البشرية تعلن انتهاء عصر العمليات السرية

البشرية تعلن انتهاء عصر العمليات السرية

[escenic_image id="55147628"]

كتب المؤلف اليوناني ديمتريس نولاس رواية «زمن أي أحد» التي ترصد زمن وحياة خلية سرية في أثينا في التسعينات. وفي وصف لا ينسى، يروي الكاتب قصة أحد المتمردين الشيوعيين، وهو يخترق المدينة ويقضي على خصومه السياسيين ثم يعود إلى حصنه في الجبال لكي يستعد ليوم آخر. أصبح ذلك جزءا من الماضي.

لقد اعتدنا أن نعيش في الحاضر الذي يأتي، ويمر ثم يتحول إلى ماضٍ دائم. ولكن في ظل تزايد إحاطة تكنولوجيا المراقبة العامة بما كان جزءا من عالمنا الخاص، أصبحنا على نحو متزايد نعيش في لحظات من الديمومة حيث يظل ما كان ماضيا حاضرا إلى الأبد. ليس فقط من خلال التسجيلات الإلكترونية ولكن من خلال مليارات ومليارات الساعات من مقاطع الفيديو الملونة الحية لحياتنا اليومية التي تسجل أكثر تفاصيل حياتنا حميمية.

فاليوم يمكن التعرف على هوية المجرمين بأثر رجعي. وقد شهدنا نموذجا على ذلك خلال العام الحالي في دبي، عندما قتل محمود المبحوح القيادي بحركة حماس الفلسطينية على يد محترفين من الموساد؛ حيث أجرت شرطة دبي تحقيقا، فحصت خلاله مئات الآلاف من ساعات الفيديو لقطة لقطة، لكي تعيد بناء حركة الفريق الذي اغتاله في كافة أنحاء الإمارات من مراكز التسوق إلى الفنادق الفاخرة. وبعدما عرضوا الصور الفوتوغرافية ومقاطع الفيديو التي تصور القتلة على وسائل الإعلام الدولية، أعلن الخبراء في الاستخبارات عن نهاية العمليات السرية.

واليوم، تقدم التقنيات الجديدة مثل «ديب ليرنينغ» خطوة أخرى إلى عالم فرض القانون الوقائي. تقنية «ديب ليرنينغ» هي برنامج حاسوبي يتم تطويره حاليا يعمل بسرية؛ فهو يرصد المخاطر المستقبلية المحتملة من خلال التركيز على أشياء محددة والتكهن بالتوجهات المحتملة ورصد الأنماط المتكررة للأفعال. ونأمل ألا يفشل على غرار اختبارات القيادة المميتة للشرطي الآلي في فيلم «روبوكوب».

إننا فقط في بداية عملية نقل تعزيز القانون من الأيدي البشرية إلى الحواسيب الذكية. فقد منح «داربا»، معمل «العلوم المجنونة» التابع لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون) منحة قدرها 4 ملايين دولار لاثنين من العلماء يعملان حاليا على تطوير نظام يمكنه رصد الأنشطة الإنسانية غير المألوفة اجتماعيا. كما يمكنه رصد أي شيء بدءا من العرق والتهيج في بيئة تمت السيطرة على الحرارة فيها إلى أداء أفعال متكررة أو الجري داخل أروقة مزدحمة. «وسوف تعمل النسخة النهائية من البرنامج دون إشراف؛ حيث إنه مصمم لرصد أخطائه وتصحيحها في كل طبقة حسابية»، ذلك ما ذكرته كاتي دراموند الكاتبة في مجلة «وايرد».

وذلك هو نوع التكنولوجيا، عندما تقترن بشبكات الرقابة المنتشرة، حيث سيتم القضاء على الصورة التقليدية للشرطي المتراخي الذي يتناول حلوى الدوناتس، سواء كان تابعا إلى دولة تخضع لمساءلة شعبها أو كان يعمل لصالح دكتاتورية تمارس القوة القسرية. ومن جهة أخرى، يمكن أن يسفر استغلال البلدان الدكتاتورية لمثل تلك التكنولوجيا عن نتائج مخيفة.

