* عبرت المظاهرات عن قطاعات أصابها الإحباط بسبب مراكمة آمال كبيرة على عاتق رئيس شاب جاء من الصفوف الخلفية ليحتل صدارة المشهد السياسي.
* سياسات ماكرون لإصلاح قانون العمل أو السكك الحديدية أو نظام الضرائب انتهت باحتجاجات أصحاب «السترات الصفراء» التي حولت أجزاء من فرنسا إلى ساحة حرب.
* الرئيس الفرنسي كان واضحا حينما اعترف بأن السياسة الفرنسية لم تفعل الكثير لمعالجة تكاليف المعيشة في المدن الفرنسية الكبرى.
* معارضة الحركة الاحتجاجية من قطاعات واسعة من المواطنين ارتبطت بمشاركة «الملثمين» وتعمدهم اللجوء إلى التخريب في الشوارع الباريسية.
* يصر ماكرون على استعادة «السيادة» الفرنسية، والمجد الفرنسي، يقدم مسارا بين العالمية الليبرالية والقومية الرجعية
* وصف ماكرون أركان سياسته في زيادة التنافسية، والاستثمارات في الابتكار، ورأس المال البشري، والإيمان بالسيادة بالفرنسية
* إن كانت بريطانيا هي «عضلات» القارة القوية وسيدة البحار، وألمانيا هي خزينة أوروبا التي لا تنضب، تبقى فرنسا هي العقل الأوروبي المفكر ومنارة التنوير.
باريس: تطورات متسارعة شهدتها العاصمة الفرنسية باريس وضواحيها، انتقلت تدريجيا لمدن كثيرة أخرى، لتعبر عن حركة احتجاجية تنامت بسبب السياسات الحكومية الخاصة بإعادة تسعير الوقود. «حركة الغضب» تجاوزت ردود الفعل السلمية واتسمت بالعنف. فمنذ 17 نوفمبر (تشرين الثاني) 2018 شهدت مدن مختلفة، سيما العاصمة موجة واسعة من المظاهرات الاحتجاجية صاحبتها أعمال شغب واضطرابات وحرق سيارات واشتباكات بين الشرطة والمحتجين الذين أطلق عليهم «أصحاب السترات الصفراء»، وبينما كانت تجري الأحداث الدامية في «مدينة الموضة» و«عاصمة الثراء»، فإنها استدعت مشاهد أخرى لأحداث عنف واضطرابات طالما شهدتها بعض دول العالم الثالث.
المظاهرات في بدايتها اتسمت بطابعها الاجتماعي والاقتصادي، حيث عبرت عن مطالب طبقة اعتبر قطاع منها أن مصالحها قد غُيبت عمدا عند صوغ معالم سياسات استهدفت إحداث إصلاحات اقتصادية. وربما عبرت المظاهرات عن قطاعات أصابها الإحباط نسبيا بسبب مراكمة آمال كبيرة وضعت على عاتق رئيس شاب جاء من الصفوف الخلفية ليحتل صدارة المشهد السياسي في دولة تعد أحد أقطاب الساحة الدولية. وبينما طالب الرئيس إيمانويل ماكرون بالفرصة كاملة حتى يستشعر المواطنون ارتدادات الإصلاحات الاقتصادية والمالية، فإن سرعة الأحداث وتوالي مشاهد العنف - بسبب عمليات الإحراق والتخريب التي اتبعها قطاع من المحتجين، واستخدام الأمن، في مقابل ذلك «العصة الغليظة» - جعلت شعارات الدعوة لتغيير النظام لا تقتصر على قطاع من المحتجين، وإنما طالت أيضا أحزابا سياسية وقاداتها، بفعل المطالبات بضرورة الاستجابة لحركة الاحتجاج ومطالب التغيير.
وعلى الرغم من ذكاء الرئيس الفرنسي واستجابته للمطالب، فإن مشاهد العنف الباريسية غطت على معالم المدينة وبدت وكأن «باريس تحترق». هكذا عبر الكثير من المثقفين في جادة فوش المتفرعة من ساحة «الإتوال» التي يتربع فوقها قوس النصر، الذي أصابه ضرر شديد بسبب عمليات التخريب، والتي أفضت إلى اعتقال وإصابة المئات ما بين مدنيين وأمنيين، وذلك في حدث اكتسب زخما عالميا بسبب عمليات الحشد والتأجيج التي جاءت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، تعبيرا عن رفض قطاع من المواطنين الفرنسيين رفع أسعار الوقود والكهرباء، وتعبيرا عن عدم الرضا عن ارتفاع تكاليف المعيشة، بما أفضى إلى إقدام المحتجين على إغلاق طرق في أنحاء مختلفة من البلاد وإعاقة الدخول إلى مراكز تجارية ومصانع وبعض مستودعات الوقود.
