توثيق العلاقات على كافة المستويات تعزيزاً للمصالح المتبادلة والشراكات القائمة.
وقد بدا واضحا وعي قيادات كل من باكستان والصين والهند، ومدى إدراكها بأن تعزيز التحالف مع المملكة يمثل مكاسب ضخمة للجميع، تأسيساً على كثير من المحركات وفي مقدمتها نمط وطبيعة الحضور السعودي على المستوى الدولي، سيما في ظل الأدوار التي باتت تضطلع بها الدبلوماسية السعودية على المستويات المختلفة، ولعل ذلك هو دفع بعض الاتجاهات الأكاديمية إلى التأكيد على إمكانية أن تمثل زيارة الأمير محمد بن سلمان لكل من باكستان والهند خطوة في تجسير هوة الخلاف بين كل من البلدين، سيما أن كلا منهما يتمتع بعلاقات وثيقة وتاريخية مع المملكة العربية السعودية.
وقد أعرب ولي العهد عن تقديره للجهود المتسقة المبذولة من قبل رئيس الوزراء الهندي منذ شهر مايو (أيار) 2014. بما في ذلك مبادراته الشخصية لإقامة علاقات صداقة مع باكستان، وفي هذا السياق اتفق الجانبان على الحاجة لخلق الظروف اللازمة لاستئناف الحوار الشامل بين البلدين الجارين.
أهمية الزيارة، انعكست في طبيعة استقبال الأمير محمد، وهو استقبال تعدى البروتوكولات وأحكامها انتصاراً لمكانة وأهمية المملكة ووضعها الإقليمي والدولي. فقد استقبل رئيس الوزراء عمران خان، وقائد الجيش قمر جاويد باجوا، ولي العهد السعودي، في مطار عسكري بمدينة روالبندي، قبل أن يصطحبه خان، في سيارة قادها بنفسه إلى العاصمة إسلام آباد. وقال عمران خان: «السعودية كانت لنا دوماً صديقاً وقت الضيق، وهذا ما يجعلنا نقدرها للغاية». وأضاف موجهاً حديثه لضيفه: «أود أن أشكرك، على الطريقة التي ساعدتنا بها، حين كنا في وضع صعب».
وفي الهند جاء استقبال رئيس الهند رام نات كوفيندر لولي العهد، عبر موكب من الخيالة مع إطلاق 21 طلقة ترحيبية من المدفعية، في مقر رئاسة الجمهورية بنيودلهي. وكسر رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي البروتوكول وانتظر ولي العهد عند سلم الطائرة، من أجل استقباله لدى وصوله، وقدم له باقة ورد بنفسه، تعبيرا عن أعلى درجات الحفاوة. هذا فيما أكد متحدث الخارجية الهندية، رافيش كومار، كسر البروتوكول، وكتب في تغريدة: «كسراً للبروتوكول... مودي يستقبل الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، عند زيارته الأولى للهند». كما غرّد مودي كاتباً: «إن الهند تبتهج بزيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان».
واحتفى الرئيس الهندي رام نات كوفيندر، في القصر الرئاسي بنيودلهي، بضيف بلاده الأمير محمد بن سلمان، وأقام حفل عشاء تكريماً له وللوفد الرفيع المرافق. وقال ولي العهد إن المصالح بين السعودية والهند «تتقاطع كثيراً»، كما أن «المخاطر التي تجابهنا متشابهة وكثيرة، سواء في الإرهاب أو غيره». وشدد على أهمية عمل البلدين بشكل مشترك لتحقيق المصالح ومواجهة التحديات.
بدوره، أكد الرئيس الهندي، أن بلاده تقدّر السعودية بالغ التقدير «بوصفها شريكاً موثوقاً به لأمن طاقتها»، مثمناً مشاركة «أرامكو السعودية» في أكبر مصفاة نفط مرتقبة على مستوى العالم. وفي هذا السياق صدر بيان سعودي - هندي مشترك أكد أن الزيارة جاءت بناءً على توجيه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، واستجابة لدعوة من رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي. وأكد البيان، أن رئيس الوزراء مودي رحب بالتغييرات الأخيرة التي بدأها ولي العهد لتحقيق الاعتدال والانفتاح في بلاده، فيما أعرب ولي العهد السعودي عن تقديره للنموذج الهندي من نشر روح الوسطية والتعددية والتسامح.
