منذ الانتخابات النيابية الأخيرة في لبنان في مايو (أيار)، كان رئيس الحكومة المكلّف يتفاوض مع الأحزاب اللبنانية المتنافسة لتشكيل حكومة جديدة، اعتقادًا منه على ما يبدو بأن باستطاعته تشكيل حكومة تتم فيها مشاركة السلطة على غرار حكومتيْ الوحدة الوطنية السابقتيْن. إلا أن «حزب الله» وحلفاءه شاركوا في هاتيْن الحكومتيْن السابقتيْن كأقلية. والآن، بعد أن أصبح ائتلافهم يسيطر على الأغلبية، يبدو أنهم أقل اهتمامًا بمشاركة السلطة.
فبدلاً من ادّخار المقاعد الحكومية لنفسه، يتخذ «حزب الله» مقاربةً مدروسةً للوضع، سامحاً لمعارضيه بتشكيل حكومة يرأسها الحريري، بينما يمنح لحلفائه سيطرة على معظم الوزارات السيادية في لبنان. وقد يساعد ذلك بيروت على تجنب بعض الضغوط الدولية التي قد تنشأ عن ذلك إذا سيطرت جماعة إرهابية مباشرةً على حقائب مهمة؛ كما قد يساعد ذلك «حزب الله» على تجنّب اللوم الداخلي إذا أساء إدارة هذه الوزارات. وحتى في الوقت الذي يتخلى عن الحقائب السيادية لأحزاب أخرى، يبدو أن «حزب الله» ينوي السيطرة بنفسه مباشرةً على حقيبة خدمات رئيسية وهي: وزارة الصحة العامة.
تتحكم وزارة الصحة، بعد وزارات الدفاع والتربية والداخلية، برابع أكبر ميزانية في لبنان، بقيمة 338 مليون دولار سنوياً. وبينما يتم تخصيص معظم الأموال في الوزارات الثلاث الأولى إلى الرواتب، تُمنح غالبية الأموال في وزارة الصحة إلى الجمهور مباشرةً.
ووفقاً لبعض التقارير يريد «حزب الله» الوصول إلى هذا التدفق النقدي لأنه قلق من خسارة بعض تمويله من إيران. ويقيناً، تبقى الميليشيات الشيعية الأجنبية ذات أولوية عالية في الميزانية بالنسبة لـ«الحرس الثوري الإسلامي» الإيراني. إلا أن «حزب الله» يبدو غير متأكّدٍ من إمكانية الاستمرار عمليّاً في تلقي المبلغ السنوي من طهران الذي يُقدّر بنحو 700 مليون دولار في ظل العقوبات الأميركية الأكثر صرامة، التي من المقرر أن يتم تنفيذ المزيد منها في 4 نوفمبر (تشرين الثاني). وبالمثل، إذا تحوّل التوتر المتزايد بين إيران وإسرائيل إلى حربٍ إقليمية، فقد يخشى «حزب الله» من عدم قدرة طهران على تمويل إعادة إعمار البلدات اللبنانية المدمَّرة كما فعلت في أعقاب الحرب التي اندلعت عام 2006.
وينبع أحد مكامن القلق الأخرى من واقع وَضْع إيران للعمليات العسكرية الإقليمية على رأس أولوياتها. ونتيجة لذلك، تم تحويل نسبة أكبر من تمويلها للميليشيات الشيعية إلى أنشطة عسكرية، لذلك تم تقليص الدعم المالي لشبكات الخدمات الاجتماعية الخاصة بـ«حزب الله»، مما أدّى إلى تخفيضات كبيرة في الخدمات. واليوم، يستفيد جنود «حزب الله» وعائلاتهم بشكلٍ أساسي من مثل هذه الخدمات، أما العديد من الأعضاء غير المقاتلين والمؤيدين الخارجيين الذين تلقوا سابقاً هذه الهبات فيُترَكون جانباً، لكنهم يواجهون الآن احتمال تخفيض الرواتب وخفض العمالة. وبالإضافة إلى الحرب السورية المضنية، أدّى سير الأمور في هذا الاتجاه إلى إثارة شعور الاستياء في صفوف المجتمع الشيعي في لبنان.