الرئيس الشاب البالغ من العمر 40 عاما بدا متزنا في مواجهة الأزمة الأكبر منذ بلوغه السلطة، رغم أن قطاعاً من ناخبيه، حسب المؤشرات، يرى أن سياساته الاقتصادية تصب لصالح الأثرياء والشركات الكبرى وحسب. وعلى الرغم من حدة الأحداث لم يقدم الرئيس تنازلات سريعة، وإنما تراجع بعد فترة زمنية طويلة نسبيا كخيار برغماتي، ليعلن إلغاء سياسات التسعير الأخيرة، وذلك تغليبا للواقعية السياسية، وتأثرا بحجم الأضرار الاقتصادية التي لحقت بالدولة، بفعل الاحتجاجات ومستغليها.
وكان الرئيس ماكرون قد ذهب إلى بوينس آيرس وعقد لقاءات ودية مع كبار زعماء العالم، من ضمنهم الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، الذي شهد بدورة سلسلة من الاجتماعات المكثفة مع كثير من زعماء العالم. حاول الرئيس الفرنسي في المحفل الدولي إظهار التماسك والإمساك بزمام الأمور، وحين العودة كانت أولى جولاته إلى «قوس النصر» الذي يعود تاريخه للقرن التاسع عشر، وذلك في دولة تعد من أعرق الديمقراطيات في العالم، غير أنها بدت خلال «مفارق طرق» تاريخية تقف أمام حالة مذهلة من الغضب الشعبي، وكأنها تستنسخ الشرق الأوسط، في نسخة أوروبية، وإن كانت فعليا، لم تفعل ذلك.
مشاهد تقليدية في تاريخ الجمهورية الفرنسية
أحداث العنف وحرق السيارات لم تكن غير تقليدية على عاصمة شهدت ضواحيها قبل سنوات معدودة أحداث عنف مشابهة، ولكنها تجاوزتها، على نحو لم يكن متوقعاً أن تشاهد مرة أخرى سيارات محروقة بالعشرات، ودخانا كثيفا يغلف الكثير من الأحياء الباريسية، وجولات كر وفر منذ الصباح الباكر بين رجال الأمن الذين جُند منهم ما يزيد على 5.5 ألف عنصر، وبين المحتجين، وإطلاق قنابل صوتية وأخرى مسيلة للدموع، وتراشق بالحجارة، وحرائق منتشرة في أكثر من دائرة، وتهشيم واجهات بنوك والدخول إليها، وإغلاق برج إيفل أمام السياح، وإخلاء المخازن الكبرى في أوج الفترة السابقة لأعياد رأس السنة وسرقة بعضها.
وكان واضحا، رغم التكتيكات الأمنية، أن المتظاهرين نجحوا في إرباك القوى الأمنية لأنهم أشعلوا أكثر من جبهة في وقت واحد توزعت بين الجادة المتفرعة من ساحة «الإتوال» الواقعة أعلى الشانزليزيه امتدادا إلى جادات كليبر، وفوش، وغراند أرميه، نزولا إلى شارع ريفولي التجاري المعروف بفنادقه الفخمة. ومن هناك توجه المتظاهرون، الذين كانت تحلق فوقهم باستمرار طوافتان أمنيتان، إلى ساحة الأوبرا ومنها إلى المخازن الكبرى الشهيرة «لافاييت» و«برنتون». ولم تقتصر الحركة الاحتجاجية على العاصمة وحدها بل شملت مناطق فرنسية أخرى، إذ شهدت مدن في بوردو، وتولوز، وتارب، وأوش، وفي مناطق أخرى جنوب غربي فرنسا، صدامات بين المحتجين ورجال الأمن.
وقد ترأس الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الذي عاد من قمة مجموعة العشرين في الأرجنتين، اجتماع أزمة، غداة الفوضى التي شهدتها باريس في إطار تحرك «السترات الصفراء»، فيما درست الحكومة خيار العودة إلى حالة الطوارئ للحيلولة دون تكرار أسوأ أحداث شغب تشهدها فرنسا منذ سنوات. واجتمع ماكرون برئيس الوزراء إدوار فيليب، ووزير الداخلية كريستوف كاستانير، لإيجاد حل لأزمة يبدو أنها خرجت عن إطار السيطرة، ولدرس الأحداث التي أفضت إلى أن تشهد الأحياء الراقية في باريس عصيانا وأعمال عنف. لا يرتبط ذلك بمحض الأحداث الراهنة، وإنما يتعلق أيضا بطبيعة الخبرة التي راكمها ساسة فرنسا وقاداتها، عبر عقود خلت، بفعل مواجهة مثل هذه الأزمات.
إن فرنسا التي تُعد مهد الثورات الأوروبية في العصر الحديث، صاغت ذلك وحددت حقيقته الثورة الفرنسية في أواخر القرن الـ18. تلك الثورة التي لم تهدأ حتى أسست لعقد اجتماعي مغاير، بعد أن أحدثت تغيرات سياسية هائلة. فرنسا عاصمة السياحة وذات المدن التاريخية الرائعة كان العنف والتذمر جزءا خافتا من تاريخها المتقلب، ولم يكن غريبا على السياسة الفرنسية أن تشهد ذلك منذ أكثر من 200 عام. ففي مايو (أيار) ويونيو (حزيران) من العام 1968 وقع ما أطلق عليه «انتفاضة الشباب»، لكنها لم تكن انتفاضة تقليدية عابرة، بل كانت ثورة على المفاهيم السائدة آنذاك.