وجدد الجانبان التزامهما العميق بتعزيز الشراكة الاستراتيجية المنبثقة من «إعلان الرياض» المعلن في فبراير (شباط) 2010، التي تمت إعادة تأكيدها خلال زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز للهند في فبراير 2014، وزيارة رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي للسعودية في أبريل (نيسان) 2016.
وعلى جانب آخر، منح الرئيس الباكستاني عارف علوي ولي العهد أعلى وسام مدني في باكستان، والمعروف باسم «نيشان امتياز»، تعبيراً عن مكانته والاحتفاء به. وغرس الأمير محمد بن سلمان شجرة تذكارية بالقصر الرئاسي، كعادة متّبعة مع الرؤساء وكبار الضيوف في إسلام آباد، وتم وضع لوحة عن تاريخ الشجرة والشخصية التي زرعتها.
وفي ختام الجولة الآسيوية، اجتمع الأمير محمد بن سلمان مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، ونائب رئيس الوزراء هان تشينغ، الذي ترأس معه الاجتماع الثالث للجنة السعودية - الصينية. واحتفى الرئيس الصيني شي جين بينغ بالأمير محمد بن سلمان في بكين، وعقد الجانبان اجتماعاً استعرض العلاقات الاستراتيجية، وتطورات الأوضاع في المنطقة والمستجدات على الساحة الدولية. وأكد ولي العهد السعودي خلال الاجتماع فاعلية مجلس التنسيق السعودي - الصيني، مؤكداً قدرة المجلس على خلق المزيد من الفرص لدى البلدين.
تحقيق التوازن في علاقات المملكة الخارجية
إن واحدة من الرسائل الرئيسية التي أكدتها زيارات الأمير محمد بن سلمان لكل من الهند والصين وباكستان، هي تأكيد أن ثمة توجهاً أصيلاً لم يتراجع بشأن توثيق العلاقات مع كافة القوى الدولية، سيما أنه في الوقت الذي يتصاعد فيه حضور عدد من الدول الآسيوية على الساحة العالمية تشهد القوى الغربية كثيراً من التحديات، وهي حسب كثير من الاتجاهات الرائجة، تنتقل من ساحة العلاقات الدولية إلى ساحات السياسات المحلية؛ بالنظر إلى عدد من المحركات مثل «بريكسيت» بريطانيا، وكذلك أنماط التوترات بين واشنطن وكثير من العواصم الأوروبية، فضلا عما تشهده الساحة الأميركية ذاتها من إثارة قضايا وملفات شائكة.
وقد أصدر حديثاً مركز «بلفر» للعلوم والشؤون الدولية في مدرسة جون كنيدي للحكومات بجامعة هارفارد تقريراً بعنوان «حلف الأطلنطي في السبعين... تحالف في أزمة»، صاغه نيكولاس بيرنز، ودوغلاس لوت، يُفصّل أبعاد وأعماق تصاعد التوتر ومظاهر الاضطراب في العلاقات بين الولايات المتحدة وحلفائها في أوروبا.
ربما يوضح ذلك ويعكس ارتداداته ما حدث في «مؤتمر وارسو»، والذي كان غرضه من ناحية مواجهة العدوانية الإيرانية، ومن ناحية أخرى تحقيق الاستقرار والسلام وعودة التنمية إلى الشرق الأوسط.
وفي هذا السياق يقول الخبير الاستراتيجي الدكتور عبد المنعم سعيد، إن انعقاد مؤتمر يتعامل مع مشكلات ومعضلات الشرق الأوسط بشكل متكامل قد يبدو تطوراً إيجابياً، بيد أن الطريقة التي حضّرت بها الولايات المتحدة لانعقاده كان فيها من المفاجأة الكثير، بالإضافة إلى ما بدا من انقسامات أوروبية - أميركية كانت أوضح من تبلور موقف موحد تجاه قضايا المنطقة. ويضيف: «إن كل ذلك يمكن إرجاعه إلى الاتفاق النووي الإيراني، أو إلى القرار الأميركي المنفرد بالانسحاب من الاتفاق، ولكن ما بدا في وارسو أن كثيراً من الحكومات في أوروبا وخارجها قد قررت أن التعامل مع الإدارة الأميركية الحالية أصبح صعباً ولا يسير وفقاً للتقاليد التي جرى رسمها وتحديدها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، ومن ثم لا يوجد حلّ لمعضلة أن الولايات المتحدة دولة من الأهمية بحيث لا يمكن الاستغناء عنها، من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن دونالد ترامب ونائبه مايك بنس ليسا من القيادات التي يسهل التعامل معها».
