اضطراب ما بعد الصدمة داء الغالب والمغلوب في الحروب المعاصرة

اضطراب ما بعد الصدمة داء الغالب والمغلوب في الحروب المعاصرة

[escenic_image id="55149335"]

في حين تقترب الحرب في العراق من النهاية، يبدو أن هناك صراعا آخر لا يوشك على الانتهاء. فعلى الرغم من خوض تجربة الحرب من وجهتين مختلفتين، فإن العراقيين والجنود الأميركيين تعرضوا لتأثير مشابه على الجانب النفسي. يعاني جنود الجيش الأميركي العائدون بعد إعادة نشر القوات في المرتين الثانية والثالثة من أزمة صحية عقلية. لقد أصبحت نسبة الانتحار بين صفوف الجيش أعلى بكثير منها بين المدنيين على نحو غير متناسب. وبدأ المحاربون القدامى وعائلاتهم في الإعراب عن مخاوفهم من قدر العلاج المتاح لهم. تدين الحكومة الأميركية بالكثير لهؤلاء المحاربين، ويجب أن يكون علاجهم من صدمة ما بعد الحرب من بين أولوياتها لأن مجرد عجزهم عن إعادة التأقلم إلى حياتهم المدنية يشكل خطورة عليهم وعلى مجتمعاتهم. ولكن الحكومة الأميركية مدينة أيضا للعراقيين، الذين يشتركون مع الجنود الأميركيين في الضغط الذي يعانون منه.

عندما يتحدث الساسة عن المصالحة وبناء الدولة في العراق، أحيانا ما يتجاهلون أهمية الصحة العقلية في بناء مجتمعات مستقرة. بالنسبة لدولة دمرتها الحرب على مدى أعوام، وما زالت تحاول التعامل مع ما خلفته انتهاكات صدام حسين لحقوق الإنسان على صحتهم العقلية، يجب أيضا وضع الأولوية للنقص المزعج في الموارد المتاحة لعلاج مثل هذه الصدمات. في الحروب، غالبا ما تتم معالجة جراح الجسد أولا، ولكن من الممكن أن تكون الجراح النفسية التي يصاب بها كل من المدنيين والعسكريين ذات خطورة متساوية. يبلغ تعداد سكان العراق نحو 31 مليون نسمة، ولكن لا يوجد في البلاد سوى 200 عالم نفسي، قليل منهم تدرب على علاج الاضطرابات العقلية المتعلقة بالحروب. ووفقا لمقال نشرته جريدة «نيويورك تايمز»، على الرغم من أنه لا توجد وثائق تسجل عدد العراقيين المصابين باضطراب ضغط ما بعد الصدمة، فإن منظمة الصحة العالمية ووزارة الصحة العراقية تعتقدان أن نصف عدد السكان يعانون من أحد أنواع الاضطراب النفسي نتيجة للصراع.

وعلى وجه التحديد، أصبح الأطفال في العراق ضحايا لاضطراب ضغط ما بعد الصدمة. وفي لقاء مع «إن بي سي»، أشار الدكتور حيدر المالكي، عالم النفس العراقي الذي يعمل في مستشفى الأطفال التعليمي المركزي في بغداد، إلى أن «28 في المائة من الأطفال العراقيين يعانون من اضطراب ضغط ما بعد الصدمة بدرجة ما، وأن أعدادهم في تزايد مستمر».

بعد التعرض للعنف بصفة يومية طوال الأعوام السبعة الماضية، أصبح الأطفال العراقيون على نحو خاص معرضين للإصابة بهذا الاضطراب. ووفقا لليونيسيف، تشرد نحو مليوني طفل منذ بداية الحرب، يعيش كثير منهم في ملاجئ مؤقتة؛ حيث من الصعب تلقي التعليم، مما يزيد من اضطراب نشأتهم الطبيعية.

وأوضح الدكتور مالكي أن اضطراب ما بعد الصدمة في الأطفال من الممكن أن يؤثر على نمو المخ على المدى البعيد. وكما أشار باحثون من كلية الطب في جامعة ستانفورد، من المرجح أن يعاني هؤلاء الأطفال من «نقص حجم مساحة في المخ تسمى الحُصيْن، وهي المسؤولة عن الذاكرة والعاطفة».

كذلك ينتشر اضطراب ضغط ما بعد الصدمة بين البالغين في العراق، ونظرا لأن أعراضه منهكة للغاية، من الصعب توقع كيف يمكن لدولة تعاني كثيرا من المشكلات السياسية تحقيق الاستقرار إذا ظلت قضايا الرعاية الصحية الجوهرية دون حل.

وفي تقرير خاص نشرته «واشنطن بوست» عن العيش مع اضطراب ضغط ما بعد الصدمة، يوضح الدكتور آرثر بلانك أن اضطراب ضغط ما بعد الصدمة من الممكن استيعابه على أنه تعلق أو تجمد أو توقف عن التعافي بعد حادث صادم. فبعد أن يعاني الأفراد من أية أعراض صدمة، منها كوابيس، يبدأ استدعاء لا إرادي للأحداث واسترجاعها، وبعضها يتداخل مع الذاكرة. وفي بعض الحالات، بعد عام أو أكثر، تتلاشى تلك الأعراض. ولكن هؤلاء الذين يظلون في معاناة من تلك الأعراض دون راحة على المدى البعيد فهم الأفراد الذين يعانون من اضطراب ضغط ما بعد الصدمة. ومن الممكن أن يتسبب أي شيء يذكر بالمشهد الصادم - من ضوضاء مرتفعة أو لغة أو محفزات أخرى - في ظهور هذه الأعراض، ونتيجة لذلك يعاني المصابون بهذا الاضطراب من صعوبات في حياتهم العادية.