ففي 14 مايو من ذات العام أعلن الإضراب العام، وشارك فيه نحو 10 ملايين مواطن، واستمر قرابة شهر، ولم ينته إلا بموافقة الدولة على زيادة الحد الأدنى للأجور 37 في المائة، والموافقة على تمثيل العمال في نقابات المصانع، ودعا الزعيم التاريخي شارل ديغول إلى انتخابات مبكرة. فرنسا في السبعينات والثمانينات لم تعد فرنسا الخمسينات والستينات، تغيرت إلى الأفضل في كل المجالات، سياسيا واقتصاديا وفكريا، حتى الثقافة والفنون تأثرت بالإيجاب، الصوت الشاب صار مسموعًا ومؤثرا.
لذلك، فإن تقديرات رائجة تشير إلى أن الأزمة الحالية، ربما بدأت مع الصعود الهادئ لليمين الأوروبي، سيما مع مرحلة الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، ففي بداية عهده بدا أن من أهدافه القضاء على ميراث حركة مايو ويونيو 1968، لأنه - وكما كل اليمين في فرنسا - يعتبر أن تلك الحركة تمثل تهديدا لأفكار جناحه السياسي. وثمة من يقارن بين ما عاشته العاصمة الفرنسية، مؤخرا، وبين ما عرفته في ربيع عام 1968.
بيد أن سياسات ماكرون لإصلاح قانون العمل أو السكك الحديدية أو نظام الضرائب على مدى 18 شهرا خلت، لم تواجه سوى بمقاومة لا تذكر لكنها انتهت باحتجاجات أصحاب «السترات الصفراء» التي حولت أجزاء من فرنسا إلى ساحة حرب، هذا إلى أن أطفأ حرائقها نسبيا الرئيس الفرنسي بفوزه بالنقاط عبر الإعلان عن تأجيل الإصلاحات الاقتصادية، ربما هذا الإطفاء مؤقت ولكن خبرة السياسة الفرنسية تُخبر دائما أن «الحرائق» والاضطرابات، وإن كانت مؤقتة، فإنها جزء متكرر من التاريخ الفرنسي العتيق.
«السترات الصفراء»... ظاهر أوروبية
أجبرت الاحتجاجات رئيس الوزراء الفرنسي إدوارد فيليب على إلغاء مشاركته في القمة العالمية للمناخ في بولندا، لمتابعة المظاهرات، خاصة بعدما دعا ماكرون رئيس وزرائه ووزير داخليته إلى التأهب لمجابهة الاحتجاجات، ولم يكن ذلك تعبيرا عن قلق فرنسي، بقدر ما جسد قلقا أوروبيا عاما من نظرية «الأواني المستطرقة»، والتخوف من انتقال المظاهرات إلى ساحات أوروبية مجاورة في محاولة لاستنساخ صيغة «السترات الصفراء». ويطلق اسم «السترات الصفراء» على المحتجين، لأنهم خرجوا إلى الشوارع مرتدين السترات الخاصة بالرؤية الليلية لسائقي السيارات.
يقول الرئيس ماكرون في مواجهة هؤلاء إن حافزه للزيادة يتعلق بالرغبة في الحفاظ على البيئة والاعتماد على «الطاقة النظيفة»، بيد أن المحتجين يصفونه بفقدان الصلة مع سكان الريف الذين يحتاجون لاستخدام سياراتهم بشكل منتظم. وليس هناك لأصحاب «السترات الصفراء» قيادة واحدة، إنما هم مجموعات احتجاجية التقت في نقطة عابرة تتعلق بسياسات الدولة الاقتصادية، وبينها تباينات سياسية واقتصادية وآيديولوجية ضخمة، وقد اكتسبت المظاهرات زخما عبر وسائل التواصل الاجتماعي وجذبت إليها فئات مختلفة من الفوضويين في أقصى اليسار إلى القوميين في أقصى اليمين.
الرئيس الفرنسي كان واضحا حينما اعترف بأن السياسة الفرنسية لم تفعل الكثير لمعالجة تكاليف المعيشة في المدن الفرنسية الكبرى. هذا فيما قال المحلل السياسي الفرنسي، جان باتيست سيميردجيان، إن المتظاهرين أتوا من ضواحي المدن المتوسطة في فرنسا للتظاهر احتجاجا على ارتفاع أسعار الوقود التي أقرتها الحكومة. وأضاف أن المظاهرات لا تقتصر على طبقة الفقراء، فجميع طوائف الشعب من الطبقة الوسطى والأنراكيست، حضروا في شارع الشانزليزيه للاحتجاج. ولفت جان باتيست إلى أن المتظاهرين يطالبون برحيل ماكرون، بعدما رفعوا لافتات مكتوبا عليها بالفرنسية «ماكرون ديميسيون» أو «سقوط ماكرون».
