تقع ألمانيا في معضلة صعبة. من جانب، أثبتت أرقام النمو المرتفعة في البلاد صحة إستراتيجيتها للنمو، التي تعتمد على التصدير، وصحة الادعاءات بأنها تساعد على تعافي منطقة اليورو. ولكن من جانب آخر أثار النجاح الاقتصادي الأخير الذي حققته ألمانيا غضب المواطنين الألمان الذين شعروا بأن إجمالي المكاسب التي تحققها البلاد لا يصل إليهم. في الوقت ذاته، ترى بعض الدول الأوروبية، مثل فرنسا، أن تفوق ألمانيا دليل على أن وفرة الصادرات تزيد من عدم التوازن الاقتصادي داخل منطقة اليورو، بينما تحرص الولايات المتحدة على أن تبتعد ألمانيا عن خطط التقشف المالي لصالح خطة إنفاق تحفيزية للتشجيع على زيادة الطلب العالمي.
إذا كانت المستشارة الألمانية تجد سببا لتغيير مسار سياساتها، فسيكون لديها أمل ضئيل لتنفيذ ذلك التعديل. في انقيادها للغضب الشعبي بشأن أزمة اليونان ومطالبتها باتخاذ إجراءات تقشفية صارمة في اليونان ودول أخرى في منطقة اليورو، أجبرت ميركل حكومتها على اتخاذ موقف مضلل لا يمكن التراجع عنه فيما يتعلق باحتياجات ألمانيا المالية ودورها في إنعاش منطقة اليورو.
وترجع إرادة ميركل الحديدية في تنفيذ التقشف المالي إلى حد ما بسبب السياسات قصيرة النظر. فبعد مواجهة انتقادات حادة بسبب سوء إدارتها للانقسامات الداخلية في ائتلافها وكثرة الحديث عن أزمة اليونان والديون في منطقة اليورو، ستبدو ميركل في موقف أضعف إذا تراجعت عن دعواتها إلى انضباط مالي في ألمانيا في الوقت الحالي. ويعاني ائتلافها الذي ينتمي إلى يمين الوسط من فقدان شعبيته في مرحلة الاستعداد للانتخابات التي تجري العام المقبل. ويبدو أن الديمقراطيين المسيحيين على وجه التحديد معرضون لخطر فقدان النفوذ في ولاية بادن فورتمبيرغ الجنوبية، بعد أن تعرضوا بالفعل لهزيمة معطلة في شمال الراين - وستفاليا. وقد صرح المتحدث باسم ميركل لشؤون الميزانية مؤخرا: «يعلم الناس أنه عندما تصبح البلاد مثقلة بكثير من الديون، يصبح استقرار العملة مهددا».
ربما يخاطب التركيز على الديون والمخاطر المحيطة بالعملة المخاوف التي تؤدي إلى الانتصارات الانتخابية. ولكن لن تصلح خطة التقشف المالي قصيرة المدى المشكلات الاقتصادية المتأصلة. ومع جذب منطقة اليورو، ربما يصبح موقف ألمانيا أسوأ.
لقد جعلت إعادة توحيد ألمانيا في التسعينات البلاد تسرع بالدخول في اتحادات نقدية غير مدروسة ذات ديون عامة كبيرة، وتقلب في العملة، وزيادة في الضرائب. وأدى تبني ألمانيا الشرقية للمارك الألماني كوحدة صرف مبالغ في قيمتها إلى تقدير حاد للعملة وجعل الاقتصاد في حالة من الركود الظاهري. وقد وضعت ديون القطاعين العام والخاص الثقيلة في ألمانيا الشرقية، التي أصبحت جزءا من الميزانية الفيدرالية، ضغطا كبيرا على الأموال العامة في البلاد. بالإضافة إلى ذلك، ارتفع الدين الحكومي من نحو 50 في المائة من إجمالي الناتج المحلي عام 1989 إلى 60 في المائة عام 1994. ومن أجل تقوية الاتحاد وإنعاش الاقتصاد، ضخت الحكومة كميات هائلة من الدعم في المشاريع المدينة في ألمانيا الشرقية ومنحت تخفيضات ضريبية على إنشاء المساكن لتتماشى مستويات المعيشة في ألمانيا الشرقية مع ألمانيا الغربية. وتحمل دافعو الضرائب أعباء تلك التكاليف، وكان هناك القليل من التحسن الاجتماعي. ولحل مشكلة الديون المتزايدة في البلاد، أطلق البنك الاتحادي الألماني حملة تقشف مالي اعتبرها كثيرون العمود الفقري لتعافي ألمانيا.