ويقول سعيد، إن أوروبا ممثلة في ألمانيا وفرنسا، وبريطانيا معهما، في هذه النقطة على الأقل، ربما لن تدخل في مواجهة مع أميركا، ولن تسعى إلى هدم حلف الأطلنطي، وإنما سوف تنتظر انحسار موجة اليمين المتطرف والانعزالية الأميركية في السياسات الغربية. لذلك فإن فتح الأبواب مع قوى مثل الصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل سوف يضيف ولا يخصم من القوة العربية خلال هذه المرحلة الانتقالية.
لذلك قد يكون للجولة التي قام بها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، إلى باكستان والهند والصين بعدا آخر يزيد من أهميتها، كونها تعيد تأكيد تعدد الأبعاد في السياسة الخارجية السعودية. فالوزن الاستراتيجي للمملكة العربية السعودية يتصاعد، سواء كان ذلك بحكم مركزيتها في العالم الإسلامي، أو وزنها داخل مجموعة العشرين، ومكانتها النفطية، وموقعها الجيوسياسي بين البحر الأحمر والخليج العربي، أو كان ذلك نتيجة تراكم السياسات التي اتبعتها المملكة خلال العقود الماضية، فإن ذلك كله لا بد أن تضاف له النهضة الإصلاحية المتعددة الأبعاد الجارية في المملكة. هذه النهضة تضاعف من قيمة كل الأبعاد السابقة، بحكم إدراجها المملكة في ساحة العالم المعاصر من ناحية، وما تفتحه من فرص لكل الأطراف الدولية والإقليمية من ناحية أخرى، حيث باتت المملكة موقعاً مهماً وهائلاً للتطور والنمو، تشمله المشروعات العملاقة، التي تسير فيها خلال هذه المرحلة غير المسبوقة في التنمية.
إن السعودية وخلال زيارة ولي عهدها الآسيوية، وحسب الكاتب ذاته، واصلت حضورها الفاعل على المشهد الدولي من خلال تعزيز الشراكات الاستراتيجية مع أصدقائها وحلفائها، في إطار استراتيجية متوازنة بما يحقق مصالحها ويعينها على تنفيذ رؤيتها التنموية 2030، التي بدورها كانت فاعلة في كل الزيارات الخارجية نظراً لكونها أكبر بوابة لتحقيق تلك المصالح سواء للمملكة أو لشركائها الدوليين، فالمملكة تجاهر بمعادلتها القائمة على سياسة تبادل المصالح، وهي المعادلة التي استطاعت من خلالها تشجيع شركائها على المضي في تطوير علاقاتهم معها بطريقة تضمن مصالح الطرفين.
وتشير اتجاهات أكاديمية إلى أن ما يحسب للمملكة أنها من الدول القليلة التي لا تزال قادرة على إمساك حبال التحالفات مع القوى الكبرى بمهارة دون استفزاز أحد؛ تقوّي علاقتها مع الصين وكذلك تستمر في فعل ذلك مع موسكو، بينما لا تزال شراكتها الاستراتيجية مع الحليف الأميركي التاريخي تمضي بشكل غير مسبوق، تفعل ذلك، مع الهند وباكستان، وهكذا تسير السعودية في حقل شائك، دون أن تجابه مشكلات أو عوائق، ذلك أن أدواتها الدبلوماسية حاضرة وتحركات قياداتها استباقية ووقائية وقادرة على الاستجابة السريعة لكافة التحديات.
العلاقات الاقتصادية... شراكات تتعمق وعلاقات تقوى
البعد الاقتصادي كان حاضراً في جولة ولي العهد، سيما أن قارة آسيا تعد قطباً اقتصادياً متصاعد القوة، ذلك أن نصيبها من الناتج الإجمالي يكافئ أميركا وأوروبا مجتمعين، وللصين والهند 35 في المائة من الناتج المحلي العالمي. وقد تتزايد أهمية العلاقات الوثيقة معهما تأسيساً على اعتماد كلتا الدولتين على النفط في نموها الاقتصادي. كما أن الهند والصين بهما نحو ثلث سكان العالم، وتشكلان قطبي النمو في السوق الدولية، وكلتاهما من الأقطاب التكنولوجية على الصعيد الدولي.