وأوضح أيضا أن المظاهرات الحالية تأتي نتيجة ضعف الاقتصاد المحلي، حيث وصلت البطالة في فرنسا إلى 9.3 في المائة، بالإضافة إلى أن القدرة الشرائية للمواطنين تراجعت على نحو دراماتيكي. واستطرد جان سيميردجيان، قائلا: «هذا الصباح سألت رجلا عن سبب مشاركته بالمظاهرات، فأجابني أنه قادم من الشمال في ساعتين بالسيارة لأن ليس لديه المال لشراء هدايا عيد الميلاد»، مؤكدا أن ذلك الشيء يكشف عما وصل إليه الشعب الفرنسي بسبب اقتصاد ضعيف.
فيما أضاف بافان نيلز، الذي يعمل كسائق: «يتعين على فرنسا أن تكون واعية للبيئة وتغيرات المناخ التي يهتم بها الرئيس كثيرا، ولكن هذا لا يدفع ثمنه الأشخاص العاملون وحسب». وثمة دراسة أجراها المرصد الفرنسي للأوضاع الاقتصادية، تشير إلى تراجع الدخل السنوي للأسر الفرنسية بمقدار 440 يورو بين 2008 و2016. وانطلاقا من هنا، فإن حركة «السترات الصفراء» التي نجحت في جمع أكثر من 270 ألف شخص من غير أن يقودها زعيم سياسي أو نقابي، تفتح فصلا جديدا في تاريخ فرنسا الطويل في الاحتجاجات الضريبية، بل إنها تذكر في بعض أوجهها بانتفاضة الفلاحين على الزيادات الضريبية أيام الملكية عام 1358.
وقد امتد حراك «السترات الصفراء» إلى هولندا، بالتزامن مع تنظيم الحراك ذاته في فرنسا، حيث تجمع متظاهرون في شوارع عدد من المدن الهولندية، على رأسها لاهاي، ونيميجن، وماستريخت، وألكمار، ويوفاردن إن جرونينجنو، استجابة للدعوات التي تم تداولها على مواقع التواصل الاجتماعي للاحتجاج على سياسات الحكومة. وتظاهر نحو 200 شخص من أنصار «السترات الصفراء»، أمام البرلمان الهولندي في مدينة لاهاي؛ مما دفع الشرطة الهولندية إلى إغلاق مبنى البرلمان. وانتقلت عدوى الاحتجاجات من فرنسا إلى بلجيكا، أيضا، حيث شارك نحو 600 شخص كانوا في مظاهرة بالعاصمة بروكسل، اعتراضا أيضا على ارتفاع تكاليف المعيشة وزيادة الضرائب.
معارضة الحركة الاحتجاجية من قبل قطاعات واسعة من المواطنين ارتبطت بمشاركة «الملثمين» وتعمدهم اللجوء إلى عمليات التخريب في الشوارع الباريسية، وضلوع مخربين أفسدوا سلمية الاحتجاجات وسحبوا كثيرا من «مشروعيتها»، وهذه المشاهد وفرت للتيارات اليمينية محاولة التأثير على وجاهة أفكارها وأعادت لها، من وجهة نظر بعض أقطابها، أحقية الدعوة لوقف الهجرة إلى أوروبا، وهو موقف يميني لا يقتصر على فرنسا بل يتعداها إلى بلجيكا وبولندا وإيطاليا وألمانيا وغيرها.
إن الحدث الفرنسي يُعد أوروبيا بامتياز ليس بحكم الجوار وعضوية الاتحاد الأوروبي، وإنما لما لفرنسا من تأثير في الجوار الأوروبي المباشر وغير المباشر، فقد رفع بعض المتظاهرين شعار «فريكست» على غرار «بريكست» أي فرنسا خارج الاتحاد الأوروبي. ومنذ عام تقريبا كتبت مجلة «التايم» الأميركية في صفحتها الأولى، وبجانب صورة الرئيس ماكرون التي ملأت الصفحة: «القائد القادم لأوروبا»، غير أنها كتبت في أسفل الصفحة مستطردة: «فقط إذا تمكن من قيادة فرنسا».
إدارة الأزمة والرهان على «الوقت»
تمهلت الحكومة الفرنسية حتى يدرك الجميع خطورة الحركات الاحتجاجية على الاقتصاد ومدى الأضرار الناتجة عن استخدام التخريب كـ«ورقة ضغط» في إدارة الاقتصاد ومواجهة السياسات الحكومية. أحد محركات ذلك ارتبطت أيضا بعدم الرغبة في إظهار ضعف الإرادة والقدرة على مواجهة الأزمة عبر التراجع أمام المطلب الأول لـ«السترات الصفراء» حتى لا يبدو أن السلطة قد تراجعت سريعا تحت ضغط الشارع، وبالتالي يغدو من الصعب إكمال الرئيس خططه الإصلاحية للسنوات الثلاث والنصف المتبقية له.
