باراغ خانة: ولّى عهد الدولة وبدأت سيطرة «المدن العالمية»

باراغ خانة: ولّى عهد الدولة وبدأت سيطرة «المدن العالمية»

[escenic_image id="55191214"]

كما يتحدث باراغ خانه ، مدير «مبادرة الحوكمة العالمية» وكبير الباحثين ببرنامج الاستراتيجية الأميركية بمؤسسة «أميركا الجديدة»، لـ«المجلة» حول مقاربة جيوسياسية هامة: وهي القوة الناشئة للمدينة العالمية. وفي مقال حديث بمجلة «فورين بوليسي» أوضح خانه أن القرن الحادي والعشرين لن تهيمن عليه أي قوة عظمى. بل سوف تصبح المدن هي العامل المحرك للحوكمة والنظام العالمي المستقبلي.

 

«المجلة»: هل تستطيع أن توضح لنا ببعض التفصيل الطرح الذي قدمته في مقال «فورين بوليسي» الذي قلت خلاله إن مستقبل العالم لن تهيمن عليه دولة واحدة ولكن شبكة من المدن النافذة؟

- تتزايد أهمية المدن يوما بعد يوم فنحن نعود لعالم يبدو مشابها للعصور الوسطى. فقد كانت للمدن في القرن الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر أهمية قصوى، ولم تكن الدول قد تشكلت بعد. واليوم نحن نشهد عالما تراجعت فيه كثير من الدول بالفعل. وما زالت هناك كثير من الدول القوية، ولكن تلك الدول القوية تعتمد على قوة مدنها.

وبالتالي فإن المدن العالمية والمدن الكبرى هما نوعا المدن التي يتزايد تأثيرها على السياسة العالمية وسياسات البلدان أو التي لديها قوة إملاء ما يحدث داخل البلدان نفسها. وذلك هو ما يجعل للمدن تلك الأهمية الكبرى اليوم.

ولا أعتقد أنها ستكون بالضرورة شبكة من المدن فيمكن أن تكون هناك شبكة من المدن أو تحالف من المدن في مواجهة مدن أخرى أو مدن متصارعة معا تتسبب بالتبعية في صراع الدول التي تتبعها. وبالتالي فليست هناك شبكة أوتوماتيكية أو تحالف من أي نوع. فكل مدينة مستقلة بذاتها كما أن كل دولة مستقلة بذاتها.

وفي بعض الأحيان يكون دافع المدن هو الصراع مع غيرها وبالتالي فإنك تجد في شرق آسيا على سبيل المثال كثيرا من المدن الكبرى أو المدن العالمية البارزة. فقد كانت سنغافورة هناك منذ أمد بعيد وهونغ كونغ وكذلك تايبي وطوكيو. والآن فإن الصين لديها شنغهاي وقد طغت بكين على هونغ كونغ وكذلك لدينا سيدني وغيرها.

ولدينا دول ومدن المحيط الهادئ وهي منطقة بأكملها أصبح لديها الآن مراكز عالمية أكثر من أي منطقة أخرى في العالم. كما أن لديها عددا كبيرا من المدن الكبرى، وليست المدن الكبرى بالضرورة قيادات عالمية. وأحاول أن أوضح أنه نظرا لأن مدينة مثل لاغوس أو القاهرة أو مومباي بها كثير من السكان، وعشرات الملايين من الناس في المناطق المدنية الأكبر لتلك المدن، فإن ذلك لا يجعلها مرموقة أو رمزا أو مدينة عالمية يرغب الجميع في محاكاتها. فلا يرغب أحد في أن تصبح مدينته مثل مومباي.

ولطوكيو قصة مختلفة، فطوكيو هي أكبر مدن العالم، ولكنها نظيفة وخالية من العيوب، فكل شيء فيها مثالي. ولديها اقتصاد قوي، ففي كل يوم يذهب نحو ثلث سكان اليابان إلى منطقة طوكيو الكبرى بفعالية، فالمدينة تكاد تكون بلا أخطاء من كافة النواحي، وبالتالي فإنه مشهد مختلف تماما عن مكان مثل لاغوس أو نيجيريا. وبالتالي فهناك أنواع مختلفة من المدن ومن ثم أردت أن أبدأ بتحليل ما يحدث على نطاق واسع وأنطلق منه للبحث حول دور المدن.

