الجامعة العربية تمد أبو مازن بالسلم الذي يريده للنزول من فوق الشجرة

الجامعة العربية تمد أبو مازن بالسلم الذي يريده للنزول من فوق الشجرة

[escenic_image id="5535053"]

أخيرًا، وبعد عام من وصول الرئيس أوباما للبيت الأبيض، نجحت الإدارة الأمريكية في بدء مرحلة جديدة من التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين. فالعام الذي انقضى في ظل حالة من الجمود التام أظهر للرئيس الأمريكي مدى التعقيد والصعوبة اللذين يلفان الأوضاع في الشرق الأوسط.

العام الذي انقضى بلا فائدة هو خسارة محققة، لكن الإصرار الأمريكي على الدفع باتجاه معاودة المفاوضات، رغم الصعوبات، هو نقطة إيجابية في الرصيد الأمريكي من ناحية، وفي أوضاع المنطقة من ناحية أخرى، فالالتزام الأمريكي بتحقيق السلام في الشرق الأوسط يمثل في هذه المرحلة أكثر العوامل إيجابية في الموقف السائد في المنطقة.

للسلام في الشرق الأوسط شروط أربعة، إسرائيلي وفلسطيني وأمريكي وعربي، والشرط الأمريكي هو الأفضل حالا بين الشروط الأربعة. فالإسرائيليون تحت حكم اليمين ليسوا مؤهلين لما هو أبعد من تحركات تكتيكية، والانقسام الفلسطيني يفرض قيودًا قاسية على حركة القيادة الفلسطينية، والعرب المتشككون مترددون في وضع ثقتهم كاملة خلف جهود إحياء المفاوضات. إدارة أوباما المصممة على إحياء عملية السلام، هي أكثر العوامل الأربعة إيجابية، وتحركاتها تمثل قوة الدفع الرئيسية لجهود السلام، كما  تمثل إخفاقاتها أخطر ما يُحدِق بهذه العملية.

أهم إخفاق وقعت فيه إدارة أوباما هو؛ الإخفاق في تقدير مدى جسامة الصعوبات التي تعترض سلام الشرق الأوسط. ظهر هذا في التصريحات المتفائلة التي أطلقها الرئيس الأمريكي عن السلام الذي يمكن تحقيقه خلال عامين، كما ظهر في طلب واشنطن من إسرائيل الالتزام بوقف كامل لأنشطة الاستيطان، وهو الطلب الذي تمت صياغته بطريقة فَهِم منها الجميع أن وقف الاستيطان هو شرط وضعته أمريكا لبدء المفاوضات. 

لم تخطئ الولايات المتحدة من الناحيتين، المبدئية والقانونية، عندما طالبت بوقف الاستيطان، فالاستيطان غير شرعي وفقًا لقواعد القانون الدولي، كما أن وقف الاستيطان يمثل جزءًا لا يتجزأ من المرحلة الأولى من خطة خريطة الطريق، وهو أيضًا مطلب رئيسي في التوصيات التي وردت في تقرير جورج ميتشيل، عندما تم إرساله للمنطقة لأول مرة أثناء الانتفاضة الفلسطينية الثانية. ومع هذا فإن الإدارة الأمريكية أخطأت عندما تصورت أن إسرائيل لن يمكنها سوى التجاوب مع الطلب الأمريكي. فإسرائيل رغم اعتمادها على الولايات المتحدة في توفير أمنها، فإن لديها من القوة الذاتية ما يسمح لها بهامش واسع للمناورة مع الولايات المتحدة، بل والضغط عليها أحيانًا. ومنذ تبين للإدارة الأمريكية خطأ التكتيكات التي اتبعتها لتنفيذ إستراتيجية الاندفاع السريع نحو السلام، وحتى الشروع في بدء المفاوضات عن قرب، فإن كل تلك الفترة التي استغرقت القسم الأكبر من العام الأخير لم تكن سوى محاولة لاحتواء الضرر الذي ترتب على التكتيكات الأمريكية الخاطئة.