فإذا افترضنا أن الدولة أعلنت عن مطاردتها لبعض المتهمين، فإن تكنولوجيا اليوم يمكنها أن تساعد هيئات فرض القانون على تحديد مكان القاتل، ثم تقوم بعمل مطابقة للصورة في المرة التالية التي يعبر فيها أمام الكاميرا مما يسمح بالوصول إليه في النهاية. ولا يصبح أمام القاتل أمل في الإفلات من الرقابة إلا بأن يظل بعيدا عن شبكة الكاميرات المدنية بقية حياته أو يتخفى بطريقة استثنائية.

ومثل هذه التقنيات متوافرة بالفعل أو يمكن أن تتوافر في المستقبل القريب؛ فسوف تصدر تقنية «ديب ليرنينغ» بحلول عام 2013. ووفقا للمكان الذي تعيش فيه، فإن تمييز الوجوه ربما يكون مطبقا بالفعل على ناصية الشارع الذي تحيا به. وعلى الرغم من كونها منتشرة، فإننا لا نعرف إلا قدرا ضئيلا من المعلومات حول قدراتها. فخلال العام الماضي، أخبرني أحد المصورين البريطانيين عن دهشته أثناء التصوير داخل إحدى غرف المراقبة بقسم للشرطة البريطانية، عندما قام أحد رجال الشرطة بالضغط على زر عارضا بثا حيا لأحد الشوارع المزدحمة بأرقام جوازات السفر لمئات من المارة. ومرة أخرى، فإن ذلك برنامج للتعرف على الوجوه يقوم بعمل المقاربات الممكنة.

 

انتشار الرقابة

إن تلك الطيور المعدنية القبيحة التي ليس لها عيون والتي لا يظهر منها سوى رؤوس زرقاء تتدلى من أعمدة من الصلب أو من جوانب المباني ليست مقتصرة على مراكز المدن الغربية. ففي اسطنبول، انتشرت تلك الكاميرات في السنوات الأخيرة كجزء من برنامج أمني اسمه «موبيسي». وفي بداية الصيف الحالي، تم اعتقال المشاركين في أحداث شغب عرقي بإحدى المدن التركية الوسطى بعدما غادروا الموقع على يد رجال الشرطة الذين تمكنوا من تحديد هويتهم عبر برنامج «موبيسي».

وتنتشر نحو 64 كاميرا في شارع «استقلال» التجاري بمدينة اسطنبول قادرة على مسح 15 ألف وجه في الثانية في ظل حشد متحرك. وجاء ذلك بعدما أصبح المرور على الجسرين اللذين يمران فوق مضيق البوسفور يقتضي المرور عبر جهاز مسح إلكتروني وبطاقة إلكترونية يحملها كافة المواطنين الأتراك. وفي تركيا التي تتصدر عناوين الأخبار نظرا للمزاعم المتعلقة بعودتها لجذورها الإسلامية العثمانية الأولى، تم النظر إلى ذلك باعتباره تقدما واقترابا من المعاصرة.

وعلى نحو متزايد، تنتشر شبكات الكاميرات المدنية في آسيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط. وسواء كان ذلك في العواصم التاريخية مثل دمشق والقاهرة أو في ناطحات السحاب عالية التقنية مثل دبي والرياض، فإن الشبكات التي تصور بالصوت والصورة تتم إدارتها من غرف مراقبة سرية لا تخضع لرقابة وتخترق المناطق العامة. وفي أولمبياد 2008، كانت هناك أعداد كبيرة من كاميرات المراقبة تنتشر في الملاعب، وأكشاك الإعلانات والسقف المعلق لمطار بكين.