في البداية اقترح الرئيس «آلية» غامضة تعلقت بمراقبة ارتفاع أسعار النفط عالميا، وتكييف زيادات الرسوم على الوقود بموجب صعودها وهبوطها. بيد أن هذا لم يفلح في تهدئة حركة الاحتجاجات، ووفق المراقبين في باريس، فإن كلام الرئيس عن فهم شكاوى الناس «لم يترجم إلى أفعال» حتى نجحت الدولة في إطفاء الشعلة التي كانت وراء انطلاق الاحتجاجات، والمتمثلة في سياسات تسعير الوقود الجديدة. وقد ارتبط ذلك على جانب آخر بارتفاع الأصوات داخل الحزب الرئاسي «الجمهورية إلى الأمام» ذاته، وكذلك من حليف ماكرون، فرنسوا بايرو، الذي دعا السلطات إلى القيام بمبادرات من شأنها تفكيك «اللغم المتفجر» الذي يكاد يأخذ البلاد إلى الهاوية، سيما بعد أن تحولت الحركة الاحتجاجية لتغدو غير محصورة بالوقود، لتطول «سلة مطالب»، تتضمن خفض الضرائب، وزيادة الحد الأدنى للرواتب، ورفع المعاشات التقاعدية. وقال رئيس مجلس الشيوخ، جيرار لارشيه، إنه ينبغي على الحكومة كـ«بداية» أن تجمد زيادات الرسوم لإقناع السترات الصفراء بالجلوس إلى طاولة الحوار، والبحث جماعيا عن حلول.
وقد هبطت شعبية ماكرون إلى أقل من 30 في المائة. هذا في وقت اعتبر قطاعات من المواطنين أن السلطة تنحاز للأغنياء، ذلك أن قرار خفض الضرائب على أرباح الأسهم والمدفوعات الاجتماعية للشركات، والتي نظر له من الناحية الاقتصادية كخطوة لتحفيز الاستثمار وتشجيع التوظيف. بيد أن عدم مصاحبة ذلك لتخفيضات مماثلة على الضرائب المفروضة على العمال والفقراء روج لفكرة كون ماكرون «رئيسا للأغنياء»، حسب وصف معارضيه.
المعارضة الفرنسية... محاولة توظيف الأزمة
ثمة إجماع نسبي داخل حزب ماكرون على أن التعاطي مع أزمة «السترات الصفراء»، وكبح «المخربين» و«المشاغبين» القادمين من أقصى اليمين واليسار، يمران عبر تمكن الدولة من توفير رد مزدوج: أمني من ناحية، للضرب بيد من حديد على من حطم وأحرق ونهب واستهدف قوات الأمن، ومن ناحية ثانية سياسي، لا يمكن أن يكون دون الحد الأدنى المطلوب، أي «تجميد» زيادات الضرائب على الوقود والكهرباء التي قررتها الحكومة بحجة خفض الاعتماد على «الطاقة الملوثة»، والانتقال إلى الطاقة النظيفة.
وفي هذا السياق طلب ماكرون من رئيس الحكومة إدوار فيليب أن يلتقي «السترات الصفراء»، وكذلك رؤساء الأحزاب الممثلين في البرلمان للتشاور. والحال أن فيليب حاول الحوار مع ممثلين عن «السترات الصفراء» الذين افتقدوا لبنية تمثلهم، إلا أن المحاولة باءت بالفشل، لأن شخصين فقط قبلا الالتقاء به، وأحدهما انسحب بعد 3 دقائق من وصوله إلى القصر الحكومي، بحجة أن اللقاء لم يكن متلفزًا.
وكان وزير الداخلية كريستوف كاستانير، الذي توجه إليه اتهامات بالجملة بسبب أعمال الشغب، وفشل القوى الأمنية في التعامل معها، قد أشار إلى أنه «لا محرمات أمام الحكومة، وأن فرض حالة الطوارئ مجددا يمكن أن يقرر». لكن وزيرة العدل نيكول بيلوبيه «تحفظت» على ذلك، مما يعني أن إجراء كهذا مؤجل، إن لم يكن مستبعدا، خصوصا أن إقراره يدل بمعنى ما على أن الأمور قد خرجت عن السيطرة، وهو ما تريد باريس استبعاده.
يأتي ذلك في وقت اعترف فيه رئيس حزب «الجمهورية إلى الأمام»، ستانيسلاس غيريني، بالقطيعة بين الحكومة والطبقة السياسية وبين الشعب، بقوله: «إننا ابتعدنا كثيرًا عن واقع الفرنسيين»، وهو ما سبق أن اعترف به ماكرون. وربما يدل كلام رئيس الحزب على وجود تساؤلات وانقسامات داخله، وبعض النقمة على طريقة تعاطي الحكومة مع هذه الأزمة.