وقد أعلن ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، عن توقيع اتفاقيات استثمارية مع الدول الثلاث، بلغت مع باكستان، نحو 20 مليار دولار. وقال بن سلمان إن هذا الرقم يمثل محض البداية، في تعزيز العلاقات الاقتصادية بين البلدين. وأضاف: «هذا الرقم ضخم، بالنسبة للمرحلة الأولى، لكنه بالتأكيد سيزداد كل شهر وكل عام، وسيفيد كلا البلدين». وقد تركزت في باكستان معظم الاتفاقات التي وقعت على مشروعات للطاقة، من بينها 10 مليارات دولار لإنشاء مصفاة نفط، ومجمع للصناعات البتروكيماوية، في مدينة جودار الساحلية.
ويعمل بالمملكة نحو 1.9 مليون باكستاني، وتمثل السعودية أكبر مصدر لتحويلات الباكستانيين في الخارج، والتي تقدر بنحو 4.5 مليار دولار سنوياً. ويبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين نحو 2.5 مليار دولار. وتستورد باكستان من السعودية النفط الخام ومشتقاته، وفي المقابل تصدر للمملكة الأرز والنسيج والكيماويات والمنتجات الجلدية. وفي يناير (كانون الثاني) 2018، تعهد البلدان بتعزيز علاقتهما الاقتصادية باتفاقيات تجارية تتماشى مع رؤية ولي العهد السعودي 2030 (أطلقتها في 2017 وتستهدف خفض اعتمادها على النفط كمصدر رئيسي للدخل، وتنويع الإيرادات المالية).
وفيما يخص العلاقة مع الهند فقد تم بحث آفاق التعاون الثنائي بين البلدين في المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية. وفي مجال الطاقة، تم بحث استعداد المملكة لإمداد الهند بكل ما تحتاجه من النفط والمنتجات البترولية. وشهد الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، ورئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، مراسم توقيع عدة اتفاقيات ومذكرات تفاهم وبرامج بين البلدين، شملت المجالات الاستثمارية في الصندوق الوطني للاستثمار والبنية التحتية الهندية، والسياحة، والإسكان، والإعلام، بالإضافة إلى الطاقة الشمسية. وفي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، التقى الأمير محمد بن سلمان، رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي، على هامش قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين.
وتوقع الأمير محمد بن سلمان، الوصول إلى حاجز الـ100 مليار دولار في المجالات الاقتصادية والاستثمارية، وقال: «نريد أن نعمل كحكومتين لكي نضمن تحقيق هذه الاستثمارات وتحقيق عوائد نافعة لكلا البلدين». وأضاف: «نتمنى أن تسهم علاقتنا في توفير مزيد من الفرص للعمالة والأيادي العاملة الهندية، والمساهمة في بناء (رؤية 2030)»، مبيناً أن كلا البلدين يواجه «تحديات متشابهة، أولها التطرف والإرهاب وأمن المحيط الهندي».
وأعرب الجانبان عن تقديرهما للمداولات الإيجابية التي جرت خلال اجتماعات الدورة الثانية عشرة للجنة السعودية - الهندية المشتركة التي عقدت في الرياض في فبراير 2018 لتعزيز التعاون، واتفقا على زيادة تعميق التعاون التجاري والاستثماري بين البلدين من خلال مواءمة «رؤية السعودية 2030» وبرامج تحقيق الرؤية الـ13 مع مبادرات الهند الرائدة «اصنع في الهند»، و«ابدأ الهند»، و«المدن الذكية»، و«الهند النظيفة»، و«الهند الرقمية».
ورحب رئيس الوزراء الهندي بقرار الجانب السعودي الانضمام إلى التحالف الدولي للطاقة الشمسية. واتفق الجانبان على التعاون في مجالات الفضاء والعلوم والتقنية، بما في ذلك تقنية الاستشعار من بُعد، والاتصالات عبر الأقمار الصناعية، والملاحة عبر الأقمار الصناعية. وقد أكد الأمير محمد بن سلمان أن «العلاقة بين الهند والسعودية تمتد لآلاف السنين. الفرص بين بلدينا كثيرة جداً وهناك الكثير من المصالح: الثقافية، والاجتماعية، والاقتصادية... نضع الخطط والاستراتيجيات اللازمة لتحقيق هذه المصالح». وتستند العلاقة بين السعودية والهند إلى أركان أساسية. ويتجاوز التبادل التجاري بين البلدين 25 مليار دولار، وتحويلات الهنود من المملكة إلى بلدهم تبلغ 10 مليارات دولار سنوياً.