 

«المجلة»: كيف يحدث التحول من المدينة إلى الدولة ومن الدولة إلى المدينة مرة أخرى؟

أردت أن أؤكد على أنه ليس بالضرورة تغير بذلك المعنى، فيعتقد كثير من الناس أن الأمر «إما...أو». وأنا أدرك أن عنوان المقال ربما يوحي بأن عهد الدولة قد ولى وأن عهد المدن قد بدأ ولكن ما أعتبره مماثلا للعصور الوسطى هو أن هناك كثيرا من الكيانات المختلفة - المدن والحكومات والمؤسسات والجامعات والجيوش المسلحة والجيوش الخاصة - وذلك هو ما يبدو عليه العالم فعليا، فليس الأمر «إما أو». فبعض الدول تختفي أو تسقط وبعض الدول تضعف، ولكن هناك دولا أخرى تزداد قوة مثل الصين، وبالتالي فأنا لا أطرح الأمر باعتباره «إما..أو».

ولكن من الواضح أن أحد الأشياء الأساسية التي تقف وراء ذلك، هي ما نطلق عليه العولمة، والتأكيد على أهمية التدفقات العالمية للمال والسكان. وذلك هو ما أدى إلى تراكم السلطة وتراكم الأموال والمواهب في المدن وهو ما زاد سلطة المدن حتى أصبحت تفرض أجندتها وتعمل على إدارة شؤونها الخاصة، وأعتقد أننا لاحظنا ذلك وهو يحدث في جميع أنحاء العالم.

ولكن العامل الثاني هو، قدر التحرر السياسي الناجم عن العولمة الذي سمح لعمد المدن بأن يصبحوا أكثر نفوذا أو قيادات وطنية، ومن ثم ساهموا في تعزيز أوضاع مدنهم. فعلى سبيل المثال فإن كوريا لديها بالفعل مركز كبير في المنطقة وهو سيول وهي مدينة شديدة الأهمية بالنسبة للاقتصاد العالمي، وأنت تعلم أن العاصمة هي مدينة مهمة للغاية، ولكن ذلك ليس كافيا بالنسبة لهم. فلكي تصبح منافسا إقليميا حقيقيا فإنهم يتطلعون للمستقبل ويقولون إننا بحاجة إلى مدينة عالية التقنية، أي مدينة تتحكم أو تهيمن على تكنولوجيا القرن الحادي والعشرين وبالتالي يجب بناء مدينة جديدة لديها أفضل التقنيات وتستخدم أحدث تكنولوجيا المعلومات، ثم علينا أن ننقل مقار الشركات الكبرى إلى هناك حتى تصبح كوريا المحرك الاقتصادي لمنطقة شمال شرقي آسيا. وبالتالي، تحدث مثل تلك الأمور أيضا وأنت ترى بعض المناطق الاقتصادية الخاصة التي تظهر في كل مكان. إذن أستطيع أن أقول إن العولمة والتنافسية هما المحرك الأساسي وراء ذلك. فقد أصبحت هي نقطة الأساس؛ فكلما تزايد تراكم السلطة في المدن، يبدأ التركيز على ذلك الاتجاه.

 

«المجلة»: ما هي توقعاتك بالنسبة للمدن في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا؟

- أحاول أن أوضح أن التوجهات في الشرق الأوسط تشير إلى أن هناك مجموعة تقليدية من التوجهات السياسية التي ترتبط جزئيا بالمدن. وذلك هو السبب الذي يجعل المراكز التقليدية للسلطة والنفوذ مثل مصر تفقد أرضيتها، فيما تبزغ سلطة المدن - الدولة أو الإمارات، في منطقة الخليج العربي.

ففي الشرق الأوسط لديك حزام من المدينة - الدولة، التي تمتد من البحرين إلى قطر والإمارات، وقد أصبح ذلك مؤثرا إلى حد كبير في المنطقة، كما أنها حظيت بكثير من الاتصالات الدولية. ويجب أن نتذكر أن مؤشر السياسة الخارجية يقيس النفوذ المتزايد لتلك المدن، فهو يحكم على المدينة العالمية بناء على مقدار نفوذها أو هيمنتها أو ظهورها في العالم. ومما لا شك فيه أن أبوظبي ودبي والرياض والمنامة والدوحة تخضع لتلك الفئة، وبالتالي فإنني أرى قدرا كبيرا من الأحداث التي تحدث في مدن منطقة الخليج، وهو ما جذب كثيرا من رأس المال والمواهب في العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط. وبالطبع فإن ذلك ليس بجديد على قراء «المجلة» ولكنني أعتقد أن ذلك هو السياق الأكبر الذي يفسر النشاط الكبير للشرق الأوسط في العقد الماضي.

