«الزمن الباقي: تاريخ الحاضر الغائب» فيلم لإيليا سليمان

«الزمن الباقي: تاريخ الحاضر الغائب» فيلم لإيليا سليمان

[escenic_image id="55100948"]

يروي فيلم «الزمن الباقي: تاريخ الحاضر الغائب» قصة حياة إيليا سليمان نفسه، حيث يبدأ من قصة والده، فؤاد، ومقاومته العنيفة لقيام دولة إسرائيل في الأربعينات وينتهي بقصة سليمان كرجل. فخلال حياته، شهد سليمان تحولات الواقع الاجتماعي والسياسي للشعب الفلسطيني. ويستخدم سليمان المقاومة والتعايش في أشكالهما المتعددة في ذلك الفيلم.

يبدأ الفيلم وينتهي مع مشهد لسليمان مستقلا سيارة أجرة في إسرائيل، الجو مظلم وممطر وتظهر بين فينة وأخرى ومضات البرق. ويتحدث سائق التاكسي اليهودي الإسرائيلي على الهاتف إلى أحد زملائه قائلا إنه قد ضل طريقه. ولا يبدو أن سليمان يعرف الطريق أيضا، فكلاهما عالق في تلك السيارة التي تسير باتجاه ما، ولكن إلى أين تذهب تلك السيارة أو أين هي في تلك اللحظة، يظل أمرا غامضا.

ويتنقل الفيلم الذي كان قادرا على أن يكون حميميا، إلى حد استثنائي، وقصي في الوقت ذاته، بين هذين النقيضين، سواء على مستوى لغة الفيلم أو التقنيات المستخدمة فيه؛ وهو ما يجعلنا ندرك كيف يتم التضافر بين الهوية الفردية والجمعية والواقع الاجتماعي، مؤكدا أنه رغم أن الفرد لا يستطيع تجاهل الواقع المرير فإنه يستطيع التغلب عليه.

ويؤكد سليمان أننا جميعا نعاني من عدة أنواع من الحصار: الإسرائيليون في عدم استعدادهم لتحمل الخسائر التي مني بها الفلسطينيون بعد قيام إسرائيل، والفلسطينيون في إدراكهم لضعفهم وإخفاقهم، وجميعا نعاني من المأزق الوجودي لكوننا بشر، وهو المأزق الذي لا يتحدث عنه سليمان بصراحة ولكنه يصوره ببراعة، فهو يفعل ذلك من خلال السخرية الصامتة، ومن خلال الكوميديا والتراجيديا والمزيج الموجع بينهما في بعض الأحيان.

هل يعتقد سليمان أن السخرية يمكنها تحقيق العدالة؟ لا، ولكنها يمكنها أن تصبح مهدئا ومصدرا للتحرر الشخصي. يمتاز الفيلم بالحساسية للإمكانات وأهمية التناقض بين الاحتجاج والتعايش، والصمت والصخب، والفعل والسكون.

وهناك مشهد يمزج بين الكوميديا والحزن، يصور فيه ذلك. حيث كان هناك فلسطيني يتحدث على هاتفه الجوال وهو يعبر الشارع مرارا وتكرار. وطوال الوقت، كانت هناك دبابة إسرائيلية على مبعدة عدة أقدام تتبع كل حركة يقوم بها، وتئز، وكأنها حيوان ضخم غبي لديه قوة سخيفة وغير ضرورية، وهي مع ذلك لا تمثل تهديدا للفلسطيني الذي لا يلقي لها بالا.

وهناك أيضا مشهد لكورس من العرب – الإسرائيليين، والفلسطينيين – الإسرائيليين، الذين يغنون أغاني إسرائيلية شهيرة وأغاني وطنية بصوت جميل وبثقة في الذات. ولكن التناقض بين واقعهم ودفاعهم الموسيقي عن دولة إسرائيل يتجلى بوضوح. وعلى الرغم من أنه لا يبدو أن هناك أحدا يشعر بالاستياء من الوجود بين ذلك الكم من الأعلام الإسرائيلية، فإنه من المستغرب أن تشاهدهم وهم يغنون أغنية بمثل ذلك المحتوى العاطفي دون أن تنعكس مشاعرهم الخاصة وظروف حياتهم عليهم.

ويجمع الفيلم بين مقاومة الهيمنة والتعايش، وهما ليسا في حالة صراع طوال الوقت نظرا لأن كليهما يمثلان استراتيجيات حيوية للبقاء. ويتغير التوازن بين الاثنين وخصائصهما مع مرور الوقت واختلاف درجة القبول للتغيرات التي يشهدها المجتمع الفلسطيني والإسرائيلي، والسياسة والثقافة أيضا.

وقد أدهشنا الصدق البالغ للفيلم والثقة الهادئة التي يفصح عنها. يظهر سليمان في عدة مشاهد صامتة، بعيون حائرة ووجه خالٍ من التعبير. ويمنحنا الفيلم إحساسا بأنه رغم أن سليمان يكتب ويخرج ويمثل في فيلمه، فإنه على نحو ما منفصل عن الواقع، يجسد فكرة أن كل شخص هو إلى حد ما ممثل في حياته ومشاهد لها في الوقت نفسه.