على جانب آخر، دشنت السعودية والصين، خلال جولة ولي العهد السعودي: «شراكة شاملة من أجل الاستثمار في المستقبل» بحزمة اتفاقيات ومذكرات تفاهم في مختلف المجالات. وقد أشار الرئيس الصيني إلى تطور علاقات الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين البلدين بشكل مستمر، والتنسيق الدائم حول القضايا الدولية والإقليمية ذات الاهتمام المشترك في السنوات الأخيرة، مقدراً المساهمة المهمة لولي العهد السعودي في هذا الصدد، ومؤكداً أن هذا سيضفي قوة دفع جديدة على العلاقات الثنائية.
وقد اجتمع ولي العهد السعودي مع لي هان تشنغ نائب رئيس مجلس الدولة الصيني، وتناول الاجتماع آفاق الشراكة بين البلدين وفرص تطويرها، قبل ترؤسهما اجتماع أعمال الدورة الثالثة للجنة السعودية - الصينية المشتركة، والتي ناقشت التعاون المشترك بين البلدين، ومجالات التنسيق في الشأن السياسي والأمني، بالإضافة إلى بحث تعزيز أوجه التعاون في الجوانب التجارية والاستثمارية والطاقة والثقافة والتقنية. وتوج المنتدى السعودي - الصيني للاستثمار بتوقيع 35 اتفاقية تعاون اقتصادي، تقدر قيمتها بأكثر من 28 مليار دولار.
من جهته، أشار المهندس عبد الله المبطي رئيس الجانب السعودي في مجلس الأعمال السعودي - الصيني إلى أن الصين تعتبر من أهم الشركاء التجاريين للسعودية ويعول عليها كثيراً في تحقيق رؤية 2030، لافتاً إلى أن تطور حجم التبادل التجاري مطّرد خلال السنوات الماضية حتى وصل إلى 46.4 مليار دولار (174 مليار ريال) بفضل السياسات المحفزة وجاذبية البيئة الاستثمارية في كلا البلدين.
التعاون في الصناعات الدفاعية
مثلت جولة ولي العهد وزير الدفاع السعودي إلى الدول الثلاث فرصة لتعزيز التعاون على كافة الأصعدة، ومن ضمنها الصعيد الدفاعي. وقد جاءت باكستان المحطة الأولى في الزيارة تأسيساً على نمط الروابط التي تجمعها بالمملكة والتي لها أبعاد استراتيجية، حيث إن باكستان فوق كونها قطباً مهماً في العالم الإسلامي فهي دولة نووية من ناحية، ومن ناحية أخرى قوة عسكرية يعتدّ بها.
وقد شهد تاريخ التعاون المشترك بين السعودية وباكستان الكثير من المحطات الرئيسية عسكرياً. فقد بدأ في عام 1982 عند توقيع بروتوكول للتعاون العسكري، وفي عام 1991 تم توقيع اتفاقية الدفاع المشترك، وفي عام 2008 تم إجراء مناورات عسكرية بحرية ضخمة وواسعة، كما شاركت القوات الجوية الباكستانية في مناورات الصقور السعودية عام 2010، وتم إجراء شراكة سعودية باكستانية بشأن برنامج تصنيع المقاتلات عام 2014. وواصلت الشراكات العسكرية بين البلدين عام 2017 في تدريبات عسكرية مشتركة في باكستان، فيما أجريت مناورات عسكرية عام 2018 في إطار مكافحة الإرهاب وتبادل الخبرات والقدرات العسكرية بين البلدين.
وفيما يخص العلاقة مع الهند، فقد رحب الجانبان بالتطورات الأخيرة في التعاون السعودي - الهندي في قطاع الدفاع، سيما في مجالات تبادل الخبرات والتدريب، خصوصا بعد أن تم التوقيع على مذكرة التفاهم حول التعاون الدفاعي خلال زيارة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز للهند في فبراير 2014، وفي هذا السياق رحبا بنتائج الاجتماع الرابع للجنة المشتركة حول التعاون الدفاعي الذي عقد مؤخرا في الرياض في يناير الماضي.
