ويكيليكس تكشف عن معارك إيران وأميركا السرية

ويكيليكس تكشف عن معارك إيران وأميركا السرية

[escenic_image id="55225138"]

ما هو المشترك بين شبكة اتصالات الألياف البصرية في بيروت، وشركة شمسة للسفر والسياحة في النجف وخط السكة الحديد في غرب أفغانستان؟ وفقا لبرقيات الدبلوماسيين التي جمعها الدبلوماسيون الأميركيون وسربها موقع «ويكيليكس»، فإنها تمثل جميعا وسائل تمارس عبرها إيران جهودها الخفية للهيمنة الإقليمية.

وقد قدمت «الحرب الأميركية على الإرهاب» أرضا جديدة خصبة وسببا لاضطرابات واسعة في لعبة الشطرنج الصامتة التي تتم في الشرق الأوسط. وعادة ما كانت خطوات الخصوم الخفية مدمرة بقدر براءة المناورات الدبلوماسية في فيينا واسطنبول ونيويورك. ولم يظهر ذلك الصراع الخفي إلا عندما تم تحطيم الصمت المحمل من خلال الحظر العنيف لقافلة السلاح في السودان، واغتيال علماء النووي الإيرانيين في طهران أو تصريح لمسؤول ينسب حادثة تبدو عشوائية للجانب الآخر.

وخلال الأربعاء الماضي، فجر اثنان من الانتحاريين نفسيهما خلال الصلاة بجامع شيعي على الحدود مختلطة الطوائف لإيران في سيستان بلوشستان. وخلال ساعات ألقى المسؤولون الإيرانيون باللوم على الاستخبارات الغربية. ولكن المهم، أن تلك اللعبة الخطرة تدور رحاها في الأنفاق العسكرية الخفية في جنوب لبنان، وغرف الفنادق الفاخرة في دبي، والجبال المحاطة بالضباب في شمال اليمن والسفارات الأفريقية وأروقة قصر دولما باهتشه الباروكي باسطنبول.

وقد كنت مدركا لذلك الإيقاع البطيء للصراع منذ انتقالي إلى إيران عام 2004. وفي نفس الوقت، كان يثار دائما هناك جدل واسع كلما كتب سيمور هرش مقالا حول العمليات السرية داخل إيران، أو إذا ما وصف مسؤول مجهول بالبنتاغون انطلاق طائرت الدرون من قواعد في العراق عبر جارتها الشرقية على أمل حث الإيرانيين على الكشف عن أجهزة الرادار للرصد من خلال تشغيلها.

وفي أحد الأيام في 2004، اكتشفت كتاب «اعرف عدوك» في مكتبة في طهران ألفه أحد عملاء الاستخبارات الأميركية السابقين، الذي يصف الطرق التي صممها عندما كان ضابطا بالقنصلية الأميركية في التسعينيات لزعزعة استقرار إيران من خلال استغلال تنوعها العرقي الغني.

وبعد ذلك بعام، أنشأ الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش ميزانية للترويج للديمقراطية في إيران التي كان ينظر إليها باعتبارها «مناورة تمويل». وبعد ذلك بأشهر عدة، أنشأت وزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس مكتب الشؤون الإيرانية، وهو المكتب التابع لوزارة الخارجية خارج المدن التي تحوي عددا كبيرا من المهاجرين الإيرانيين لتسريب معلومات للاستخبارات حول وضع الجمهورية الإسلامية وقيادتها. وبعدما تم اتهامه على الفور من قبل الإيرانيين بأنه يعمل كواجهة للاستخبارات الأميركية، أثبتت تسريبات «ويكيليكس» أنها لم تكن تحتوي على الكثير من تقاريرها (يتم رفع تقارير الاستخبارات الأميركية عبر قنوات أكثر أمنا)، كان بعضها هو الجزء الأهم حول الاستراتيجيات المستخدمة للضغط على طهران.

