الفساد في أفغانستان.. يتحول من داء إلى دولة

الفساد في أفغانستان.. يتحول من داء إلى دولة

[escenic_image id="55136721"]

أعلنت وزارة التعدين الأفغانية اكتشاف حقل بترول يقدر بـ1.8 مليار برميل في شمال أفغانستان. ويأتي ذلك الإعلان بعد اكتشافات أخرى للموارد المعدنية غير المكتشفة، ليس فقط في مجال النفط، بل أيضا في الحديد الخام والنحاس والليثيوم والغاز. وتزيد تلك التطورات من آمال المسؤولين الأفغان في استقلال أكبر لحكومتهم عن الغرب، فيما يتعلق بالأمن والاقتصاد. وفي الواقع، من الممكن أن يحقق العائد المحتمل الحصول عليه من اكتشاف تلك الموارد تحولا حاسما في الثقة في أفغانستان. ولكن، ليس بالضرورة أن تكون تلك الأخبار جيدة لغالبية الشعب الأفغاني.

حتى تتحقق الاستفادة الجيدة من تلك الموارد الطبيعية، من اللازم فعل الكثير. في المقام الأول، وجود بنية تحتية مثل الطرق، بالإضافة إلى المهارات، التي إن كان الأفغان لا يملكونها، فلن يفقدوها؛ حيث «تتصارع» الشركات الأجنبية على تعاقدات لا تقدر بثمن. وبالتأكيد يعد الأمن مصدر قلق كبير، ولكن لم يوقف عدم الاستقرار والقتال المستمر، على سبيل المثال، شركة «ميتالورجيكال» الصينية الحكومية من إقامة مشاريع لها في أفغانستان على مدار الأعوام الثلاثة الماضية. وأكبر عقبة في طريق تحويل هذا العائد الكبير المحتمل، الناتج عن اكتشاف هذه الموارد، إلى مدارس ووظائف ومستشفيات للأفغان هي الفساد، الذي يبدو التعامل معه في أفغانستان مهمة مستحيلة.

ووفقا لتقرير «الفساد في أفغانستان: الرشوة كما يروي عنها الضحايا» الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة المنظمة، يضع 59 في المائة من المواطنين الأفغان الفساد في مقدمة المشكلات التي تواجه البلاد، قبل انعدام الأمن والبطالة. أحد الأرقام الصارخة التي وردت في التقرير هو مبلغ 2.5 مليار دولار من الرشاوى التي يدفعها الأفغان على مدار 12 شهرا. وبذلك تبلغ نسبة دفع الرشاوى نحو 25 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. ويحقق ذلك اقتصادا من الرشاوى، بل ويُجبر هؤلاء الذين لا يتورطون في أعمال غير مشروعة على دفع الرشوة من أجل الحصول على الخدمات العامة الأساسية.

وعلى الرغم من أن الفساد لا يؤثر على جميع البلاد، فإن الممارسات الثقافية والاجتماعية المحلية تلعب دورا محوريا في تحديد مدى خطورة المشكلة في كل دولة. وكما يقول محمد ألوكو النائب العام الأفغاني للأجانب، كما نقلت عنه «دير شبيغل»: «كانت الدولة بلا قانون لمدة عقود، لذلك لا يمكن أن يتوقع المرء قيام مجتمع يعتمد على القانون من لا شيء».

وتظهر دراسة مثيرة للاهتمام أجراها باحثان يقيمان في الولايات المتحدة تحت عنوان «ثقافات الفساد» أن الأعراف الثقافية والاجتماعية تصبح راسخة وتلعب دورا مهما في سلوك البشر. ومن أجل تقييم مستويات الفساد التي تسيطر عليها الأعراف الاجتماعية، ركزت الدراسة على مخالفات الانتظار التي جمعها دبلوماسيون دوليون أقاموا في مدينة نيويورك من عام 1997 إلى عام 2005. وكان جميع الدبلوماسيين من 146 دولة يعتقدون أنه بالاستفادة من حصانتهم الدبلوماسية، يمكنهم تجنب سداد غرامات الانتظار. وكشفت الدراسة أنه على الرغم من الافتراض بأن جميع الدبلوماسيين ارتكبوا مخالفات انتظار كثيرة، فإن القادمين من دول أقل فسادا مثل النرويج كان تصرفهم جيدا. ومن جانب آخر، احتل دبلوماسيو دول مثل تشاد والسودان وأنغولا، وجميع الدول التي تتصدر قائمة الدول الأكثر فسادا في العالم، أول عشرة مراكز في قائمة مخالفات الانتظار، حيث ارتكب كل دبلوماسي ما يزيد على 100 مخالفة في تسعة أعوام.

وفي حلقة نقاش عقدت العام الحالي حول مستقبل أفغانستان، رأسها الأخضر الإبراهيمي (مبعوث الأمم المتحدة الخاص السابق في أفغانستان)، أشار عدد من الخبراء الحاضرين إلى الفساد كعنصر محوري في دفع الناس بعيدا عما يرونه ديمقراطية غريبة في كابُل. كما تناولوا أيضا قضية العامل الثقافي الذي يؤثر على المستويات العالية من الفساد. وكما قال أحد المشاركين: «إذا لم يكن الفساد مفهوما في القوانين البشتونية، فكيف نجعل الناس يفهمون ذلك؟». ويمكن أن تبدو فكرة أن القوانين البشتونية لا تستوعب مفهوم الفساد، وسيلة لتبرير الوضع، ولكنها معقولة. ووفقا لتقرير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة المنظمة، يعد جنوب أفغانستان (غالبية سكانه من البشتون)، من المنطقتين الأكثر تأثرا بالفساد. وفي هذا الصدد، من المهم الإشارة إلى أن الكلمة التي يستخدمها البشتون لوصف «الفساد» ليست كلمة من أصل بشتوني، ولكنها مأخوذة من اللغة الدرية (الفارسية).