ولكن توجد اختلافات مهمة بين موقف ألمانيا اليوم في مقابل موقفها منذ عشرين عاما.
أولا، في حين يقول كثير من الناس أن الاتحاد النقدي في التسعينات حمّل الاقتصاد الألماني عبئا، يستفيد الاقتصاد الألماني اليوم من علاقاته بمنطقة اليورو، ولا يعاني منها. فقد زاد ضعف اليورو من قوة النمو الاقتصادي الألماني المعتمد على التصدير.
ثانيا، لا تتعرض الحكومة الألمانية لخطر الارتفاع الذي تسببه الديون في تكاليف الاقتراض في أي وقت قريب. بل على النقيض، أدى اقتصادها القوي إلى انتشار سندات الحكومة الألمانية لتصل إلى انخفاض قياسي، في حين وصلت تكاليف الاقتراض في منطقة اليورو - في إيطاليا والبرتغال وإسبانيا - إلى أعلى مستوياتها. وتثير تلك الاختلافات انعدام التوازن في منطقة اليورو، حيث يعني ارتفاع تكاليف الاقتراض في الدول ذات معدل النمو المنخفض ارتفاع تكاليف المشاريع للمُصدّرين الذين يحاولون التنافس مع ألمانيا. ولكونها تحمل عضوية الاتحاد النقدي الأوروبي، لا يمكن لتلك الدول أيضا اللجوء إلى تخفيض قيمة عملة الصرف لديها. وبدلا من ذلك تقف تلك الدول حبيسة قيمة عملة تقوي من موقف ألمانيا الاقتصادي على حسابها.
ولكن هذه هي التضحية التي قدمتها دول اليورو للدخول في الاتحاد النقدي. ومن أجل استكمال التضحية، توجد التزامات يجب أن تؤديها الحكومة الألمانية أيضا. وفي نظام يفتقد إلى سعر صرف قابل للتعديل، توافق الدول الأعضاء على هدف تضخمي، يتضمن مستويات أجور ترتفع نسبيا مع المكاسب الإنتاجية. ولدى إحكام قبضتها على تكاليف العمالة، (حيث انخفضت تكاليف العمالة الألمانية على مدار العقد الماضي نسبيا مع زيادات دول أوروبية أخرى)، أغفلت ألمانيا هذا الالتزام، وزاد النمو لديها، في حين تمارس قمعا على قدرات الألمان على الاستهلاك. وقد ارتفع الاستهلاك الخاص في ألمانيا بنسبة 21 في المائة منذ إعادة توحيد ألمانيا، مقارنة بنسبة 71 في المائة في الولايات المتحدة في غضون الفترة ذاتها.
وكما يقول الخبير الاقتصادي الألماني هاينر فلاسبيك، أدت استراتيجية «إغراق الأجور» إلى استيعاب خاطئ جدا في ألمانيا لمعنى الاتحاد النقدي، ودوافع النمو الاقتصادي الألماني، وأعباء عضوية الاتحاد الأوروبي. وليس غريبا إذن أن الألمان المجتهدين - الذين يعانون من انعدام الأمن بسبب انخفاض الأجور، والمنافع الاجتماعية الزهيدة، وانعدام الأمن الوظيفي - أكثر تشاؤما من جيرانهم المثقلين بالديون في منطقة اليورو.
لو كانت ميركل شرحت تلك الديناميكيات عندما حلت الأزمة اليونانية، لربما وجدت بلادها مساحة لمناقشة إعادة التوازن الألماني المطلوبة. ولكن بالغت الحكومة بدلا من ذلك في إظهار تداعيات الإسراف اليوناني، لتقع في مصيدة جدل سياسي يتناول اعتماد ألمانيا على التصدير ويضعف من فرص منطقة اليورو في النجاة.
* رويا ويلفرسون – كاتبة في الاقتصاد في مجلس العلاقات الخارجية في نيويورك. عملت في السابق كمراسلة مالية لمجلة «سمارت ماني» التابعة لـ«وول ستريت جورنال».