ويمكن قراءة تلك الوثائق أيضا كاستعراض للقوة الأميركية: قائمة طويلة من قادة العالم تنتقد الولايات المتحدة علانية، ولكنهم يحتشدون سرا للتحالف ضد أعداء واشنطن الاستراتيجيين. وقد رصد وزير الدفاع الأميركي، روبرت غيتس، ذلك عندما قال: «الحقيقة هي أن الحكومات تعقد الصفقات مع الولايات المتحدة لأن ذلك من مصلحتها وليس لأنهم يحبوننا وليس لأنهم يثقون بنا وليس لأنهم يؤمنون أننا نستطيع الحفاظ على الأسرار».

وبالتالي، قال الرئيس العراقي جلال طالباني، الحليف القوي لإيران منذ استخدمه النظام الإسلامي كحلقة وصل سواء مع نظام صدام أو تركيا في الثمانينيات بعد أشهر عدة من اكتشاف منشأة قم النووية السرية، إن النظام يحرز تقدما سريعا في إطار تطوير القدرات النووية، وأنه يعتقد أن هناك المزيد من المواقع النووية الخفية في إيران. وأضاف طالباني أن قيادة الحرس الثوري «خائفة» في ظل ممارستها للتطهير الداخلي للتخلص من المسؤولين الموالين للإصلاح.

وتصف برقيات أخرى من كابل اللقاءات الودية بين الدبلوماسيين الأميركيين وكبار المسؤولين الحكوميين، فقد صور تقرير حديث لـ«نيويورك تايمز» عمر داودزاي، سفير أفغانستان السابق في طهران بأنه يدفع بأجندة مضادة للغرب ويسيطر على صندوق رشاوى رئاسي تموله إيران واتضح أنه عقد اجتماعات مع الدبلوماسيين الأميركيين ونصحهم بالبدء في «تجهيز الأرضية» لفترة ما بعد الثورة في إيران. ويروي حكاية حول طبيب زوجته ابن طهران وهو يطلب منها: «من فضلك اطلبي من الأميركيين إحضار جنودهم إلى بلادنا في الخطوة التالية».

وبالإشارة إلى التمويل الإيراني للرئيس حميد كرزاي وأعضاء آخرين في الحكومة الأفغانية، يروي داودزاي أنها كانت «كميات محدودة» تم دفعها «على مراحل ومن دون انتظام»، مما يعكس التناقض بينها وبين المعونات الأميركية المنتظمة والمتوقعة. وما يثير المخاوف هو «باقات الدعم» التي قدمتها الحكومة الإيرانية إلى آلاف عدة من الملالي الأفغان الذين كانوا يدرسون في المدارس الشيعية. ويقال إن رجلا اسمه إبراهيم في مكتب القائد الأعلى في طهران هو المنسق الرئيس للبرنامج. وبالنسبة للتأييد الإيراني لحركة طالبان، يزعم داودزاي أن الدبلوماسيين الإيرانيين في كابل «لم يعودوا ينكرون تلك المزاعم، فهم يلتزمون الصمت» خشية أن يكون لدى الأفغان دليل على تورطهم.

وكان الرئيس كرزاي نفسه قد أخبر السفير الأميركي إريك إدلمان في 2007 أن إيران «منشغلة» بإثارة المشكلات، بخاصة في حديقتها الخلفية استراتيجيا في غرب أفغانستان. وقد أجاب إدلمان أن طهران تبدو وكأنها توجه قذائف حصرية دقيقة ومنظومة MANPADs (صواريخ تحمل على الكتف مشابهة للستنغر التي تبرعت بها الاستخبارات للمجاهدين في الثمانينيات لإسقاط المروحيات السوفيتية) والتي يمكن أن يكون لها «تأثير استراتيجي» إذا ما تم نشرها حتى بأعداد قليلة ضد أعضاء حلف شمال الأطلسي الأقل تسلحا.

