* استغلت تركيا سياسات قطر التي تخرج عن الاتفاق الخليجي من أجل إقامة قاعدة عسكرية في الدوحة، وافتتحت في يونيو 2017.
* استخدمت تركيا التعليم ليس كمحض وسيلة لتعزيز نفوذها في ساحات الجوار الجغرافي توظيفا لقوتها «الناعمة» التي عززتها عبر سنوات خلت، وإنما لتوثيق حضورها الثقافي.
* باتت العملة السائدة في شمال سوريا هي الليرة التركية وليس الليرة السورية. وقد ألقى انخفاض قيمة الليرة التركية إلى مستويات قياسية، بظلاله على الشمال السوري.
* يسعى الرئيس التركي إلى تمكين سلطانه في المناطق بفتح تجمعات إدارية كالمدارس والمراكز التموينية والمساعدات الطبية والغذائية والتعليمية والشرطة المدنية.
* يتخذ إردوغان من «تحرير القدس» و«حماية الدين الإسلامي» ونصرة المستضعفين ومساندة السوريين وغيرها من العناوين اللافتة أدوات لشرعنة سياساته التوسعية.
أنقرة: توسعت أنقرة في انتهاج السياسات التي تستهدف الوجود على ساحات الجوار، وبينما يدعي بعض الأكاديميين الأتراك وسياسييها أن ذلك يتأسس على الرغبة في الدفاع عن المصالح والحدود وحماية الأمن القومي، فهناك الكثير من المؤشرات التي تشير إلى أن ثمة مشروعا تركيا يُستهدف منه إعادة إحياء «روابط قديمة» أطلق عليها فيلسوف تركيا ورجلها الثاني سابقا أحمد داود أوغلو: «العثمانية الجديدة». بيد أن جوهر هذا المشروع وأدواته يشيران إلى أنه يمثل عودة إلى مشروع «التتريك» الذي اتبعته الحكومات التركية القديمة حيال الأقليات في الأناضول. وهو يأتي هذه المرة في إطار سياسات إحياء الروابط والعودة للجذور عبر عمليات عسكرية وسياسية وثقافية تستهدف أن تغدو بعض مناطق الجوار أكثر صلة بتركيا بالمقارنة بالسلطات المركزية في البلدان التي تتبعها وتقع في نطاق حدودها.
السياسات التركية باتت تتجسد في نشر جنودها خارج الحدود، والتوجه نحو تأسيس عدد من القواعد العسكرية في مناطق الجوار الجغرافي، وكذلك التوسع في برامج التعليم المباشر وغير المباشر للغة التركية، ونشر مراكز الثقافة، وتكثيف المنح العلمية، كما يقتضي ذلك إعادة تأسيس بعض المؤسسات خارج الحدود، ورفع العلم التركي عليها، هذا في وقت يتم العمل فيه على أن تكون العملة الرسمية «الليرة التركية» وليس العملات الوطنية التي يفترض أن تسود المعاملات التجارية.
قواعد عسكرية في الجوار البعيد والقريب
أوضحت تركيا على الدوام، عبر تصريحات لم تنقطع، أن الكثير من أقاليم الجوار، سواء في الشرق الأوسط، أو آسيا الوسطي، تعاني من تزايد حدة النزاعات، وارتفاع منسوب الصراعات، بسبب انسلاخها عن الدولة التركية، التي لا تزال تمتلك أحقية التدخل بأساليب متنوعة ليس بناء على حسابات المصالح الاستراتيجية، وإنما تأسيسا على الاعتبارات التاريخية. ترتب على ذلك العمل على العودة إلى هذه المناطق عبر صيغ وبناء على أفكار ومبادرات مغايرة، لم تتسم بالانسجام حيال كافة الحالات، وإنما سعت تركيا لأن تضفي طابعا خاصا على كل تحرك حيال أي من مناطق الجوار.