تتصادم التراجيديا والكوميديا وقوة السكون والملاحظات الصريحة وتؤكد نفسها في بعض الأحيان من خلال الجرأة والوعي بالذات وفي بعض الأحيان الأخرى من خلال الثقة الهادئة. ويمكن أن تترك تلك الحقيقة الخادعة المشاهد وهو يشعر بالحيرة بشأن مشاعر سليمان تجاه الصراع ووضعه كمواطن فلسطيني في إسرائيل الذي يعيش في وطنه بلا وطن «الحاضر الغائب».

وعلى الرغم من اختياره أجواء الفيلم بعناية بالغة، يخلو الفيلم من روح التعالي والاعتداد بالنفس التي تعج به تلك النوعية من الأفلام. وهو ليس مثيرا في ذاته، ولا يحاول تحقيق المكاسب عبر السخرية أو البرود العاطفي أو أن يكون نخبويا أو يحاول تحويل لعبة سينمائية إلى شؤون جادة وأخلاقية من خلال النتاج العاطفي والعملي لذلك العالم الحقيقي.

إن ذلك الفيلم هو أقرب ما يكون إلى الحياة الحقيقية؛ معقد وذو مغزى وليس لديه أخيار أو أشرار على نحو واضح. المشاعر، والأخلاقيات، والرؤى كلها يتم رصدها من خلال زوايا مختلفة ويتم تسليط الضوء عليها والإعلاء من شأنها والسخرية منها وفحصها واحترامها والإحساس بالثقة في الذات، أو بالأحقية.

فعلى الرغم من أن الجنود الإسرائيليين تحيط بهم مشاعر الكراهية والخوف، تحيط كذلك مشاعر الانجذاب، وعلى الرغم من أن الفلسطينيين يزرعون القنابل ويقذفون الحجارة، فإنهم ينقذون الجنود الجرحى أيضا؛ فقد كان، فؤاد، أبو سليمان هو نفس الرجل الذي زرع قنابل في مواجهة الجنود الإسرائيليين عند قيام دولة إسرائيل وشارك في تصنيع الأسلحة المستخدمة في المقاومة العنيفة وهو أيضا نفس الرجل الذي خاطر بحياته من أجل إنقاذ جندي إسرائيلي. وقد انتهى الحال بالاثنين في نفس الغرفة بالمستشفى، ينظران إلى بعضهما البعض وكان الجندي ممتنا له لأنه أنقذه. كما كان فؤاد يحرص على مساعدة جاره المختل عقليا الذي كان في بعض الأحيان يسكب الكيروسين على نفسه ويهدد بإشعال النيران. ولم يكن هناك أحد بخلاف فؤاد قادرا على سحب أعواد الكبريت من يديه ووضع نهاية لمحاولة انتحاره.

ولا يهتم سليمان بالتصنيف قدر اهتمامه بالبشر، فهم من يهمونه حقا. فهو لا يمنح أي أحد المتعة الرخيصة للإشفاق على الذات أو التباهي بها. ومن هذا المنطلق فإن فيلمه يتصف بالخلو من الشفقة على الذات وبالتفهم البالغ. ولا شيء يمر دون أن يتعرض للكشف، فأي شيء مبالغ في كونه آيديولوجيا وبالتمحور حول الذات يتعرض للاتهام بأنه دجموي ومتناقض كما يتهم بأنه متناقض مع الحياة الواقعية الأقل تناقضا والأكثر تغيرا.

وفي الوقت الذي يبدي فيه سليمان تفهما للجميع، فإنه يطالب جمهوره بمنح شخصياته نفس القدر من التفهم. وربما يكون ذلك التفهم - إقراره بضعف البشر ونقصهم - هو ما يجعل ذلك الفيلم استثنائيا على ذلك النحو. وتوجد حالة مؤثرة من الفقدان في ذلك الفيلم؛ فهو قصيدة رثاء للفلسطيني الذي كان موجودا من قبل أو ربما لم يكن موجودا خارج الميثولوجيا المتخيلة؛ وهو النموذج الذي يغذيه دائما الإسرائيليون في دولتهم المتعمدة والبناء الثقافي الذي يتم استدعاؤه الآن عبر حالة من النوستالجيا (الحنين إلى الماضي). ولكن بلا شك فإن مجتمعا وشعبا لديهما وجود وحقيقة طبيعيان ربما تعرضا للانقسام بسبب الحرب التي أعقبت قيام دولة إسرائيل ولم يتعافيا منذ ذلك الوقت.

