لمحة عن الانقسام عبر الأطلسي حول الإنفاق الحكومي

لمحة عن الانقسام عبر الأطلسي حول الإنفاق الحكومي

[escenic_image id="55100939"]

على الرغم من حجم المفاجأة التي تسببت فيها إقالة الجنرال ستانلي ماكريستال من منصبه كقائد للقوات الأميركية في أفغانستان، فإنه يتضاءل مقارنة بخبر مغادرة مدير ميزانية البيت الأبيض بيتر أورزاغ لمنصبه. ربما يكون أورزاغ شخصية مغمورة خارج حدود واشنطن العاصمة، لا سيما لدى مقارنته بماكريستال المتباهي، ولكن يعطي خروجه من البيت الأبيض مؤشرات على نتائج مهمة في اقتصاد عالمي منقسم بين أتباع كينز (نسبة إلى رجل الاقتصاد الإنجليزي جون مينارد كينز صاحب النظرية العامة في التشغيل والفائدة والنقود) من جانب، وخبراء النقد أصحاب القبضة الشديدة من جانب آخر.

ووفقا لتقارير صحافية، قدم أورزاغ استقالته بسبب شعوره بالإحباط من عدم رغبة زملائه في حل مشكلة العجز المالي الهائل في أميركا، الذي يقدر بنسبة تزيد على 11 في المائة من إجمالي الناتج المحلي. وعلى وجه التحديد، قدم أورزاغ التماسا بزيادة الضرائب بالإضافة إلى تخفيض الإنفاق من أجل تصحيح وضع الحسابات العامة المثقلة بالديون، وهو الاقتراح الذي عارضه مساعدو أوباما السياسيون حيث تجري انتخابات التجديد النصفي بعد أربعة أشهر فقط. ولم يعتقد أورزاغ، الخبير الاقتصادي الذي تلقى تعليمه في جامعة برنستاون وهو تلميذ روبرت روبين، وزير المالية القوي في عهد كلينتون، أن اللجنة المكونة من الحزبين التي كلفها أوباما بوضع خطة لتقليل عجز الميزانية ستثمر شيئا مفيدا؛ حيث إن قادة الحزب الجمهوري أوضحوا أنهم سيعارضون أية خطة تتضمن زيادة الضرائب.

وربما تتجاوز الآثار المترتبة على خسارة أورزاغ للمعركة ما وراء الولايات المتحدة، حيث تعهد زعماء العالم بتقليل عجز ميزانياتهم الذي وصل إلى أرقام قياسية من خلال سياسات شد الحزام. وفي اجتماع قمة الدول العشرين الذي عقد مؤخرا في تورونتو، اتفقت الدول الأعضاء على التوصل إلى حل يمكنه أن يقلل من عجز الميزانيات إلى النصف بحلول عام 2013، أي بعد أن أجبرتهم الأزمة المالية العالمية عام 2008 على اللجوء إلى خطط تحفيز مالي وإنقاذ مصرفي ضخمة بخمسة أعوام. ومنذ عام 2007، وفقا لصندوق النقد الدولي، ارتفع متوسط عجز الميزانية السنوية في اقتصاد الدول المتقدمة بنسبة تزيد على ثمانية أضعاف، ليصل إلى نسبة 8.4 في المائة في العام الحالي، بينما من المتوقع أن يرتفع إجمالي الدين العام من نسبة 73 في المائة إلى 110 في المائة بحلول عام 2015. لقد أثارت نهضة كينز التي يبدو أنها حققت استقرار الاقتصاد العالمي ردا عكسيا عنيفا على إنجازاتها، متمثلا في عجز مزمن، وتهديد بالتضخم، ومخاوف مستمرة من العجز عن تسديد الديون السيادية. على سبيل المثال، يأمل ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء البريطاني المحافظ الجديد، في أن يخفض العجز في ميزانية بلاده من 8 في المائة من إجمالي الناتج المحلي إلى 6 في المائة عام 2015، من خلال بعض من أكثر السياسات المالية والنقدية صرامة في تاريخ بلاده.