واتفق الجانبان على إجراء المناورات البحرية المشتركة، وتوسيع التدريبات الثنائية في مجالات أخرى، وتعزيز التعاون في مجال الإنتاج الدفاعي المشترك لقطع غيار الأنظمة البحرية والبرية، تماشياً مع برنامج «اصنع في الهند» و«رؤية 2030». واتفق الجانبان على العمل مع الدول الأخرى المطلة على المحيط الهندي من أجل تعزيز الأمن البحري الذي يشكل أهمية حيوية لأمن وازدهار البلدين وتوفير المرور الآمن للتجارة الدولية.
ودعا الجانبان جميع الدول إلى رفض استخدام الإرهاب ضد الدول الأخرى، وتفكيك البنية التحتية للإرهاب أينما وجدت، وقطع كل أنواع الدعم والتمويل عن الإرهابيين الذين يرتكبون الإرهاب من أي دولة ضد بلدان أخرى، وتقديم مرتكبي أعمال الإرهاب إلى العدالة. وشددا على قرار مجلس الأمن 2254 بشأن الوضع في سوريا، وقرار مجلس الأمن 2216. ومبادرة مجلس التعاون الخليجي، ومخرجات الحوار الوطني اليمني بشأن الوضع في اليمن.
وبناءً على ما سبق، يمكن القول، إن قدرة المملكة على تعظيم مصالحها والحد من فاعلية «الأذرع الإعلامية» للقوى المناوئة، سيما محور قطر – تركيا – إيران، إنما تأتي في إطار نتائج وارتدادات سياسات المملكة الاستباقية وقدرتها على التحرك في اتجاهات كثيرة بالتزامن، لتضمن مصالحها، وتعزز تحالفاتها، وتعزل خصومها، ليس وحسب على ساحات الغرب، وإنما على مسارح الشرق، وفيما يخص مختلف القضايا الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وربما يفسر ذلك قيام أغلب دول العالم بتجاوز البروتوكول حينما تستقبل ولي العهد السعودي، ففي باكستان وتعبيراً عن حفاوة الاستقبال بزيارة ولي العهد، رافقت مقاتلات عسكرية باكستانية من طراز F16طائرته فور دخولها المجال الجوي الباكستاني.
وقد سبق ذلك قيام الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بكسر البروتوكول مرتين، من أجل الاحتفاء بزيارة ولي العهد واستقباله عند سلم الطائرة، وذلك لدى زيارته للقاهرة في مارس (آذار) 2018، ثم زيارته في نوفمبر 2018 ضمن الجولة العربية التي سبقت قمة العشرين في الأرجنتين. هذا فيما حياه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحية ودية برفع اليد، وذلك لدى التقائه بولي العهد على هامش قمة العشرين بالأرجنتين، في مطلع ديسمبر (كانون الأول) الماضي. وعلّق الكرملين الروسي على التحية، حين قال إنها تشير إلى متانة العلاقة الشخصية بين الأمير محمد وبوتين.
هذا فيما كسر الرئيس الأميركي أيضا البروتوكول حينما استقبل ولي العهد في البيت الأبيض في مارس 2018، ووصف الرئيس الأميركي دونالد ترامب صداقته بالأمير محمد بن سلمان بـ«العظيمة». وكسر ترامب البروتوكول للاحتفاء بضيفه، بإقامة مأدبة غداء، مع أن هذا الوضع لا يتم إلا مع الملوك والرؤساء.
لذلك، فإن سياسات المملكة ورياداتها، والتي تدفع قادة الدول إلى إبداء كل الترحيب بخطى قاداتها، إنما ترتبط أيضا بأنماط رسائل السلام السعودية التي لا تعبر ولا تجسد رغبة المملكة في أن يسود السلام وحسب، وإنما أيضا سيادة قيم الاعتدال وتعزيز حضور المملكة ونفوذها، ومجابهة قوى التطرف والإرهاب والقوى الإقليمية التي تعمل على الإضرار بصورة المملكة ومصالحها، وربما يرمز ذلك إلى ما تحمله زيارة ولي العهد إلى دول آسيا من سلام تحمله وتعززه سياسات بلد الإسلام.