القدر الأكبر من الضرر المترتب على خطأ التكتيكات الأمريكية لحق بالقيادة الفلسطينية وموقفها. فالموقف الأمريكي المتعلق بوقف الاستيطان كشرط لبدء المفاوضات، أغرى القيادة الفلسطينية لتبني الموقف نفسه، حتى وإن لم تكن لديها الثقة في قدرة واشنطن على مواصلة التمسك بموقفها للنهاية. فلم يكن ممكنًا لأي مسئول فلسطيني أن يضع لمطالبه سقفًا يقل عن سقف المطالب الأمريكية، ولم يكن له أن يضع نفسه في موقع الاختلاف مع الولايات المتحدة عندما تتوفر لقيادتها الشجاعة للضغط على إسرائيل، وإلا فقد الاعتبار في أعين الشعب الفلسطيني، وخاطر بنزع شرعيته السياسية.

غير أن تراجع الولايات المتحدة عن ربط بدء المفاوضات بوقف الاستيطان، وضع القيادة الفلسطينية في موقف شديد الصعوبة، فبينما لم يكن بإمكان القيادة الفلسطينية التراجع عن موقفها المتشدد بشأن الاستيطان، وإلا بدت وكأنها مجرد تابع يستلهم مواقفه من واشنطن، فإنه لم يكن بإمكانها أيضًا مواصلة التمسك بموقفها، وتحمل المسئولية عن تفويت الفرصة التي ما زالت سياسة أوباما في الشرق الأوسط تتيحها، والسماح لإسرائيل بالتهرب من مفاوضات تعتبرها القيادة الفلسطينية الطريق الوحيد الفاعل لتحقيق الطموحات الوطنية للفلسطينيين.

لقد بدت القيادة الفلسطينية كمن تسلق شجرة، ويبحث عن مَن يساعده على الهبوط إلى الأرض مرة أخرى، وهنا أتى دور الجامعة العربية. فقد ذهب الرئيس الفلسطيني للدول العربية عارضًا عليهم ورطته، مطالبًا إياهم بمساعدته على الخروج منها. فالرئيس الفلسطيني المحشور بين التمسك بموقف مبدئي سليم، لكنه ضار بإستراتيجيته السياسية، وبين ضرورات التحلي ببراجماتية يمكن لها أن تُضعِف موقفه في مواجهة خصوم متربصين، الرئيس الفلسطيني المحشور بين اختيارين، كليهما مر، وجد نفسه غير قادر على اتخاذ القرار السليم، فوضع مسئولية القرار الفلسطيني بين يدي الحكومات العربية حتى تتحمل معه تبعات أي قرار يتم اتخاذه.

لقد أمدت الجامعة العربية الرئيس الفلسطيني بالسُّلم الذي احتاجه للنزول من فوق الشجرة، فجاء قرارها بالتصريح للقيادة الفلسطينية بالدخول في المفاوضات "عن قرب" مع إسرائيل لمدة أربعة شهور يعود الفلسطينيون في نهايتها لوضع الأمر برمته في يد الجامعة العربية، لتقرر تمديد التفويض العربي الممنوح للقيادة الفلسطينية للتفاوض، أو إصدار الأمر للفلسطينيين بمغادرة قاعات التفاوض، والشروع في حملة تصعيدية ضد الاحتلال الإسرائيلي، تبدأ من قاعات مجلس الأمن.

الصياغة العربية لقرار السماح للقيادة الفلسطينية بالتفاوض باسم الفلسطينيين تمت صياغته بمهارة عالية لكي يبدو عليه التشكك في جدوى المفاوضات، وذلك مراعاة لرأي عام كاد يفقد الثقة في المفاوضات، ولكي يعود ويلوح بالتشدد لكي يبرر تبني اختيارات واقعية. وبهذه الطريقة وفرت الجامعة العربية للقيادة الفلسطينية شبكة أمان تحميها وهي تهبط من ذرى التشدد إلى أرض الواقع الصلبة.

ورغم المفارقات المخيمة على الموقف برمته، وما قد يستدعيه ذلك من سخرية، فإن حسابات المكسب والخسارة تبين أن الموقف الذي اتخذته القيادة الفلسطينية والجامعة العربية يظل هو أكثر المواقف معقولية وصوابًا، وأن الجامعة العربية لعبت في هذه المناسبة واحدًا من أهم الأدوار التي طالما نجحت في القيام بها، إنه دور توفير شبكة الأمان لأعضائها عندما تنسد أمامهم الطرق في علاقاتهم مع قوى إقليمية ودولية متفوقة

font change