وتشير بعض التقارير إلى أنه حتى «حزب الله» واجه صعوبة في التعويض لعائلات المحاربين الذين قُتلوا أو جُرحوا في الحرب. فعلى سبيل المثال، تم تأسيس «مؤسسة الشهيد» جزئيّاً لتقديم المساعدة المالية والدعم الصحي والاجتماعي إلى أقرباء أولئك الذين لقوا حتفهم في القتال، في حين تم تشكيل «مؤسسة الجرحى» لمساعدة المدنيين المصابين خلال الأعمال العدائية مع إسرائيل أو غيرها من العمليات. ومع ذلك، فوفقاً لتقارير محلية عديدة، فإن الخدمات الصحية لـ«حزب الله» - والتي تشمل خمسة مستشفيات ومئات المراكز الطبية والمستوصفات وعيادات طب الأسنان ومقدّمي الرعاية الصحية العقلية - بالكاد تستطيع اليوم تلبية احتياجات الجنود الجرحى وعائلاتهم،. واستناداً إلى متوسط نسبة القتلى إلى الجرحى في المعارك الحديثة، قد يصل عدد ضحايا هذه المجموعة ما يزيد على 9000 فردٍ للاعتناء بهم.
وهذا هو السبب الرئيسي وراء التزام «حزب الله» بإحكام القبضة على وزارة الصحة. ومن شأن القيام بذلك أن يخفف من عبئه المالي، مما يسمح للميليشيا بإدارة نظامها الصحي الخاص المعني بـ"شؤون المحاربين القدامى" حتى لو تم تقليص الدعم الإيراني بسبب العقوبات.
مما لا شك فيه أن تشكيل الحكومة القادمة قد تكون له تبعات على المساعدة الخارجية حتى لو اقتصر «حزب الله» على إدارة وزارة الصحة، لأن الولايات المتحدة وبعض البلدان الأوروبية ودول خليجية مختلفة صنّفت هذه الجماعة كلّياً أو جزئيّاً كمنظّمة إرهابية. وحتى الآن، لم يعترض الحريري علناً على مطالبة «حزب الله» بوزارة الصحة، رغم أنه أشار في الأسبوع الماضي إلى أن "البنك الدولي" أو منظمات دولية أخرى قد تتوقف عن تقديم المساعدات إلى قطاع الصحة. فقد منح "الاتحاد الأوروبي" وحده ما يقرب من 88 مليون يورو سنوياً لقطاع الصحة العامة في لبنان بموجب عدة صكوك من أجل المساعدة على التعامل مع تداعيات الحرب السورية. وإذا سيطر «حزب الله» على الوزارة، فقد يتمكن من الحصول على بعض هذه الأموال على حساب اللاجئين السوريين.
ومن جانبها، هددت السفارة الأميركية في بيروت، وفقاً لبعض التقارير، بقطع أي مساعدة أميركية أو دولية إلى الوزارات المخصصة لـ«حزب الله». وعلى الرغم من أن واشنطن لا تقدّم مساعدات مباشرةً إلى وزارة الصحة، فإنها لاعب أساسيّ في البنك الدولي، والمنظمات الأخرى التي تقدم مثل هذه المساعدة.
وسارع مسؤولو «حزب الله» إلى الرد على هذه التهديدات، قائلين إن الحريري ورئيس مجلس النواب نبيه برّي والرئيس ميشال عون سبق وأن اتفقوا على منح الوزارة إلى الحزب، وأن هذا الاتفاق لا يجب خرقه تحت الضغط الأميركي. وقد أدلى عضو رفيع المستوى في «حزب الله»، محمد فنيش، الذي كان يشغل منصب وزير الشباب والرياضة في حكومة تصريف الأعمال، بحجج مماثلة خلال مقابلة أجرتها معه مؤخّراً قناة «المنار» التلفزيونية التابعة للحزب. ويبدو أن الحريري تنازل عن الوزارة رغبةً منه في عدم معارضة «حزب الله»، وهو يركّز الآن على تخصيص الحقائب الأخرى إلى الأحزاب المتنافسة.
