* عوامل عدة، منها الاقتصادي ومنها المتعلق بعجز الحكومات عن تطوير أدائها، دفعت بالمتظاهرين إلى ارتداء السترات الصفراء واجتياح مدن فرنسا وإرسال إنذار فعلي بضرورة التغيير قبل فوات الوقت.
الغرب ليس على ما يرام. وهو يبدو على مفترق طرق. تماماً كما كان إبان الثورة الصناعية التي أدت إلى مكننة الإنتاج بفضل التطور التكنولوجي. أثرت حينها تلك الثورة في المجتمعات التي خبرتها سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وغيرتها بالشكل والمضمون. تلك المتغيرات أحدثت أنظمة حكم وقوانين ظلت سارية المفعول حتى ظهور عصر «الإنترنت» الذي أضفى بدوره تعديلات وتغييرات على النظم الاقتصادية والسياسية وحتى الاجتماعية. طبعاً الأمثلة كثيرة، في كل من تلك النواحي. فمثلا كثرٌ هم اليوم الذين يعملون وينتجون من المنزل، أي من دون الحاجة للذهاب إلى مكتب ما، وهذا تغيير جذري طرأ على النموذج التقليدي للعمل وأثر فيه. هذه «الثورة الرقمية» أحدثت تغييرات اجتماعية مهمة من خلال إعطاء الفرصة للأشخاص الذين تبعدهم المسافات بعضهم عن بعض أن يتواصلوا من خلال مواقع متخصصة سميت بمواقع التواصل الاجتماعي.
الأخبار أصبحت بمتناول الجميع، وباستطاعة أي شخص الاطلاع على التطورات من مصادر عدة. لم يعد الخبر حكراً على وسيلة إعلامية دون غيرها. لم يعد هناك سبق صحافي بالمعنى التقليدي. «الإنترنت» جعل الوصول إلى المعرفة أمرا متاحا للجميع. اليوم أكبر شركات العالم هي تلك التي تنتج معرفة، أو بشكل أدق، تلك التي تنتج «داتا».
حتى في السياسة، إذا أخذنا ما يتعرض له الرئيس الأميركي في الإعلام مثالا، يمكننا القول إنه لو حصل أن تكتل الإعلام ضده كما هو حاصل اليوم قبل عشرين عاما لكان من المستحيل على الرئيس ترمب أن يبقى في منصبه. اليوم يقوم الرئيس الأميركي من خلال منصة «تويتر» بالدفاع عن نفسه أمام - وبالتوجه لـ - العالم كله، من دون حاجة لوسيلة إعلامية. بل أصبحت تغريدات الرئيس مواد دسمة لوسائل الإعلام وموضوع الساعة لها.
فجأة ترهلت النماذج السياسية والاقتصادية السابقة المتبعة من قبل الحكومات الغربية.
العالم تغير، وكذلك اقتصاده. أما الحكومات الغربية، فما زالت جامدة، تبحث عن حلول من داخل النظم التي لطالما اتبعتها في أمور الحكم، لكن من دون جدوى. هي أمام معضلات كبرى لا تجد أجوبة لها. كيف تواجه تلك الحكومات مثلا ظاهرة الـ«Airbnb»، حيث يستطيع أي شخص بفضل هذا التطبيق عرض بيت يملكه لسياح مقابل بدل مادي؟ هل تذهب الحكومات في اتجاه حماية الفنادق وتحميل تلك الشركة ضرائب تجعل الأسعار المعروضة على موقعها توازي سعر غرفة الفندق؟ أم تترك ذوي الدخل المحدود يستفيدون من مدخول إضافي ليسددوا به فواتيرهم آخر الشهر؟ هذه كلها تحديات ما زالت الحكومات الغربية عاجزة عن مواجهتها وإن فعلت فبالشكل التقليدي. وهذا في جزء منه يثير حنق الشعوب.
بالإضافة لمطالب الإصلاحات الاقتصادية وخفض الضرائب التي تنهك المكلف الفرنسي خصوصا والأوروبي عموما، ما تطالب به «ثورة» السترات الصفراء التي اجتاحت كبرى مدن فرنسا وبدأت عدواها تنتقل إلى بلدان الجوار، يتعلق بتغيير طرق الحكم المتبعة والتقليدية بحيث يعطى المنتخبون المحليون والمؤسسات الحكومية صلاحيات بشكل يتوسع معها مفهوم اللامركزية الإدارية والمالية بشكل كبير جدا. فحلول المشاكل المستجدة من الثورة «الرقمية» يجب أن تكون مستحدثة ومناسبة لطبيعة كل منطقة. الحديث في الصحافة يدور غالبا حول النظام السويسري.
ولكن هناك أمر آخر يظهر مواربة في تلك المظاهرات وهو شبح المطالبة بالخروج من الاتحاد الأوروبي، حتى لو لم يكن هذا الشعار واضحا أو مرفوعا في احتجاجات السترات الصفراء. فإن كان من حيث الشكل لا شيء يدل على تلك الرغبة في الخروج والتي بدأت تكسب داعمين في بعض أنحاء أوروبا خاصة مع «البريكسيت البريطاني»، أما من ناحية المضمون فمطالب السترات الصفراء الاقتصادية تصطدم تلقائيا بقوانين الاتحاد الأوروبي وتتعارض بالصميم مع معاهداته.
فالحكومة الفرنسية مثلا لا يمكنها تلبية مطالب المتظاهرين في حماية الإنتاج الوطني، أو زيادة الحد الأدنى أو فرض ضرائب جديدة على الشركات الكبرى من دون أن تتعارض مع السياسات الاقتصادية التي يفرضها الاتحاد الأوروبي على الدول الأعضاء. فمن الواضح أنه لا توجد سياسة صناعية استباقية ممكنة خاصة ببلدان الاتحاد لأن المعاهدات تحظر «تشويه المنافسة» من خلال تدخل الدولة. كما لا توجد سياسة تجارية وقائية ممكنة خاصة هي الأخرى بالبلدان لأن السياسة التجارية هي «اختصاص حصري» للاتحاد. ولا توجد سياسة سعر صرف ممكن لأنه في سياق اليورو لا يمكن للدول خفض قيمة العملة أو سياسة نقدية ممكنة لأن البنك المركزي الأوروبي هو الذي يقودها. أخيرًا، لا توجد سياسة مالية ممكنة لأن الدول التي اعتمدت العملة الموحدة تخضع «لمعايير التقارب»، بما في ذلك القاعدة الشهيرة - التعسفية - للعجز العام بنسبة 3 في المائة.
عوامل عدة، منها الاقتصادي ومنها المتعلق بعجز الحكومات عن تطوير أدائها، دفعت بالمتظاهرين إلى ارتداء السترات الصفراء واجتياح مدن فرنسا وإرسال إنذار فعلي بضرورة التغيير قبل فوات الوقت.