* منذ حرب تموز 2006، لم يدرِ لبنان ما جرى في محادثات السنيورة مع «حزب الله»، وكيف طلب منه العمل على وقف الحرب الإسرائيلية بأسرع وقت. كل ما عرفه اللبنانيون أن «انتصارهم» كان «إلهياً».
حلّ وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، ضيفا على لبنان، بمناسبة مرور 40 عاما على ثورة تنقسم آراء الناس حولها طبعا. فمن استفادوا من هذه الثورة من اللبنانيين سياسيا أو ماليا، كتبوا فيها مدائح لا تنطبق علـى الواقع الإيراني قطعا. أمين عام «حزب الله» صوّر لجمهوره في احتفالية الثورة الأربعين، إيران على أنها بلاد الرخاء والتطّور العلمي والعسكري الذي يكاد لا يضاهيه بلد في العالم. فيما القادة الإيرانيون أنفسهم يتحدثون عن صعوبة الوضع الداخلي على كل الأصعدة، والفساد على صعيد السلطة... إلخ.
واستطرادا، فإن عادة الأنظمة التوتاليتارية تمويه واقع الحال وتحميله أشياء غير صحيحة، وغالبا على نقيض ما يعيشه البلد، لأنها - أي تلك الأنظمة - لا يمكنها أن تتحمل النقد مهما كانت طبيعته والسماح لمعارضة ما الإضاءة الصحيحة على أحوال المجتمع المتراجعة وأخطاء الحكم. فالنقد يعكس حالة فشل النظام ويحفز على استبداله بنظام آخر أو حاكم آخر. فإيران الجمهورية الخمينية دولة لا تقل ظلما أو فشلا عن النظام الذي ثارت عليه. ومع هذا يطلع علينا محللون وقادة ليقولوا لنا إن أحوالها بألف خير.
يأتي ظريف لبنان قبل انعقاد مؤتمر وارسو لبحث التصدي، ويثمّن أمام نظيره باسيل قرار لبنان عدم المشاركة. لم يحمل رئيس الدبلوماسية الإيرانية في جعبته شيئا يذكر، إلا اقتراحات بشأن التبادل الاقتصادي يعرف سلفا أنها ليست قابلة للتطبيق، ليس لأن معظم اللبنانيين قد لا يرغبون في ذلك، بل لأن الإدارة الأميركية لن تسمح بها.
مناصرو إيران في لبنان قفزوا فوق دبلوماسية ظريف التي قالت إنها ستتفهم في حال رفض لبنان عرضه وانتقدوا طبعا حذر الدولة اللبنانية، التي تعيش اقتصاديا في غرفة إنعاش، التجاوب مع اقتراحات الضيف. وهم لم ينسوا الثناء على اقتراح ظريف آلية للعمل مع لبنان شبيهة بتلك القائمة مع الدول الأوروبية خالصين إلى أن التذرع بالعقوبات الأميركية لم يعد تبريرا كافيا لعدم فتح آفاق جديدة أمام اقتصاد لبنان.
طبعا تلك الآلية التي اقترحها ظريف هي حبر على ورق، وستبقى كذلك إذ إنه لا يمكن لأي شركة عالمية أن تغضب الولايات المتحدة، ليس خوفا أو ترهيبا، إنما من منطلق مصالحها المالية. فإيران اقتصاد لا يحرز تعريض شركات عالمية للإفلاس، أو لخسارة سوق استهلاكية كبيرة كسوق الولايات المتحدة. ولم يكن مفاجئا يوم قرر الرئيس ترامب إعادة فرض العقوبات على إيران بعد سحب بلاده من الاتفاق النووي، انسحاب كبريات الشركات الأوروبية من السوق الإيرانية ووقف أي نشاطات لديها هناك. نحن هنا نتكلم عن شركات مثل توتال وسيمنز وبيجو، حجم أعماله كل منها منفردة يفوق اقتصاد لبنان، ولها أسواق في العالم كله، ومع ذلك قرروا الالتزام بتحذيرات الولايات المتحدة من التعامل مع إيران. أما تعامل الهند وروسيا والصين وبعض الدول مع الجمهورية الإسلامية فينحصر في البترول، وهو أمر سمحت به إدارة البيت الأبيض بعد أن تراجعت عن سياستها منع إيران من تصدير ولو برميل واحد من النفط.
مع هذا يرى مناصرو إيران أن اقتراح ظريف أبطل الذرائع اللبنانية. وأصبح على حد قولهم تجاهل هذا الاقتراح سيسبب عدم فتح آفاق جديدة للاقتصاد اللبناني.
لبنان يعيش أزمة اقتصادية خانقة لم تعد خافية على أحد، وهو يستعطي أموالا من الدول الصديقة من أجل تجاوز تلك الأزمة حتى بروز معطى جديد، كإعادة إعمار سوريا مثلا وهو أمر مستحيل في ظل وجود فيتو أميركي، أو البدء في استخرج الغاز وهو أمر من دونه صعوبات منها ما هو مرتبط بترسيم الحدود مع إسرائيل ومنها الآخر ولو بأقل درجة مرتبط باتفاق الدولة مع الشركات التي فازت بمناقصات استخراج الغاز. وإن لم يتحقق أي مما سبق فسيظل اقتصاد لبنان متكئا على المساعدات الدولية والعربية إن أتت.
فتراجع مداخيل السياحة نظرا لامتناع السياح الخليجيين عن المجيء إلى لبنان، وتراجع التدفقات المالية الاتية من لبنانيي الخارج بشكل مقلق، والتشدد الأميركي في مراقبة الأعمال المصرفية مما خفّض من حجم تبييض الأموال انعكس سلبا على الأسواق اللبنانية وخاصة العقارية التي تعد قطاعا بارزا في الاقتصاد. لم يكن سبب تراجع الاقتصاد أو تباطؤه مرتبطا بالصناعة اللبنانية أو بالإنتاج الزراعي، وهما قطاعات نسبة مشاركتهم في الناتج المحلي متواضعة مقارنة مع قطاعات أخرى. فلبنان يستورد ما قيمته عشرون مليارا في مقابل تصديره ما قيمته فقط 5.3 مليار دولار.
بناء على هذا نقول إن اقتصاد لبنان هش، ولا يملك أي مناعة تمكنه مثلا من تخطي ولو حتى إشارة واحدة من وزارة الخزانة الأميركية لعقوبات محتملة إن هو تعامل مع إيران. فأول قطاع يمكن أن تطاله الخزينة الأميركية سيكون قطاع المصارف الذي أودع فيه اللبنانيون أموالهم طمعا بفوائد كبيرة جدا. فأي اهتزاز لهذا القطاع يعني إفلاس البلد وناسه.
لقد اعتاد اللبناني على عيش الوهم، والتماهي معه من دون مراجعة نقدية وواقعية لأحواله. منذ حرب يوليو (تموز) عام 2006، لم يدرِ لبنان ما جرى في خفايا محادثات السنيورة مع «حزب الله» وكيف طلب منه العمل على وقف حرب إسرائيل بأسرع وقت. كل ما عرفه اللبنانيون أن «انتصارهم» كان «إلهياً».