ويبدو سليمان ساخرا وقاسيا على جميع الأطراف، ففي بداية الفيلم يسخر من الجندي العربي الذي يفتقر إلى المهارة في تضامنه المفترض مع الفلسطينيين؛ حيث إنه لا يعرف إلى أين يسير، كما أنه يشعر بالوحدة وما زال يعتقد أن هناك حربا يتوجب عليه خوضها، بينما، في الواقع انتصر الإسرائيليون بالفعل في تلك الحرب.

وفي مشهد تم تكراره عدة مرات، تستمر سيارة جيب أمنية إسرائيلية في التعرض لأبو سليمان وصديقه وهما يصطادان. ففي كل مرة يسألهما الجنود إذا ما كان لديهما بطاقات هوية، وفي كل مرة يؤكدان بأن لديهما بطاقات وفي كل مرة يجيب الإسرائيليون في تعليق سريع بأنهما يمكنهما الاستمتاع بالصيد. ولكن الجنود لا يغادرون أبدا السيارة للتحقق من بطاقات الهوية لفؤاد وصديقه، كما أن فؤاد وصديقه يستمران في الصيد.

ولا يوجد في تلك المشاهد قدر عال من التوتر أو العداء بل يوجد قدر من التباعد غير المنطقي بين الأشخاص الذين يصيدون والأشخاص الذين يجلسون في الجيب. فكلاهما لا يتعرض للآخر، ويبدو كلاهما غارقا في واقعه. وأنت تدرك من تكرار تلك المشاهد أنه أيا ما كان الخليج الذي يفصل بين اليهود والفلسطينيين الإسرائيليين في إسرائيل فإنه أصغر في الحقيقية من الظلام الذي يحيط بتلك اللحظات ويمكن قطعه فقط باستخدام أضواء السيارة الجيب، وبعمق البحر.

رقيق وإنساني ومحزن وغاضب، ولكن دون أن يحتوي على تلك الطاقة المدمرة من الغضب والكراهية، فهناك صدق مذهل في ذلك الفيلم. وفيما يقال إنه أكثر الصراعات إثارة للجدل، الذي تشبعت به وسائل الإعلام، يقدم سليمان شيئا جديدا دون إحراز الأهداف لجانب أو لآخر. فهو يروي قصته الفردية، وقصة عائلته وقصة شعبه معلقا على القدرة البشرية الثرية للمقاومة في وجه الألم والظلم، دون الإشارة أبدا إلى أن سماع ورؤية واحترام حياته وتوجهاته يمنع احترام وتقدير إنسانية الطرف الآخر لذلك الصراع.

لقد كان أداء الممثلين في ذلك الفيلم بارعا للغاية، بالإضافة إلى التصوير خاصة استخدام اللقطات البعيدة والتركيبات التي تصور الشخصيات بطريقة تعزز رؤية المشاهد لواقعه الخاص. وينطبق ذلك إلى حد ما على تصوير والدة سليمان الطاعنة في السن التي يعود سليمان للعناية بها بعدما يكبر. فنحن نشاهدها وهي تجلس في الناصرة ونتساءل عن الأفكار والذكريات التي تتداعى إلى ذاكرتها الآن.

كما نراها أيضا في المشاهد الجميلة لما أصبح بالفعل أرضا إسرائيلية سياسيا ولكنه ما زال بالنسبة لأبي سليمان أرضا فلسطينية، حتى أثناء تقييده وقذفه عبر بوابة على يد الجنود الإسرائيليين في 1948 كنوع من العقاب نظرا لمشاركته في الهجمات ضد القوات الإسرائيلية.

يرتطم جسده بالأرض محدثا صوتا مكتوما، ولا يرى المشاهد جسده وهو يسقط خلف ذلك الجدار الحجري ولكنه يشاهد فلسطين – إسرائيل، وحب سليمان لأرضه وما تمثله بالنسبة له. ولا نعرف إذا ما كان قد مات أم لا ولكن الأرض تظل هي الشاهد.

يصور الفيلم كيف أن الخسارة يجب أن لا تؤدي إلى اليأس، حيث إن البقاء والتسويات التي يتطلبها لا يجب أن يؤديا إلى الاستسلام. بل في أكثر المواقف التي يتم تقديم تسويات فيها، فإن كرامة الشخص والشعب حتى وإن تم انتهاكها يمكن أن تظل بلا مساس وأن تتجاوز حدود أي قوة خارجية مهما كانت قوتها ونفوذها.

وعلى الرغم من أن سليمان يرفض من خلال رؤيته الشاملة وتسامحه مع عيوب البشر - رغباتهم وأخطائهم، إخفاقاتهم وإحباطاتهم - ورفضه أن ينحاز ويجعل من أحد الأطراف بطلا على حساب الآخر، يرفض التعالي والإهمال، والتجاهل وعنف التطرف وبالتالي فهو راديكالي بكل معني الكلمة في تحرير الإنسانية والنضج الأخلاقي الذي يجلبه للشاشة.

 

* نعوم شميل: باحث وممارس لحقوق الإنسان يعيش في لندن ولديه خبرة واسعة في ذلك المجال.

font change