وقد حاولت أحزاب المعارضة استغلال الأحداث لإظهار ضعف الحكومة. وقد وصفت المعارضة الفرنسية بشقيها اليساري واليميني الأداء الأمني في مواجهة أعمال التخريب بـ«القمع غير المقبول». هذا فيما طالب البعض بالدعوة لانتخابات برلمانية مبكرة، حيث تمت الدعوة إلى حل المجلس التشريعي، مثل جان لوك ميلونشون، رئيس حزب «فرنسا المتمردة»، أي اليسار المتشدد، ومارين لوبان، زعيمة حزب «التجمع الوطني»، أي اليمين المتطرف، وحسب رأي الاثنين، فإن المجلس لم يعد يمثل الفرنسيين، وبالتالي يتعين حله للخروج من المأزق السياسي الحالي.
وفي صفوف اليمين، دعا زعيم الجمهوريين، لوران فوكييه، إلى استفتاء حول السياسة البيئية والضريبية. وطلبت مارين لوبان لقاء ماكرون مع زعماء الأحزاب السياسية المعارضة، كما طالبت بحل الجمعية الوطنية، وإجراء انتخابات جديدة. وفي معسكر اليسار، طلب زعيم الحزب الاشتراكي، أوليفييه فور، تشكيل لجان حول القدرة الشرائية للمواطنين. أما جان لوك ميلانشون، زعيم حركة «فرنسا المتمردة»، فدعا إلى إعادة فرض الضريبة على الثروة، مشيدا بـ«تمرد المواطنين الذي يثير الخوف لدى ماكرون والأثرياء». هذا فيما دعت زعيمة حزب «التجمع الوطني» الفرنسي المعارض، مارين لوبان، إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة. وقالت لوبان، في سلسلة تغريدات نشرتها على حسابها الرسمي على «تويتر»: «من الضروري تطبيق نظام الانتخابات البرلمانية القائمة على التمثيل النسبي، وحل الجمعية الوطنية».
من جانبه، دعا فرنسوا آسيلينو، رئيس الاتحاد الشعبي الجمهوري، إلى إجراء غير مسبوق، تنص عليه المادة 68 من الدستور الفرنسي. ويقضي الإجراء بـ«عزل» الرئيس من قبل البرلمان. وكان ماكرون قد صرح، بأنه لن يعطي شيئا للذين وصفهم بـ«مثيري الفوضى»، في إشارة إلى أصحاب «السترات الصفراء»، مؤكدا أنه لن يساوي بين المخربين ومريدي الفوضى، وبين المواطنين المعبرين عن آرائهم.
وفي هذا السياق، ثمة كثير من التقديرات تشير إلى أن الصعود السياسي لماكرون ربما كان محركه الرئيسي أزمة سياسية واقتصادية حادة، وأن الرئيس الفرنسي لم يفز بفضل أصوات حزبه الذي لم يكن عمره يتجاوز العام الواحد، بل فاز نتيجة الاتفاق بين أحزاب الوسط واليسار على دعم ماكرون الذي كان يحظى بفرص أفضل، بوصفه وجها جديدا، ولديه خبرة كبيرة في الاقتصاد.
اعتمدت حملة ماكرون الانتخابية على أنه المنقذ من الأزمة الاقتصادية المزمنة، ورفع ماكرون شعار «الإصلاح الجذري» من خلال ما سماه «الصفقات الكبرى»، معلنا خطة استثمارية عامة بقيمة 50 مليار يورو، لإيجاد نموذج جديد للنمو وإنعاش الاقتصاد، غير أن النتائج لم تكن، حسب تقديرات، على المستوى المتوقع، فقد حقق الناتج المحلي نموا لا يتجاوز 2 في المائة، وهو أقل من معدل النمو الضعيف في عام 2017. والذي بلغ 7 في المائة، وتعزز ذلك بأرقام تراجع النمو في الإنفاق الاستهلاكي، المحرك الرئيسي للنمو الاقتصادي، ليبلغ 1 في المائة، بينما كان متوقعا أن يرتفع إلى 6 في المائة.
ورغم ذلك فإن سياسات الرئيس الفرنسي حُملت عبء دين عام ضخما يصل إلى 3.3 تريليون يورو، ويقترب من 100 في المائة من حجم الناتج المحلي الإجمالي، بما يمثل معطى غير إيجابي، سيما أن البنك المركزي الأوروبي قرر رفع نسبة الفائدة على القروض، أخذا في الاعتبار أن مستوى المعيشة في كل من فرنسا وألمانيا كان متقاربا ومرتفعا منذ 15 عاما، فإن مستوى المعيشة الآن في ألمانيا يتفوق على فرنسا بخمس مرات، وكانت معدلات البطالة في البلدين 8 في المائة، وتراجعت البطالة في ألمانيا إلى 4 في المائة، بينما اقتربت في فرنسا من 10 في المائة.