بالطبع، حتى إذا امتنع «حزب الله» في النهاية عن السيطرة قانونيّاً على الوزارات السيادية والخدمية الرئيسية، فسيقوم على الأرجح شركاؤه في الائتلاف - أي التيار الوطني الحر، وحركة أمل - بالاستحواذ على حقائب الدفاع والمالية والشؤون الخارجية والطاقة. وهذا من شأنه أن يجعل «حزب الله» صانع القرار الفعلي في كافة هذه الوزارات.
بالإضافة إلى ذلك، بإمكان الجماعة الوصول إلى الأموال الرئيسية للدولة حتى دون الحصول على مقاعد حكومية. ووفقاً لبعض التقارير، فإن مسؤولين في «حزب الله» أخبروا حركة أمل بأنهم سيتولون مسؤولية تكريس نصف الوظائف الحكومية المخصَّصة دستوريّاً للمجتمع الشيعي. واستخدمت «أمل» تقليديّاً هذا الامتياز للحفاظ على قاعدة دعمها الخاصة. ومع ذلك، فمع تضاؤل دولارات المحسوبية المكرَّسة للتوزيع، لم يعد «حزب الله» قادراً على تحمل التخلي عن تلك الفرصة الذهبية لصالح حركة أمل. وفي النهاية، يمكن أن تحقق هذه المقاربة ثلاث منافع مهمة لـ«حزب الله» هي:
(1) تخفيف حدة مشاكله المالية، (2) وتمكينه من توفير الوظائف والرواتب إلى قاعدة دعمه ومقاتليه، (3) وخلق وضع تقوم فيه المؤسسات الأمنية والعسكرية في الدولة بحماية الجماعة وقاعدتها من العقوبات الدولية أو حتى من المواجهة العسكرية.
إن الحريري على حق، حيث سيؤدي السماح لـ«حزب الله» بالسيطرة على وزارة الصحة وعلى خدمات أخرى في الدولة إلى مواجهة تداعيات دولية، بما فيها فرض عقوبات غير مسبوقة محتملة على مؤسسات الدولة خارج القطاع المصرفي. وقد امتنعت واشنطن حتى الآن عن فرض عقوبات على المستشفيات التي يسيطر عليها «حزب الله»، لكنّ هذا لا يعني أنها ستتردد في القيام بذلك إذا ما تسلمت هذه الجماعة الوزارة [المسؤولة] نفسها. وبالمثل، قد تشهد المساعدات المالية من المنظمات الدولية تخفيضات مشابهة. ففي الأسبوع الماضي فقط، عدّل الكونغرس الأميركي «قانون حظر التمويل الدولي لـ(حزب الله)»، ليشمل المزيد من القيود على المؤسسات والأفراد الذين يساعدون «الحزب»، وقد تستهدف بعض التعديلات المستقبلية مؤسسات الدولة التي يسيطر عليها «حزب الله».
كما لا تُعتبَر المساعدة العسكرية الأميركية لـ«الجيش اللبناني» مقدَّسة أيضاً. فعلى الرغم من مواصلة القيادة المركزية الأميركية، التعبير عن دعمها لـ«الجيش اللبناني»، إلّا أن الكونغرس الأميركي لا يغفل العلاقة المتزايدة عمقاً بين الجيش الوطني و«حزب الله».
وكما ذُكِر سابقاً، قد لا يكون الحريري قويّاً بما فيه الكفاية من الناحية السياسية لمنع «حزب الله» من الاستحواذ على وزارة الصحة. ومع ذلك، ينبغي على واشنطن والهيئات الدولية التي تساعد المؤسسات اللبنانية مواصلة تحذير الرئيس عون وغيره من صانعي السياسات ورجال القانون في بيروت من أن قطاع الصحة سيواجه عواقب تترتب عن تزويد «حزب الله» بأموال جانبية أخرى. وبالنظر إلى الأزمة الاقتصادية الوشيكة والتشريع الأميركي الجديد الذي يستهدف الموارد المالية المحلّية لـ«حزب الله»، فإن آخر ما يحتاج إليه لبنان حالياً هو المخاطرة بقطاع الصحة. (ينشر بالاتفاق مع معهد واشنطن )