وفي أفغانستان، أكثر ما يظهر فيه الفساد هو تجارة المخدرات، التي تحقق 60 في المائة تقريبا من تمويل طالبان. وتبدأ القصة الثالثة في الفيلم التسجيلي «حربنا على المخدرات» الذي أخرجه أنغوس ماكوين، بحكاية الحرب التي شنها الجنرال أمين الله على المخدرات. كان الجنرال أمين الله، الذي تلقى تدريبه على يد البريطانيين ويعمل في مطار كابُل الدولي، يقوم بعمليات ضبط خطيرة.

التقطت الكاميرا سيدة على وشك الصعود على متن الطائرة وهي تحمل عدة كيلوغرامات من الهيروين. من المدهش أنها هادئة للغاية، حيث كان لديها شعور بأنه لا يمكن القبض عليها، في حين ظلت تكرر أنه سيتم الإفراج عنها وفصله من عمله. وعندما وصل الجنرال أمين الله إلى مكتبه في اليوم التالي، علم في فزع أنه تم الإفراج عن السيدة ذلك الصباح. وعندما اتهم الجنرال أمين الله عددا من مسؤولي الحكومة بالتورط في تجارة المخدرات، فصل من عمله بعد أن أجري معه تحقيق دعا إليه الرئيس الأفغاني حميد كرزاي.

إن حكاية الجنرال أمين الله ليست القصة الوحيدة في الفيلم التسجيلي التي يدخل فيها كرزاي شخصيا. فقد ألقي القبض على مجموعة من رجال الشرطة وهم ينقلون في سياراتهم مئات الكيلوات من الهيروين بغرض الاتجار. وبعد أن حكم عليهم أحد القضاة الأفغان بأقصى عقوبة للاتجار في البلاد، تم الإفراج عنهم جميعا بموجب صفقة عقدت مع كرزاي قبل الانتخابات.

ويكشف مقال نشرته «المجلة» مؤخرا للصحافي أياسون أثاناسياديس جيدا المهمة المستحيلة التي تواجهها القوات الدولية في التعامل مع الاتجار في المخدرات. وكما قال جندي يشعر بالإحباط لأثاناسياديس: «هذه ليست أميركا؛ حيث ترغب إدارة مكافحة المخدرات في القيام بمهمة لضبط المخدرات، إنهم يتصلون بالإدارة المحلية ويحضرون ضابطين في خلال 15 دقيقة». وأضاف: «عندما نطلب الشرطة الأفغانية، غالبا ما يظلون يتناقشون، لذلك علينا أن نذهب ونصحبهم إلى مكان الجريمة. يبدو الأمر مثل تدليل الأطفال».

وبالتأكيد يلعب الفقر دورا كبيرا. ويصبح من الصعب إلقاء اللوم على عامة المواطنين الأفغان، الذين يحصلون في المتوسط على أقل من دولارين يوميا، في التورط في أنشطة غير مشروعة في مواجهة أسرة تعاني من الجوع. وكما قال أحد الأفغان بنبرة يأس في الفيلم التسجيلي «حربنا على المخدرات»: «إذا كان الفقر يدفعنا نحو تجارة المخدرات، فسيُطلق علينا مهربي مخدرات». والمشكلة، كما ورد في تقرير مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة المنظمة، هي أن الفساد أصبح سرطانا منتشرا، حيث وصل إلى أعلى المناصب الحكومية، كما يصل إلى حراس الحدود الذين يحصلون على رواتب متدنية. لقد أصبح الفساد أسلوب حياة في أفغانستان.

ويبدو أن لب المشكلة أيضا يكمن في عدم وجود ولاء أو دعم لدولة أفغانية نموذجية. ويحل الولاء لكثير من الانتماءات الأخرى، منها القبيلة والعائلة بالإضافة إلى المكاسب الشخصية، محل الدولة. وليس بغريب حقيقة أن أفغانستان لم تكن لها مطلقا حكومة مركزية استطاعت السيطرة على أراضيها بفاعلية.

ووفق هذا السيناريو، فإن مصير عائد الموارد الطبيعية الأفغانية أقرب إلى مصير عائد برامج الخصخصة التي أسيء تخطيطها في روسيا، أثناء عهد بوريس يلتسين؛ حيث عادت الفائدة على قلة من رجال الأعمال الذين أصبحوا أثرياء للغاية، بينما اتجهت البلاد نحو انهيار اقتصادي.

وكما يشير «حربنا على المخدرات»، يحول دون «الحرب على المخدرات» (وعلى الفساد) وضع الأولوية لـ«الحرب على الإرهاب»، التي تمنع حلفاء الناتو من تأييد الأشخاص المناسبين ومن معاقبة السلوك الخاطئ الذي يصدر عن كبار المسؤولين الأفغان. ويفتقد هذا الموقف لأهمية مكافحة الفساد وإقامة اقتصاد في أفغانستان يصبح محوريا من أجل استقرار البلاد ويغير من تأييد العامة للمتمردين إلى تأييد حكومة كابُل.

 

* مانويل ألميدا - أحد الكتاب المساهمين بمقالاتهم في «المجلة».

font change