 

«المجلة»: إذا ما كانت العولمة جزءا من الدافع وراء تلك الظاهرة، فهل يمكن القول بأن هناك بعدا سياسيا يؤثر على مدى نفوذ المدينة؟

- ذلك سؤال مهم للغاية، ولكن ليست له إجابة محددة. أجل، تصادف وأن كانت المراكز العالمية الكبرى والمدن في العالم الغربي كانت تقع في دول ديمقراطية؛ مثل نيويورك ولندن وغيرها. ولكن اليوم فإن المدن في شرق آسيا، على سبيل المثال، التي قمت بتحديدها، وكما قلت فإن شرق آسيا لديها الكثير من المراكز العالمية أكثر من العالم الغربي، وهو أمر يستحق الدراسة، ولذلك ركزت عليه في تلك المقال، وبالتالي فليست هناك قاعدة فيما يتعلق بالأنظمة السياسية.

وإذا كان يجب علينا تحديد شيء، فيمكن القول بأن القرارات التي يتخذها الناس أو زعماء المدن فيما يتعلق بأن تكون حازما بشأن نوع البنية التحتية التي يجب عليك بناؤها وغيرها. فمن خلال ذلك النوع من التفكير، فإنك تندهش بشأن كيف يجب أن تكون المدن تقريبا غير ديمقراطية في طبيعتها لكي يمكن إدارتها بفعالية. ونيويورك مثال طيب على ذلك فأنا من نيويورك وجميعنا نعلم أن رودي غولياني الذي كان واحدا من أنجح العمد في تاريخ نيويورك، لديه نزوع سلطوي. وعلى سبيل المثال، فإن عمدة بلومبرغ حصل على ولاية ثالثة، وبالتالي فإن المدن لديها قدر ما من الاستقلال من حيث الطريقة التي تدار بها.

 

«المجلة»: هل يمكن أن تسترسل بعض الشيء حول مفهوم المدينة المستقلة وتأثيره المحتمل؟

- تنحدر فكرة «المدينة المستقلة» من البحث في الطريقة التي تمكنت عبرها المناطق الاستعمارية مثل هونغ كونغ من البزوغ كمركز عالمي؛ وكمستعمرة عملت من خلال طريقة كانت مستقلة عن البلدان المجاورة مثل الصين. ويحدد الاقتصادي بول رومر مبدأ أساسيا يقول إن هناك الكثير من الدول الأفريقية التي تدار على نحو سيئ وهي لديها مساحات شاسعة ونافعة خاصة في تلك المناطق الساحلية التي كان يمكن تطويرها إلى مراكز حديثة للنشاط الاقتصادي يمكن أن تعمل وفقا للقواعد العالمية بدلا من القواعد المحلية، وهكذا. ولكن من الأفضل أن تتطوع الدول بقدر محدد من المساحة لكي تدار من خلال مجموعة دولية من الخبراء الذين يستطيعون مساعدتها على استغلال ثرواتها الاقتصادية من خلال المدينة النموذجية التي يمكن بناؤها في بلدهم.

وتلك هي النظرية وراءها. فعمليا، حتى الآن، لم تتعهد أي دولة بالسماح لفريق خارجي لإدارة مثل تلك المدن المستقلة في بلادهم ولكنني أعتقد أن ذلك يحدث بطريقة مختلفة. وهناك نموذجان جيدان على ذلك وهما التطور الاقتصادي في بلدان مثل فيتنام أو الهند أو مثل تلك التي أدارتها سنغافورة أو موانئ دبي العالمية. فما تفعله موانئ دبي العالمية في كل مكان من السنغال إلى جيبوتي هو نموذج لأخذ مساحة وتحويلها لموانئ عالمية وبالطبع هي تستعين بالمحليين ولكنها تستخدم الإدارة الخارجية والممارسات العالمية لمساعدة تلك البلدان على تعزيز دورها في الشحن والتجارة العالميين. وبالتالي فأنا أعتقد أن لدينا بالفعل نماذج مصغرة من المدن المستقلة تظهر بطريقة عملية تعتمد على الحاجة.

 

«المجلة»: لقد ذكرت في مقالتك أنك اعتمدت على البحث الذي قدمته ساسكيا ساسين بعنوان «المدينة العالمية» كيف يختلف توجهك عن طرحها؟

- أنا لا أعرف الباحثة شخصيا، ولكنني سوف أذكر عدة أشياء حول عملها بشكل عام، بما في ذلك الكتاب الذي ذكرته. أولا لديها مقاربة وظيفية في تحليل السياسة العالمية، وهو ما أقدره للغاية، وبالتالي فإنها لا تنحاز للدولة، ولذلك فهي قادرة على النظر إلى سلاسل الإمدادات، والتدفقات المالية، وهو ما تطلق عليه «الجمع» - وهو ما كان أحد العناوين الفرعية لأحد كتبها - والطرق التي تشكل عبرها تلك التوجهات الجديدة ديناميكيات السلطة والنتائج السياسية. أعتقد أن ذلك هو أحد أفضل الأشياء في أعمالها.