والأكثر أهمية، أننا تلقينا لمحات خاطفة حول الإيرانيين النافذين والدبلوماسيين الأميركيين الذين يناقشون خفية الهجمات المشتركة، سواء على نحو مباشر أو عبر وسيط، على مصالح بعضهما البعض. وكشفت إحدى برقيات 2007، أن أخا رئيس الحرس الثوري لإيران في ذلك الوقت (من المحتمل أن يكون سلمان رحيم سافافي الذي يعيش في لندن) كان يجلس مع الدبلوماسيين الأميركيين في اجتماع للدبلوماسية الموازية في لندن وأقر بالوجود الإيراني في أفغانستان والعراق واصفا الميليشيات العراقية الشيعية بأنها «حلفاؤنا الذين خلقناهم في مواجهة صدام»، وأصدر بعض الملاحظات «أقرب للثناء» حول صراع حزب الله في 2006 مع إسرائيل.

ويقر سافافي بأن ميليشيا الشيعة التي تهيمن عليها إيران في العراق هاجمت القوات الأميركية، ولكنه وصف تلك الهجمات بالخطأ الناجم عن «نظام عام معروف لشن مثل تلك الهجمات والذي لم يتم إلغاؤه بعد.. ويقف مثل ذلك التشوش المؤسسي خلف الهجمات الحالية المستمرة على القوات الأميركية في العراق».

ومن الواضح أن هجمة 2007 كانت طريقة الميليشيات الشيعية العراقية في الانتقام من هجمة بريطانية سابقة على القنصلية الإيرانية في البصرة ولكنهم لم يتم إخبارهم بأن الانتقام قد حدث بالفعل من خلال «مسلسل الرهائن» عندما احتجز الحراس عددا من ضباط البحرية البريطانيين كرهائن. فمن الواضح، أن الميليشيات العراقية الشيعية لم تكن تقرأ الأخبار في ذلك الوقت. وفي الوقت نفسه استحوذ الدبلوماسيون الأميركيون على عملية منح الدبلوماسيين العراقيين تأشيرات، مما يعكس أن 20 في المائة من المتقدمين كافة كانت لديهم صلات بالحرس الثوري أو الاستخبارات.

وحذر سافافي الأميركيين من أنه بخلاف «سنوات عدة سابقة تحت حكم (الإصلاحي السابق الرئيس الإيراني محمد خاتمي)، يلعب الحرس الثوري دورا مركزيا ورئيسا في الحكومة الإيرانية، وأن تصميمه كمنظمة إرهابية سوف يترك الولايات المتحدة من دون شريك إيراني تتواصل معه في القضايا الأمنية وغيرها من القضايا ذات الاهتمام المشترك».

ويقول دبلوماسي أميركي كان يعمل على الملف الإيراني: «لقد كانت الحقيقة أكثر تعقيدا بخاصة في 2009. فقد كان هناك اهتمام حقيقي من قبل واشنطن بالسعي وراء فرص للتواصل أو قضايا ذات اهتمام مشترك نستطيع أن نتعاون فيها مع إيران نظريا وتسعى لمناقشة جدية حول كيفية معالجة نتائج انتخابات يونيو (حزيران) 2009 والعنف الذي أعقبها. والآن تضاءل ذلك الاهتمام، حيث لم يعد هناك تأييد في أي مكان داخل أروقة البيروقراطية حول أي شيء بخلاف المزيد من الضغط».

وعندما كانت تلك الرسائل، التي كانت سرية في ذلك الوقت، تلوح في الأفق، كنت أعيش في إيران وأتساءل حول مدى تلك الحرب السرية. ولكن الإشارة إلى أن الولايات المتحدة وإيران متورطتان في حرب خفية في بداية صيف 2006 كان مبررا كافيا لكي يتم نعت المرء بأنه مهووس بنظرية المؤامرة. ولذلك زرت الباحة المورقة لمعهد الدراسات السياسية والدولية في شمال طهران لكي ألتقي بالسفير الإيراني السابق لنتحدث حول اللعبة الكبرى الجديدة. وقد قدم لي الرجل الأنيق ذو اللحية البيضاء تعويضا عن عدم تقديمه لي الشاي (كنا في رمضان) بتقديم لمحات سرية حول كيف تنظر طهران للمنطقة.