وقد سمح الاحتلال العسكري لبغداد وكابل للجيش الأميركي بتطوير تجاربه فيما يتعلق بالرقابة؛ فمنطاد زبلن الأبيض الذي يحلق على هذه المدن ويمتلك القدرة على التسجيل في مثل تلك المساحات الشاسعة، مكن السلطات من متابعة تحركات انتحاري عبر جميع أنحاء المدينة حتى بعد أن يموت في العملية الانتحارية.

وعلى الرغم من أن أوان منع الحادث يكون قد فات، فإن هذه التقنية الجديدة تمكنهم من العودة عبر الزمن وكشف شبكته والمنازل المحصنة لأعضائها.

وبالإضافة إلى برامج مثل «ديب ليرنينغ» هناك برامج ذكية أخرى يمكنها أن تقوم بالمهام التي يقوم بها البشر وانتقاء أفراد محددين أوتوماتيكيا قبل أن ينتبه لهم المحللون بوقت طويل. وقد اشتركت شركة «غوغل» التي تجمع قدرا كبيرا من البيانات حول كل فرد من مستخدميها مع «إن كيو تل»، الذراع الاستثمارية للاستخبارات الأميركية في شركة «ريكورديد فيوتشر»، وهي الشركة التي طورت برنامجا يرصد عشرات الآلاف من المواقع والمدونات وحسابات التويتر ليكتشف العلاقة بين الناس، والمنظمات والأفعال والحوادث كوسيلة للتنبؤ بالمستقبل.

وسوف تؤدي كافة تلك الأدوات إلى خلق حكومات أكثر قوة من المتوقع في المستقبل القريب. كيف سيستخدمون تلك الأدوات الجديدة بمسؤولية؟ كيف سيستطيع النشطاء الدفاع عن الديمقراطية وهم يتعرضون لقمع دولتهم الدائم، من تجنب الموت كمجهولين؟ ففي الوقت الذي خرج فيه المتظاهرون المدافعون عن الديمقراطية إلى الشوارع في طهران، استغلت الاستخبارات الصور الثابتة ومقاطع الفيديو على «اليوتيوب» للتعرف على منظمي المظاهرات.

كما قاموا بتحميل صور من لم يتمكنوا من التعرف عليهم على المواقع الإلكترونية وطلبوا من الناس المساعدة في التعرف عليهم. وكانت طهران 2009 واحدة من أحدث المواجهات المدنية المعاصرة التي لم تصورها عين شبكات «سي سي تي في» التي لا تغفل. ولكن في الوقت الذي تباطأت فيه الدولة، قفز إلى المقدمة المستهلكون العالميون؛ فالثورة لم يتم بثها على شاشات التلفزيون وعلى شاشات «سي سي تي في» ولكن العالم بأسره شاهدها عبر لقطات الفيديو السرية التي تم بثها سرا من طهران على موقع «اليوتيوب» رغم سرعات التحميل البطيئة لحد كبير.

وعلى غرار فيلم «الرجل المدمر»، الذي يسكن فيه البشر، في أعقاب العنف، مجتمعا متقدما تكنولوجيا في المستقبل، فيما يقوم المدافعون عن الحرية بتمردهم من البالوعات، فمن المحتمل أن يتم تقسيم العالم إلى من يعيشون في الشبكة والقلة التي ترفض مجتمع الرقابة الدائمة وتختار عدم المشاركة. ولكن ذلك ما زال في المستقبل.

وفي الوقت الراهن، المهم هو انعدام المعلومات العامة المتاحة حول المجتمع الذي نندفع نحوه. إذن فعلينا أن نستمتع بالماضي ما دام موجودا، فربما يسفر قريبا عن بعض المفاجآت غير السارة.

 

* إياسون أثاناسياديس - صحافي عاش في بعض مدن العالم التي تخضع لأكثر درجات المراقبة من لندن إلى طهران ومن بوسطن إلى دمشق. وهو يعيش حاليا خارج اسطنبول.

font change