تحركات تركيا جاءت متنوعة وعبر أنماط شتى، فقد استغلت تركيا سياسات قطر التي تخرج عن الاتفاق الخليجي من أجل إقامة قاعدة عسكرية في الدوحة (افتتحت في يونيو/ حزيران 2017)، كما سعت لتوسيع ذات التحرك انطلاقا من محركات تاريخية ترى حقوقا تركية في العراق وسوريا التي تخطت حدودها في ذكرى مرور 500 عام على معركة مرج دابق (8 أغسطس/ آب 1516). وفيما يخص سوريا، حذر الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، الأطراف التي «تريد إنشاء دولة في شمال سوريا»، وأشار في كلمة ألقاها خلال اجتماع عقده مع المخاتير الأتراك في المجمع الرئاسي بالعاصمة أنقرة، في يناير (كانون الثاني) 2018، إلى أن المناطق التي يراد إنشاء «حزام إرهابي» فيها بالشمال السوري تقع ضمن حدود «الميثاق الوطني» لتركيا، الذي تبناه برلمان البلاد عام 1920 ويعطيها، حسب رأي السلطات المحلية، حق المشاركة في تقرير مصير مناطق خارج حدودها الجغرافية كالموصل، وحلب، وكركوك، وبعض أراضي اليونان وبلغاريا. مضيفا أنه «يجب عدم تجاهل حساسية هذه المسألة بالنسبة لتركيا».
وفيما يتعلق بالقاعدة العسكرية التركية في قطر، فقد تولى التعبير عن السياسات التركية رئيس الوزراء التركي الأسبق، أحمد داود أوغلو، الذي يعد «مهندس» التوافقات التركية – القطرية، عبر فيديو نشره على حسابه الرسمى في «فيسبوك»، قال فيه إن علاقة تركيا مع قطر في الأصل علاقة تاريخية ترجع إلى «العهد العثماني»، طواها النسيان وتجددت مؤخرا. هذا فيما قال زعيم حزب الحركة القومية، دولت بهجلي، في معرض تعليقه على الأزمة الخليجية - القطرية، إن قطر كانت «تُحكم إبان السلطة العثمانية بواسطة قائم مقام يتبع الباب العالي».
البعد التاريخي صاغ أيضا موقف تركيا حيال الكثير من الأحداث في العراق. فقد أشار المتحدث باسم الحكومة، آنذاك، إلى احتفاظ أنقرة بحقوقها التاريخية المنبثقة عن الاتفاقيات الثنائية والدولية، ولفت إلى أن هذه الاتفاقيات تنصرف إلى معاهدة «لوزان 1923»، و«أنقرة 1926». وقد استندت السياسات التركية إلى عدد من المحركات الرئيسية عكست في جملتها طبيعة الموقف التركي، وجسدت طموحا طالما عبر عنه الكثير من المسؤولين الأتراك، بدءا من عدنان مندريس، مرورا بتوغورت أوزال وعبد الله غول، وأخيرا رجب طيب إردوغان. لقد قامت هذه المقاربة على أن التوجه التركي حيال التطورات في العراق لا يتعلق بمحض تأثيراتها وارتداداتها المحتملة على أنقرة، وإنما يرتبط بالأساس بالحقوق التاريخية التي يمكن لتركيا أن تطالب بها، سيما فيما يخص مدينة الموصل وحقوق التركمان في مدينة كركوك.
ويبدو من ذلك، وحسب تقديرات، أن تركيا تعمل على نحو ممنهج على مشروعٍ يتعدى خطورته الهيمنة العسكرية التركية، من أجل تتريك مناطق في الجوار، ويبرز ذلك في شمال سوريا، حيث توظف تركيا في ذلك فصائل تتبع أجنداتها بدوافع إثنية وتاريخية. كما استغلت السكان المهجرين وجلبت فئة منها تربطها بها صلات إثنية كما حصل مع سكان حي الوعر الحمصي إلى مناطق ما يسمى بـ«درع الفرات»، وقامت بتوطينهم في القرى والبلدات العربية.