برنامج ماكرون لتخطي هذه الأزمة الصعبة اعتمد على خفض الإنفاق العام بقيمة 60 مليار يورو خلال خمس سنوات، عبر اتباع سياسة تقشف، ثمة من اعتبرها مؤذية لقطاعات عريضة من الشعب الفرنسي، بحسبانها تتضمن إلغاء 120 ألف وظيفة في القطاع العام، من خلال تشجيع التقاعد المبكر، وتعديل قانون العمل، والاستعداد لاستقبال 200 ألف مهاجر مستعدين للحصول على أجور أقل من العمال والموظفين الفرنسيين، وفي مقابل ذلك يسعى لتخفيف حدة الأزمة الاجتماعية بخفض ضريبة الإسكان على الفقراء وتحسين الرعاية الصحية والاجتماعية وإعانات البطالة. ورغم إعلان ماكرون خفض العبء الضريبي على الأسر والشركات بنحو 25 مليار يورو في العام المقبل، فإنه لم يجد صدى لتلك الوعود، سيما بعد رفع ضرائب الضمان الاجتماعي التي أضرت بشكل مباشر بأصحاب المعاشات.
ويعتقد ماكرون أن الاقتصاد الفرنسي لن يمكنه التطور في ظل الأجور العالية للعامل الفرنسي الذي يحصل على حد أدنى مرتفع للأجور ينص عليه القانون، وارتفاع الضرائب على الشركات التي تسدد نحو ثلث أرباحها، وأن عليه أن يقلص من أجور العمال ويخفض الضرائب على الشركات، لتتمكن السلع الفرنسية من الصمود أمام المنافسة في الأسواق الدولية، ولهذا يتمسك ببرنامجه الاقتصادي الذي لا يحظى بتأييد جماهيري كبير، بفعل عوامل كثيرة من ضمنها تصاعد أدوار «اليمين الشعبوي» الذي لا يريد لفرنسا البقاء في الاتحاد الأوروبي.
الاحتجاجات ومستقبل ماكرون السياسي
بنى الرئيس الفرنسي قسما من سمعته السياسية على قدرته على تطبيق الإصلاحات، وأي تحول عن ذلك يمس جوهر سياساته، بما يجعل مشروعه السياسي والاقتصادي بين شقي رحى، حيث تصاعد الاحتجاجات على سياساته الاقتصادية، من ناحية، ومن ناحية أخرى، عدم القدرة على تحقيق تقدم اقتصادي، وفق برنامجه، من دون إجراء تحولات اقتصادية ومالية كبرى.
وعلى الرغم من الانخفاض النسبي في شعبية الرئيس إيمانويل ماكرون إلى 26 في المائة، غير أن هذا الرقم لا يزال أعلى بكثير من نسبة الـ4 في المائة، التي وصل لها معدل تأييد سلفه فرنسوا هولاند، كما أن ماكرون لا يزال أمامه 3 سنوات ونصف في الحكم. وفي مقابلة مع شبكة «سي إن إن»، اعترف ماكرون بأن الإجراءات الاقتصادية التي فرضها لم تلق تأييدا جماهيريا عريضا، غير أنه توقع أن الفرنسيين سيشعرون بالأثر الإيجابي خلال «18 إلى 24 شهرا على الأقل».
إن ماكرون يستطيع البقاء حتى ذلك الحين تأسيسا على كونه يتمتع بميزة لا يحظى بها أى زعيم غربي آخر في الوقت الراهن، وهي الأغلبية التشريعية المتجانسة والتماسكة، والتي تدين له بالولاء، ذلك أن ماكرون يُعد صاحب الفضل في وجود حزب «الجمهورية إلى الأمام»، ولم تضعف قبضة ماكرون على أغلبيته الكبيرة في البرلمان الوطني إلا في أحيان قليلة للغاية، فقط عدد قليل من أعضاء حزبه حثوه على إلغاء الضريبة على الوقود. وقال عضو البرلمان، جول لوبويك، إنه رأى في الاحتجاجات «أزمة تمثيل» ناجمة عن انهيار المؤسسات التي تم من خلالها توجيه النقد، بما في ذلك النقابات، وأحزاب المعارضة، ولكن ليس رفضا مباشرا لسياسات ماكرون.
وفي أحد الاستطلاعات الأخيرة، أكد ثلثا المستطلعين أن السياسات الضريبية التي فرضها ماكرون، بما في ذلك خفض معدلات الفائدة على الأصول الفردية، والشركات، قد فاقمت من عدم المساواة الاجتماعية، ولم يكن مستبعدا هذه الارتدادات القاسية للقرارات، في بلد يعتبر المساواة مبدأ مقدسا. ويدرك الفرنسيون أنهم يعانون من معدل النمو المنخفض، والبطالة، لكنهم يقاومون قانون العمل، وإصلاحات الضرائب التي نجحت في ألمانيا، والدنمارك، ودول أخرى في شمال أوروبا. وحسب تقديرات، فإن ذلك يتأسس على أن الناخبين لم يعطوا ماكرون تفويضا للإصلاح الاقتصادي، بقدر ما أدى انهيار الأحزاب التقليدية إلى جعله البديل الوحيد لمارين لوبان من الجبهة الوطنية، فصوت الفرنسيون لصالح الجمهوريين، وليس لليبرالية.