ويظهر في التقرير ذاته الذي نشرته الـ«بوست» لقاء مع المجند السابق إميل تراسي، الذي يعاني من اضطراب بعد إعادة نشر القوات في العراق. وأوضح كيفية الحياة بالنسبة لمصاب باضطراب ضغط ما بعد الصدمة، قائلا: «أعتقد أن ما سبب لي اضطراب ضغط ما بعد الصدمة هو انتشاري مع القوات في الحرب، لم يكن هناك متسع من الوقت لمعالجة كل ما رأيت من أفعال وكل ما كان علي كبته، كان الناس يُقتلون، وكنا ننظف العربات من أجساد زملائي. لم يكن هناك وقت للحزن والتعامل مع الأمر. وكان استرجاع الذكريات والكوابيس في بيئة القتال جزءا من الأمر أيضا. كنت أسمع صراخ النساء والأطفال عندما كنا نقوم بغارة. يمكنك أن تقوم بمهمتك وأنت مصاب باضطراب ضغط ما بعد الصدمة، ولكن كيف هي المشكلة.. رد فعلي على لمس شخص ما لي أصبح مختلفا تماما.. فقط أصبحت أتعامل باستمرار وكأني أحاول النجاة، وأعتبر كل شيء يمثل تهديدا».

ولا يتطلب الأمر مزيدا من الاستقراء لمعرفة أن اضطراب ما بعد الصدمة قد يكون مشكلة نفسية، ولكنه بالتأكيد له مضامين اجتماعية واقتصادية. من الممكن أن يقوض الاضطراب على نحو خطير معيشة الأشخاص الذين يعانون منه، ولكن على نطاق واسع، كما هو الحال في العراق ومع القوات العائدة من الحرب، يمكن أن يكون عقبة أمام حياة مجتمعات كاملة.

وكما يشير ما ذكره إميل تراسي، من أن أعداد الجنود العائدين من الحرب المصابين باضطراب ما بعد الصدمة يسبب الذهول أيضا. وقد أصدر الكونغرس الأميركي تكليفا بإجراء دراسة تستمر لمدة عام يقوم بها خبراء عسكريون ومدنيون كرد فعل على حالات الانتحار المتزايدة بين الجنود العائدين. وأوردت جريدة «نيويورك تايمز» أنه «ما بين عامي 2005 و2009، انتحر ما يزيد على 1100 فرد في الجيش، وكانت أعلى نسبة بين الجنود والمارينز الذين يحملون عبء الوجود في جبهات القتال». وأشار المقال إلى أن واحدا من بين كل خمسة جنود عائدين من الحرب أظهر إشارات على إصابته باضطراب ما بعد الصدمة واكتئاب. ولكن أقل من نصفهم يسعى للعلاج. ولعل الأمر الأكثر إزعاجا هو اكتشاف بحث في عام 2007 بأن نسبة 17 في المائة من الجنود الذين ما زالوا في الخدمة و25 في المائة من جنود الاحتياط كانت نتيجتهم إيجابية في اختبار لأعراض اضطراب ما بعد الصدمة. بمعنى آخر، قليل من هؤلاء المصابين يتلقون علاج اضطراب الحرب، بل وكثير منهم يعودون للحرب مع احتمال تأثير ذلك على قدرتهم على التعافي.

وفي تقرير استقصائي عن مشكلات الصحة العقلية التي يواجهها الجيش الأميركي، أوضح مراسل الـ«تايم» مارك تومبسون الأمر، عندما قال إنه «في حين تخوض القوات القتالية في الجيش حربين، يشن متخصصون في الصحة العقلية حربا لإنقاذ الصحة العقلية للجنود عندما يعودون. وهي الحرب التي ستتكلف مليارات الدولارات بعد أن ينتهي القتال في بغداد وكابل».

وفي حين تزداد برامج الوقاية من الانتحار وعلاج اضطراب ضغط ما بعد الصدمة، يتسرب كثير من المعرضين للخطر من بين ثغرات نظام غير فعّال. علاوة على ذلك، تحمل مشكلات الصحة العقلية وصمة عار كبيرة، ويمنع ذلك الكثير من الناس من طلب المساعدة التي يحتاجون إليها. أما بالنسبة لأفراد الجيش الذين يُعرفون بشجاعتهم في مواجهة المخاطر التي تهدد الحياة، فمن الصعب الاعتراف بهذه المشكلة. إضافة إلى ذلك، في الحياة العسكرية، من الممكن أن تضر سجلات الاضطرابات العقلية السجل الوظيفي للمصاب. ولا تقتصر مشكلة الوصمة المرتبطة باضطراب ما بعد الصدمة على الجنود الأميركيين. ويؤكد أيضا مدنيون عراقيون أن العار الذي يلحق بالمصابين باضطرابات عقلية يمنعهم من السعي إلى الحصول على مساعدة نفسية في البلاد، وهي أيضا محدودة.

من الواضح أن ما تخلفه الحرب في العراق يحتاج إلى التعامل معه من منظور الصحة العقلية في الداخل وفي الخارج أيضا. وتطور الولايات المتحدة من جهودها لمنع حالات الانتحار داخل الجيش وتقديم المشورة للجنود الذين يعانون من اضطراب ما بعد الصدمة. وكذلك في العراق، تحاول الحكومة إعادة بناء نظام رعاية الصحة العقلية من خلال التعاون مع الولايات المتحدة ومنظمات أهلية مثل أطباء بلا حدود لإنشاء شبكة من العيادات التي تصل إلى المدنيين المعرضين للخطر. بيد أن المشكلة مثيرة للإحباط وتوجد حاجة إلى فعل المزيد لضمان أن الناس الذين يجدون أكبر قدر من المعاناة أثناء الحرب لن يطويهم النسيان بعد إعلان انتهائها رسميا.

font change