«التتريك» عبر برامج التعلم
استخدمت تركيا التعليم ليس كمحض وسيلة لتعزيز نفوذها في ساحات الجوار الجغرافي توظيفا لقوتها «الناعمة» التي عززتها عبر سنوات خلت، وإنما لتوثيق حضورها الثقافي وترسيخ الارتباط بين قطاعات واسعة من مناطق الجوار الجغرافي والهوية الثقافية التركية، ففي 24 أغسطس 2016 بدأت عملية درع الفرات لتستحوذ بعدها على نحو متدرج على مساحات واسعة في الشمال السوري، ثم حرصت تركيا بعد ذلك على عودة آلاف اللاجئين إليها بعد تهيئة احتياجات البنية التحتية في تلك المناطق، وعودة التعليم وذلك عن طريق التعاون مع المنظمات غير الحكومية، فعاد بالفعل نحو 100 ألف لاجيء إلى مناطقهم. وقد تم تنسيق التخطيط والإشراف على أنشطة التعليم في جرابلس والباب وإدلب عبر مديرية الإشراف التعليمي في محافظة غازي عنتاب، ومديرية التعليم في محافظة كيليس الحدودية.
وكان عدد التلاميذ الأكبر يقع في مدينة أعزاز بمجموع 34.504 آلاف طالب، وبسبب وجود مجموعة من مخيمات النزوح الكبيرة، كان أكثر من نصفهم - نحو 19.420 ألف طالب - يتلقون التعليم بالمخيمات، ومن 1.181 ألف مدرس يقوم بالتدريس، منهم 607 مدرسين قام بالتعليم داخل المخيمات. ولدعم التمويل عمدت الحكومة التركية على الاعتماد على المساعدات الخارجية وتوجيهها من خلال تنسيق مع وزارة المعارف التركية، وعن طريق إشراف مديريات التعليم التركية بمدن كيليس وغازي عنتاب للمناطق التابعة لكل منها. كما عمدت الحكومة التركية وبواسطة «إدارة السلامة والطوارئ» التركية (AFAD) بإنشاء مدارس تركية ميدانية.
وحرصت تركيا على إدامة وجودها في شمال سوريا، وذلك من خلال التأثير على منظومة المناهج التعليمية في المراحل الأساسية والعليا، وعملت على تغيير المناهج التعليمية، وجعلت الإشراف على المناهج الجديدة لوزارة التعليم التركية، حيث طالت تلك المناهج تغييرات في بعض المضامين خاصة مناهج التاريخ التي حذفت منها ما اعتبرته تركيا يعمق العداء تجاهها، حيث حذفت أي إشارة «لاحتلال عثماني»، وتشير إلى تركيا كدولة عظمى وتمجد فترة الحكم العثماني، كما حذفت أي خرائط تشير إلى الأراضي التي تعتبرها سوريا أراضي عربية محتلة، حيث لا تحتوي خرائط سوريا على لواء الإسكندرونة الذي ضمته تركيا في ثلاثينات القرن الماضي، كما حذفت مادة التربية القومية بشكل كامل.
قامت تركيا أيضا باعتماد نظامها التعليمي ونشره في شمال سوريا، وذلك من خلال منظومة التعليم الإلكتروني وربط بعض المدارس والصفوف ببعض المدراس التركية، وفرضت تعليم اللغة التركية منذ الصف الأول الابتدائي حتى الثالث الثانوي، وأكد رئيس برنامج «التعليم مدى الحياة» بالوزارة التركية أنها ستقوم بتعيين للمدرسين التركمان لتعليم الأطفال اللغة التركية، مما يعني أن تركيا تهدف لإلحاق المنطقة بتركيا لغويا وجغرافيا. إضافة إلى ذلك لجأت تركيا إلى تسمية المدارس بأسماء تركية من قتلى عمليات الجيش التركي بالمنطقة، والجمع بين علمي المعارضة السورية والعلم التركي على أغلفة المناهج الدراسية، واللوحات المدرسية.