إن عدم وجود البدائل المعتادة كان في صالح ماكرون في الانتخابات الأخيرة، وحتى الآن، أضرت الاحتجاجات به، ولكنها لم تساعد أيا من منافسيه. لقد أصبح من الواضح بشكل متزايد أن ماكرون قائد قوي، وسياسي متشدد، فقد تمسك بـ«بنادقه» في حين لم يفعل ذلك الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، وكذلك الرئيس السابق فرنسوا هولاند، وقد رفض حتى الآن إلغاء ضرائب الوقود، ولكنه، بدلا من ذلك، اقترح إصلاحا معقدا يسمح بتغيير الرقم بشكل دوري من خلال التصويت في الجمعية الوطنية، ثم قام باقتراح تأجيل فرض سياسات التسعير الجديدة.
تصور ماكرون أن الفرنسيين يريدون رئيسا جديدا يشبه شارل ديغول، فقد قال إن الفرنسيين ما زالوا يشعرون بغياب الملك، وإنهم يتحدثون بحزن شديد عن عقيدة «الديمقراطية البطولية» التي يجسد فيها الزعيم «روح الشعب»، وسعى للعثور على تلك المسافة بين التكنوقراطيين، والملكية، ولكن يمكن للمرء أن يلاحظ أنه حتى الآن لم يتم إقناع الفرنسيين بالتكنوقراطيين، ولا الملكية، فيعتبره الفرنسيون نخبويا ينفذ سياسات تفيد النخبة على حساب الطبقة المتوسطة المضغوطة، فهم يرفضون أسلوبه وآراءه، التي تعتبر أن فرنسا يجب أن تشجع الاستثمار عن طريق تقليل العبء التنظيمي، والضريبي، على الشركات.
وعلى ما يبدو، وحسب بعض الاتجاهات، لن يغير ماكرون سياساته. وقد قال النائب الفرنسي، دومينيك ديفيد، إن الرئيس ليس بحاجة إلى تغيير أفكاره، ولكن تغيير «طريقته في تطبيقها». وفي هذا السياق تعتبر أدبيات غربية أن ماكرون ليس «الليبرالي المتطرف» الذي يتصوره منتقدوه، فهو مثل الرئيس الأميركي السابق، بيل كلينتون، ورئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، والمستشار الألماني السابق، غيرارد شرودر: «ساسة حقبة التسعينات»، يجمع بين الإيمان بآليات السوق مع الاعتقاد بضرورة ضبط الإنفاق الحكومي، فقد قام إما بإجراء أو اقتراح استثمارات كبيرة في مجال الطاقة التحويلية، والتعليم الابتدائي، والعلوم الأساسية والبحوث، والتدريب على الوظائف، ولكن كما قال أحد المتظاهرين ذوي السترة الصفراء، فإن «النخب تشعر بالقلق إزاء التغير المناخي العالمي، ويتحدثون عن نهاية العالم في الوقت الذي نتحدث فيه نحن عن نهاية الشهر».
ويمكن القول، إن سياسة ماكرون ستظل سياسات غير مقبولة شعبيا، فقد كانت ضريبة الوقود تمثل أحد الإجراءات المؤلمة التي يجب اتخاذها من أجل تقليل استهلاك الكربون، غير أنه تراجع عنها بسبب شدة الاحتجاجات، ودعا ماكرون إلى اتحاد أوروبي قوي في الوقت الذي يقول فيه معظم الناخبين إنهم يريدون اتحادا أضعف، وفي خضم النزعة القومية المتصاعدة، فإن صوت ماكرون يبدو وكأنه صوت يدعو للتعددية بلا تردد، فهو يرفض القيام بحملة ضد اللاجئين والهجرة.
وربما يُعد ذلك محركا لأن يغدو مصير ماكرون شديد الأهمية، فإصراره، في الوقت نفسه، على استعادة «السيادة» الفرنسية، والمجد الفرنسي، يقدم مسارا بين العالمية الليبرالية والقومية الرجعية، وفي مقابلة «سي إن إن» وصف ماكرون أركان سياسته ممثلة في زيادة التنافسية، والاستثمارات في الابتكار، ورأس المال البشري، والإيمان بالسيادة بالفرنسية، بحسبانها أفضل حل لتصاعد أدوار التيارات الشعبوية. إشكالية فرنسا الخاصة أن الجميع أوروبيا ودوليا ينظر إليها بوصفها العقل الأوروبي المفكر ومنارة التنوير، حتى وإن كانت بريطانيا هي «عضلات» القارة القوية وسيدة البحار، وألمانيا هي خزينة أوروبا التي لا تنضب، لكن المثال الفرنسي يبقى نموذجا عادة ما يحتذى من قِبل بقية شعوب أوروبا.