لأنها ليس لديها أي انحياز لعوامل محددة، فهي قادرة على فحص قوة الشركات والمدن وقد عكست أعمالها ذلك تماما. وأعتقد بالتالي أن لديها مقاربة استنباطية للعولمة، وهو ما أرى أنه أمر حسن بدلا من القفز صوب المنهج المعياري، وبالتالي فأنا أقدر ذلك المنحى من عملها أيضا. ثم بالعودة إلى قضية المدن، ففي آخر ما قدمته كانت تضع المدن فعليا في المركز، وهو ما أعتقد أنه توجه حديث للغاية. ومن عدة جوانب فإن تلك المقالة تعتمد إلى حد كبير على مقاربتها العامة وعليها أيضا. فإذا ما عقدنا مقارنة بينها وبين غيرها من الأكاديميين سنجد أنها كانت تتميز بالجرأة في وضع المدن في المقدمة والمركز ولذلك أعتقد أن شعبية أعمالها قد انعكست من عدة نواح على انتشار تلك المقالة.

 

«المجلة»: في مقال حديث بمجلة «التايم» تحدثت عن الأهمية الاقتصادية الاستراتيجية لتجاوز الحدود. كيف تعتقد أن مفهوم المدينة العالمية يرتبط بذلك الطرح؟

- أعتقد أننا سيكون لدينا دائما حدود بأنواع مختلفة، وإن كان من الأفضل أن تتقلص تلك الحدود في النهاية، ولكن ذلك ليس شيئا ممكن الحدوث في وقت قريب في معظم أنحاء العالم، بخلاف الاتحاد الأوروبي، بل وحتى هناك حدود ناعمة من نوع مختلف. ولكن النقطة الأساسية هي أنه إذا كنت ترغب في الحد من الحدود، لعدد لا نهائي من الأسباب السياسية والاقتصادية، فإن السبيل لتحقيق ذلك هي أن تبني وتؤسس عبر تلك الحدود بقدر الإمكان مثل الطرق والأنابيب التي تخلق مسارات اقتصادية وسياسية محايدة ومستقلة.

وبالتالي فإن بناء تلك الخطوط الجديدة التي تمتد عبر الحدود والتي لها فائدة اقتصادية عظيمة يمثل الدافع الحقيقي أو الآلية الأساسية التي أعتقد أنه يمكن عبرها تحقيق تلك الأهداف، وذلك هو ما كانت تدور حوله المقال في الحقيقة.

فيمكن أن نقول إن الحجتين مرتبطتين، فعلى سبيل المثال تعمل المراكز الاقتصادية الإقليمية ليس فقط لبلدانها ولكن للمنطقة المحيطة بشكل عام. بالطريقة التي تمثل عبرها لاغوس نيجيريا منطقة إقليمية لغرب أفريقيا، وهي أكبر وأهم مدينة اقتصادية، فهي تجذب المزيد من الناس من البلدان المجاورة، حيث تحيط سبع أو ثماني دول بنيجيريا، وبالتالي فإن لاغوس في الحقيقة ليست مركزا فقط لنيجيريا ولكنها مركز للمنطقة بأسرها.

ويبدو ذلك جليا في لواندا عاصمة أنغولا التي تعد مركزا إقليميا ناميا لجنوب غربي أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء نظرا للتدفق الضخم من موارد البترول الموجود لدى الدولة. إن مكانا مثل سنغافورة على سبيل المثال كان دائما مركزا مهما ليس فقط بالنسبة لسنغافورة وهي دولة صغيرة بحجم مدينة - دولة. ولكن سنغافورة هي المكان المهم لنمو كافة الدول المحيطة بها نظرا لأن كثيرا من المال الذي يتدفق إلى البلدان الفقيرة مثل إندونيسيا ودول جنوب شرقي آسيا يمر عبر سنغافورة. وهو مهم بالفعل، فكلما تزايدت المراكز الإقليمية من المدن، تزايدت احتمالية تحقيق التكامل والاستقلال الاقتصادي العابر للحدود.

 

* أجرت الحوار بولا ميجيا.

font change