إّضافة إلى ما سبق قامت السلطات التركية بتعيين 3316 مدرسا، بناءً على اختبارات ودورات تدريبية تشرف عليها، حيث خضع نحو 5.686 مدرسا لامتحان قبول أجرته وزارة التعليم التركية. وثمة تقديرات تشير إلى أن أنقرة بصدد فتح فروع لجامعات تركية مثل فرع جامعة حران في مدينة الباب، والتي تعتمد ذات المنهج التركي الموجود في الفرع الأصلي، كما يخضع الطلاب لاختبار قبول يتطلب إجادة اللغة التركية كشرط للقبول - امتحان (YÖS)، كذلك قامت جامعة غازي عنتاب التركية بفتح مدرسة مهنية، ويتم التخطيط لتعميم التجربة وفتح مزيد من مؤسسات التعليم العالي.
وكان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان قد اختار محافظة كيليس على الحدود السورية ليعلن أن الحكومة التركية بدأت في عملية منح اللاجئين السوريين الجنسية التركية، وقال إردوغان موجها حديثه للاجئين: «نعتبركم إخواننا وإخوتنا، لم تبتعدوا عن وطنكم، لكن فقط عن منازلكم وأراضيكم، لأن تركيا هي أيضا وطنكم». سياسات تركيا تجسدت أيضا عبر برامج متنوعة شملت الكتب المدرسية، مرورا بلافتات الطرقات، وصولا إلى شركات الكهرباء والبريد والصرافة، فباتت تغزو بلغتها ومؤسساتها المشهد في الشمال السوري، وتتصدر مبنى المجلس المحلي الذي يدير المدينة الواقعة في محافظة حلب، عبارة مكتوبة باللغتين العربية والتركية «التآخي ليس له حدود»، وإلى جانبها تم رسم العلم التركي وعلم المعارضة السورية. وأنشأت أنقرة شبكة كهرباء في مدينة جرابلس حيث عُلقت صورة للرئيس التركي رجب طيب إردوغان على جدار في مستشفاها الرئيسي المدعوم من أنقرة.
وتكاد شوارع المنطقة لا تخلو من السيارات العسكرية والجنود الأتراك. ويرى الأستاذ الجامعي والباحث في الشأن التركي في جامعة ديسايلز أحمد يايلا أن تركيا تسعى إلى ترسيخ وجودها في سوريا على المدى الطويل. ويقول: «تقود تركيا مؤسسات كثيرة في تلك المدن. الأمر أشبه بالوصاية». وفي خطوة مفاجئة أشارت تقارير إعلامية إلى قيام المجلس المحلي في مدينة أعزاز بإصدار قرار يمنع فيه المواطنين السوريين من التعامل بالهوية السورية، مطالبا الأهالي باستصدار بطاقة الهوية التركية، بما جعل أعزاز وجرابلس والباب مدنا شبه تركية، سيما بعدما قامت أنقرة بضبط «التوقيت المحلي» في هذه المناطق حسب التوقيت التركي.
الليرة التركية... العملة الرسمية في شمال سوريا
باتت العملة السائدة في شمال سوريا هي الليرة التركية وليس الليرة السورية. وقد ألقى انخفاض قيمة الليرة التركية إلى مستويات قياسية، بظلاله على الشمال السوري، وذلك بعد أن بات معظم الموظفين (في المؤسسات الطبية، والمدرسون والشرطة والمجالس المحلية، يتسلمون رواتبهم بالليرة التركية. وعلى الرغم من أن معظم المنح الخارجية التي تأتي إلى مناطق شمال سوريا تدخل عبر الحكومة التركية، أو عن طريق منظمات المجتمع المدني فإن السلطات التركية عملت على تحويل أي مبلغ يدخل إلى مناطق ريف حلب من الدولار إلى الليرة التركية. كما تصرف رواتب المقاتلين التابعين لـ«الجيش الحر» الذين تدعمهم تركيا في ريف حلب وإدلب بالليرة التركية.