وقد وصف لي بعدما أقر أن سلوك إيران كان متأثرا بكونها محاطة من كل جانب بدول موالية للولايات المتحدة أو خاضعة للاحتلال العسكري الأميركي، وصف موقف إيران بأنه تحركه «فكرة وجوب وجود قدر ضئيل من النظام في أفغانستان ولكن ليس بالقدر الذي يتسبب في ألا يصبح النفوذ الإيراني هناك قوي. فيجب أن تكون الأشياء هناك هادئة نسبيا».

لقد كانت كلمات حكيمة ثبتت صحتها خلال العام الحالي عندما شاركت إيران على نحو غير مباشر في العمليات الانتخابية التي ترعاها الولايات المتحدة في أفغانستان والعراق من خلال الترويج لمرشحيها. حيث كان يطلق، على المستوى غير الرسمي، في شوارع كابل على عشرات من البرلمانيين الأفغان المنتخبين في ظروف غامضة في سبتمبر (أيلول) بأنهم «مرشحو إيران».

وليست وثائق «ويكيليكس» ضرورية للكشف عن النفوذ الإيراني القوي الواضح للجميع في المنطقة. حيث إن مظاهر القوة الناعمة لطهران واضحة للعيان بداية من مشاريع البناء التي ترعاها إيران في كابل والبصرة وبيروت، إلى الدبلوماسيين الإيرانيين أو نمط البدلات الداكنة غير الأنيقة للحرس الثوري المنتشرة في الاجتماعات الإقليمية، والشركات الكثيرة في باكو ودبي وكويتا ومحطات التلفزيون والإذاعة التي تبث بلغات إقليمية متعددة.

وعلى الرغم من أن البرقية الأخيرة حول إيران تعود لشهر فبراير (شباط) الماضي، ما زالت الحرب السرية مستمرة. فقد كانت هناك محاولتان لاغتيال علماء نوويين في ديسمبر (كانون الأول)، أي بعد يوم من تسريبات «ويكيليكس». ويقول الخبير الإسرائيلي بشؤون الاستخبارات يوسي ميلمان إنه كان واضحا.. «أن إسرائيل تقف خلفه». استراتيجية فعالة اخرى كانت استهداف منظومة الحاسوب الذي يستخدم في الرنامج النووي وقد اعترفت ايران في نوفمبر ان فيروسا ضرب نظامها في الصيف.

وقال أحد الخبراء الأمنيين الألمان أن فيروس ستاكسنت الأمني الذي يهاجم البرامج المعلوماتية لادارة الصناعة قد أخر برنامج إيران النووي نحو عامين.

ويقول المحلل الإيراني سيراس سافداري: «إن اغتيال العلماء يتضمن بلا شك قدرا كبيرا من الأساطير ولكنني لا أعتقد أننا سوف نعرف الحقيقة يوما ما.. والخلاصة هي أن قتل العلماء لن يقدم الكثير للبرنامج النووي ما لم تكن تشاهد الكثير من أفلام جيمس بوند. فكل ما سوف تفعله هو أنها سوف تؤجج الوطنية الإيرانية المرتفعة بالفعل بشأن القضية النووية».

كل هذا لا تتضمنه وثائق ويكيليكس حتى لو افترضنا ان كثيرا من القلاقل تقف وراءها واشنطن، لأن هذه العمليات سرية ومن صنع اجهزة المخابرات وليست من مهمات الدبلوماسيين الذين هم الوجه المكشوف للعالم. لكن ما تضيفه الينا الوثائق هو الوجه الاخر من الصراع الخفي بين اميركا وايران والذي مسرحه كثير من المدن في المنطقة.  من النجف الى صور الى هرات الى باكو يستمر الصراع يوما بعد يوم.

 

* إياسون أثانسياديس - صحافي يعيش في اسطنبول ويغطي الشؤون التركية والشرق الأوسط ووسط آسيا منذ عام 1999 وكان يعيش في القاهرة ودمشق والدوحة وصنعاء وطهران.

font change