ولكن لا تحمل جميع الدول المكبلة بعجز ميزانياتها الطموح ذاته. فقد حاولت إسبانيا على سبيل المثال، وهي تعاني من عجز في الميزانية يبلغ 11 في المائة من الدخل القومي، أن تهدئ المستثمرين بتخفيض أجور الموظفين. ولا يوجد اتفاق على أن الاقتصاد العالمي في حالة جيدة تسمح بتحمل مثل هذا العناء المالي. من الناحية النظرية، يبث تخفيض العجز - لا سيما إذا تم من خلال تخفيض الإنفاق بدلا من زيادة الضرائب - الثقة في مستقبل الاقتصاد على المدى البعيد، وهو ما يشجع المستهلكين وأصحاب الأعمال على المزيد من الإنفاق والاستثمار. والنتيجة هي معدلات فائدة منخفضة وزيادة فرص العمل وتوسع الاقتصاد.

والمشكلة هي أنه لا يوجد دليل على أن هذا التخفيض في الإنفاق المالي سيقنع المستثمرين والمستهلكين بإنفاق أموالهم في اقتصاد ما زال يعاني من الضعف في جميع أنحاء العالم. وعلى الرغم من حملات التقشف الصارمة التي تقودها اليونان وأيرلندا، على سبيل المثال، فإن المستثمرين يستمرون في طلب علاوات مخاطر عالية مقابل ديونها السيادية. ومن جانب آخر، يخشى كثير من الخبراء الاقتصاديين أن الإجراءات العنيفة لتخفيض العجز، مثل تلك التي تؤيدها دول مثل ألمانيا، ربما تحول دون التعافي العالمي الهش بحرمان الأسواق من السيولة المطلوبة بشدة.

وفي تورونتو، يبدو أن الرئيس أوباما نجح في إبعاد حملة التقشف التي تتناسب مع الجميع. لقد كان هذا طلبا يتميز بالتحدي، نظرا للوضع المالي لحكومته الذي يُرثى له. وينبغي على أوباما أن يثبت الآن أنه على استعداد لتصحيح العجز المالي المتزايد في أميركا باتخاذ الخطوات المؤلمة التي حددها أورزاغ المغادر لمنصبه، بمجرد أن يستقر وضع الاقتصاد الأميركي. ويعني ذلك تخفيض الاستحقاقات المقدسة سياسيا ونفقات الدفاع، التي تبلغ قيمتها، بالإضافة إلى فوائد الديون، 80 في المائة من إجمالي الإنفاق الحكومي.

وفيما يتعلق بالانضباط المالي، تستطيع واشنطن تجاوزه في سلام؛ فعلى الرغم من أن العجز في ميزانية الولايات المتحدة أكبر من عجز منطقة اليورو، فإن دور الدولار كعملة احتياطي عالمي يبعدها عن احتمالية الإفلاس. وفي الوقت الذي تتعرض فيه دول أوروبية كثيرة للخطر الذي وقعت فيه اليونان، يلجأ المستثمرون إلى الأوراق المالية الأميركية كملاذ آمن. وطالما استمرت رؤية الاقتصاد الأوروبي ضعيفا، لن تجد واشنطن مشكلة كبيرة في تسديد عبء ديونها التي حققت رقما قياسيا.

إذن، بفضل المستثمرين الأجانب، لم يحدث الأمر الذي كان الاقتصاديون أمثال أورزاغ يحذرون منه منذ أعوام. بل وحتى الأدميرال مايك مولين، رئيس هيئة رؤساء أركان القوات الأميركية، وجد تجاهلا كبيرا عندما أعلن أن أكبر تهديد للأمن القومي يواجه البلاد هو حجم الدين الوطني. ربما تكون أميركا كبيرة على أن تفشل، خاصة أن أوروبا في حالة مؤسفة. وربما يكون أيضا من المبكر التخلص التدريجي من المحفزات الاقتصادية والانتقال إلى خطة تخفيض العجز المالي. ولكن ستتعافى أوروبا في النهاية، وفي حين تحرر الصين سياساتها في التبادل التجاري الأجنبي ويستمر اقتصادها في التوسع، ستتضاءل سيادة الدولار. وإذا لم تتعامل واشنطن بجدية مع تخفيض العجز في وقت قريب، ربما تجد نفسها في الموقف ذاته الذي تعاني منه دول مثل اليونان وأيرلندا، حيث لن يواسيها سوى فكرة الاستثناء الأميركي البالية.

 

* ستيفن غلين - مراسل سابق لـ«نيوزويك». وكان يغطي أخبار آسيا والشرق الأوسط لـ«وول ستريت جورنال» على مدار عشر سنوات. وهو يقيم حاليا في واشنطن ويعمل صحافيا حرا ومؤلفا. ويعكف حاليا على تأليف كتابه الجديد عن عسكرة السياسة الخارجية الأميركية.

font change