وبهدف دعم الليرة التركية وتخفيفا من آثار تراجعها، أطلقت مجالس محلية في ريف حلب مبادرة لدعم الليرة التركية مقابل الدولار الأميركي. في حين ناشد «المجلس المحلي في مدينة مارع» التجار والأهالي لشراء أكبر كمية من الليرة التركية. وأدخلت تركيا مؤسساتها الخدمية وموظفيها لمدن الشمال السوري التي سيطرت عليها، فتقدم مؤسسة البريد والبرق التركية (PTT) خدماتها في المناطق السورية، للموظفين الأتراك والمواطنين السوريين، حيث تلبي المؤسسة الخدمات اللوجستية والشحن، وتقدم رواتب المدرسين والموظفين العاملين في وقف «المعارف» التركي بالمنطقة، والجنود الأتراك، فضلا عن رواتب الشرطة المحلية.
من جهة أخرى، اعتبرت وكالة الأناضول أن الأتراك ينتشرون بشكل ملموس في كل من سوريا ولبنان والعراق من خلال التركمان الذين يحملون جنسيات تلك الدول. تزامن ذلك مع إعلان عمر قوجمان نائب الأمين العام لمجلس التعاون للدول الناطقة بالتركية (المجلس التركي)، عن الانتهاء من إعداد كتاب التاريخ التركي المشترك لتدريسه في مدارس المرحلة المتوسطة بالدول الأعضاء. جاء ذلك خلال الاجتماع الثامن للجمعية البرلمانية للبلدان الناطقة بالتركية، والذي عُقد مؤخرا في مدينة إزمير غربي تركيا، برعاية البرلمان التركي. وأوضح قوجمان أن الكتاب يمثل نتاج تعاون وثيق جرى بين الأمانة العامة للمجلس مع الأكاديمية التركية (مقرها العاصمة الكازاخية آستانة)، بناءً على توجيهات رؤساء دول المجلس التركي.
ويضم المجلس الذي تأسس في الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) 2009. في مدينة نخجوان الأذرية، تركيا وأذربيجان وكازاخستان وقرغيزيا إضافة إلى أوزباكستان المنضمة حديثا. وتعتمد سبع دول، اللغة التركية ولهجاتها لغة رسمية لها، هي تركيا وأذربيجان، وجمهورية شمال قبرص التركية، وتركمانستان، وأوزبكستان، وقرغيزيا، وكازاخستان. وإلى جانب الجمهوريات التركية السبع؛ ينتشر الأتراك كقومية ضمن جمهوريات فيدرالية داخل الاتحاد الروسي (توفا، باشقوردستان، ياقوتيا، تتارستان، ألطاي)، وإقليم تركستان الشرقية في الصين، وكأقليات في القرم (التتار)، ودول البلقان (أتراك البلقان)، وسوريا ولبنان والعراق (التركمان).
«التتريك».. وسياسة تركيا حيال بلدان أفريقيا
روجت تركيا إلى أن سياساتها حيال الكثير من دول المنطقة تستهدف نقل الخبرات، وتعزيز فرص التعليم للشباب في الشرق الأوسط والمنطقة العربية، وكذلك الكثير من البلدان الأفريقية. ربما اتضح ذلك بعد أن أعلنت تركيا، بالاتفاق مع مقديشيو عن الكثير من الإجراءات والمشروعات، التي تضمن للأتراك تواجدا مكثفا على الأراضي الصومالية، وفيما يتعلق بالقاعدة العسكرية في الصومال فقد اتفق الجانبان على أن تضم القاعدة العسكرية، التي تكلف إنشاؤها نحو 50 مليون دولار في مساحة 400 دونم، 3 مدارس عسكرية من شأنها أن تسهم في قيام قوات تركية بتدريب الجيش الصومالي، وقوات أخرى من عدة دول أفريقية.
يوضح ذلك نمط التكتيكات التركية. فقد شرعت أنقرة في بناء القاعدة العسكرية في مارس (آذار) 2015؛ ومن أجل شرعنة الوجود العسكري التركي، تم الاتفاق على أن توفر الحكومة التركية الخدمات التدريبية لما يقرب من 10 آلاف و500 جندي صومالي، وستحتضن 200 جندي تركي يتولون الفعاليات التدريبية وأنشطة الأمن الخاصة بالقاعدة. وتتحمل تركيا أيضًا الدور الأساسي في التعليم بالصومال، باستضافة أكثر من 15 ألف صومالي للدراسة بالجامعات التركية، وإنشاء المدارس التركية بالصومال.
وعملت تركيا أيضا على تعزيز حضورها الثقافي في المجتمعات الأفريقية، سيما تلك التي تخطط للوجود العسكري فيها. ففي الصومال، عمدت إلى نشر ثقافة تعلم اللغة التركية. فمنذ زيارة رئيس الوزراء التركي، رجب طيب إردوغان، إلى الصومال في أغسطس 2011. أخذ النفوذ التركي في البلاد يتصاعد. كما أنشأ الأتراك في الصومال هيئات إغاثية وشركات خاصة تعمل في مجالات كثيرة، منها الأمن، وتوفر فرص عمل للذين يجيدون اللغة التركية فقط، وذلك لتحفيز خريجي المدارس الثانوية والجامعات لتعلم اللغة التركية.
كما تم تغيير أسماء عدد من المدارس والشوارع الصومالية من العربية إلى التركية. وقد أضحت مدارس الأئمة والخطباء الدينية التي تخرج فيها إردوغان تنتشر في الصومال، عبر تمويل مباشر من هيئة وقف الديانة التركية التابع للحكومة التركية. وتقدم الجامعات التركية عددًا أكبر من المنح الدراسية للطلاب الأفارقة.
وقد استخدمت تركيا الأدوات الثقافية والوسائل الإعلامية من أجل تعزيز حضورها السياسي والعسكري في القارة السمراء. فقد عقدت المنتديات والمؤتمرات السنوية بين الصحافيين الأفارقة والأتراك، كما توسعت تركيا في تنظيم الرحلات، وتوجيه دعوات منظمة إلى المثقفين وقادة الفكر والإعلام في الدول الأفريقية، كما أطلقت أنقرة الكثير من المواقع باللغات المختلفة لكي تصل رسائل تركيا السياسية إلى المواطنين في أفريقيا.
ويعد المدخل الثقافي من أدوات التغلغل التركي في القارة الأفريقية. فبينما يشكل البعد العسكري بعداً رئيسياً في الاتفاق التركي – السوداني بخصوص منح تركيا حق استغلال شبه جزيرة سواكن، فإن الرئيس التركي، شدد على البعد الثقافي للاتفاق بحسبانه يستهدف إعادة بناء المنطقة كموقع سياحي. وعلى الرغم مما تعرض له السودانيون على يد السلطان سليم الأول، فإن الحكومة التركية أعلنت خططها بشأن سواكن باعتبارها تمثل إعادة تأسيس للروابط الثقافية بين الدولتين، والتي تعود إلى القرن السادس عشر، حينما أقدم السلطان سليم الأول، على تحويل سواكن إلى مركز للأسطول العثماني في البحر الأحمر، وضم الميناء مقر الحاكم العثماني لمنطقة جنوب البحر الأحمر.
وفي هذا السياق، نفى إردوغان أن تكون الدولة العثمانية قد ارتكبت جرائم خلال توسعها في القارة الأفريقية، داعيا إلى ترك القارة لتحدد مصيرها بواسطة أبنائها، فيما يبدو ردا على حزب «الأمة» السوداني المعارض، الذي كان قد طالبه بتقديم اعتذار للسودان عما اعتبرها «جرائم جسيمة ارتكبها العثمانيون خلال حكمهم البلاد في الفترة من 1821 - 1885». وتمارس تركيا دورا في دعم قضايا اللاجئين والنازحين الأفارقة، وفي توفير مواد الإغاثة الإنسانية، عبر وكالة التعاون والتنسيق التركية TAKA.
وإلى جانب الاستثمارات والمساعدات الإنسانية، قدمت أنقرة مساعدات في مجالات الصحة والأعمال الخيرية إلى عدد من الدول الأفريقية، وافتتحت رئاسة إدارة التعاون والتنسيق التركية مكاتب لها بدول القارة، ولديها مشاريع شملت أكثر من 37 دولة. وتقدم سنويا نحو ألف منحة دراسية للطلاب الأفارقة للدراسة في الجامعات التركية، وتلقى 280 ألف أفريقي العلاج الطبي في مساكنهم، في إطار عمل وكالة TAKA وقد أعلن إردوغان إهداء تونس مستشفى جامعيا للأطفال في أثناء زيارته الأخيرة.
وتنفذ الوكالة التركية للتعاون والتنسيق الكثير من المشاريع، مثل حفر آبار مياه، وتأسيس عيادات وتدريب الفلاحين، وإعادة بناء المباني التاريخية في الكثير من دول القارة الأفريقية. كما تقوم بعض من مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الإغاثية بتقديم مساعدات إلى ذوي الحاجات. جدير بالإشارة أن وكالة TAKA، وكافة الوكالات الإغاثية التركية الموجودة في أفريقيا تمثل، حسب الكثير من التقديرات، إحدى أدوات الاستخبارات التركية لجمع المعلومات، وخدمة أهداف تركيا على الساحة الأفريقية.
لذلك، يمكن القول، إن لدى تركيا مشروعا إقليميا يمتد إلى الشرق الأوسط وجواره، ويستهدف إعادة النظر في ثوابت الجوار بما يوجد حقائق تركية على الأرض والثقافة السائدة عليها، لتعيد كتابة التاريخ وتصوغ على نحو مغاير خطوط الحدود، وجغرافيا الدول. التعبير عن ذلك لم يقتصر على زعيم تركي دون غيره. فتصريحات قادة تركيا والكثير من زعماء أحزابها واضحة في هذا الإطار. وأنقرة بينما تتوسع في المساعدات الإنسانية لليمن والصومال وتدعم قطر وترسخ تواجدها العسكري في سوريا والعراق، إنما تستهدف إيجاد وضع تركي مغاير في شرق أوسط يختلف فيه وضع تركيا وواقعها الذي يحاول استحضار ماضيها.
الرئيس التركي يخوض معركة جديدة في هذه الآونة من أجل السيطرة على منبج وما حولها في سوريا، في محاولة لتوحيد مناطق سيطرة تركيا من عفرين إلى جرابلس بحكم السيطرة العسكرية والقوة المفروضة كأمر واقع سيتبعه تغيير هوية المنطقة ثقافيا وآيديولوجيا، فعلى الصعيد الإداري يسعى الرئيس التركي إلى تمكين سلطانه في المناطق بفتح تجمعات إدارية كالمدارس والمراكز التموينية والمساعدات الطبية والغذائية والتعليمية والشرطة المدنية وغير ذلك، واللافت في الأمر أن كل هذه المراكز والمؤسسات بإدارة تركية خالصة.
يتزامن ذلك مع فرض قوانين تركية، بل حتى فرض الأعلام التركية والتسميات الإدارية التركية على تلك المناطق، والتداول بالعملة التركية، حتى وصل الأمر إلى فرض المناهج التعليمية التركية على مدارس تلك المناطق لتكريس المبادئ والثقافة التركية على حساب الثقافة العربية ومبادئ العروبة فيها، وفرض أسماء الجنود الأتراك على مدارس تلك المناطق. لذلك ثمة تقديرات تشير إلى أن ما لم يستطع أجداد إردوغان فعله بفرض سياسة التتريك على البلدان العربية يكمله هو وإن كان بطريقة مغايرة، متخذا من «تحرير القدس» و«حماية الدين الإسلامي» ونصرة المستضعفين ومساندة السوريين وغيرها من العناوين اللافتة كأدوات لشرعنة سياساته التوسعية.