الولاء للحقيقة فقط

الولاء للحقيقة فقط

[escenic_image id="5532893"]

في عام 1993 اكتشف مشاري الأديب السوري الراحل الشيخ علي الطنطاوي وقرأ كل مؤلفاته، عرفه لاحقًا عن كثب وزاره أكثر من مرة كما عكف لسنوات قارئًا نهمًا لرواد النهضة العربية وكبار أدبائها، ويعتبر كثيرون أن السنوات الثلاث ما بين 1993 وحتى 1996 كانت بمثابة محطة مهمة في حياة الذايدي، حيث شهدت التحول من التشدد الديني إلى الليبرالية المتزنة، ولأنه كان وثيق الصلة بأشخاص بقوا عالقين من مرحلة سابقة ممن كانت الحماسة الدينية والميول الجهادية تقودهم فقد كان مثارًا للجدل بعد أحداث منتصف التسعينيات، خلال تلك الفترة أراد التقاط الأنفاس فابتعد عن الوطن ليعيد ترتيب الأوضاع في غضون عامين قضاهما في الأردن، انكب خلالهما على قراءة العديد من أمهات الكتب وقبل العودة إلى السعودية في منتصف 1998، كان الذايدي قد حدد أهدافه بشكل واضح.

كتب  مشاري خلال تلك الفترة عددًا من القصائد المفعمة بالحزن والألم والحرمان والاعتداد الكبير بالنفس، لكن حزن مشاري الذي كان يحسن إدارته والتعامل معه كان شيئًا لا يعرفه إلا الأشخاص الرائعون، أولـئك الذي يحملون بين جوانحهم روحًا وثابة للتحليق في عالم لا يحده حدود، ولكن كل الآفاق كانت مغلقة وقتها.. وحسب شهادة المقربين له كان مشاري أكثر ذكاء في التحايل على تلك السدود والموانع الثقافية والمذهبية التي تجعل من الفرد صورة نمطية مستنسخة لدى الآخرين، فقد عرف مشاري ابن حزم وقرأ معظم تراثه، واكتسب صفة المشاغبة والاستقلال الفكري منذ فترة مبكرة، وهي لوثة تصيب كل من  تعلق  بفكر هذا الفقيه الأندلسي  .. دخل الكاتب الكبير في ذروة الانخراط بتفاصيل المسائل الفقهية والعقدية ومطلعًا بشكل لا بأس به على تحولات السياسة الإقليمية، كما دأب على معرفة وقراءة تاريخ نجد والحجاز والكويت واليمن، وأيضًا كان متابعًا لأخبار الفن.

فمشاري يعد واحدًا من الكتاب المعدودين على  الأصابع الذين يمكن الحديث عنهم كمثال نقي خالٍ من الشوائب والتشابكات المضللة وعف اللسان  فهو إنسان بمعنى الكلمة  وكثيرًا ما يمد يد العون لأصدقائه في حالة تعسرهم بل يمتد عطاؤه إلى أشخاص وأسر لا يعرفها.

يرفض مشاري الحديث عن ماضيه ويؤكد أنه ابن لحظته هذه، ويتفادى بكل شراسة أن يصنف ضمن فئة من المتحولين الذين بقوا وسيبقون من العائدين إلى اللـه، مشاري الذايدي يدخل في مصاف كبار المثقفين والمفكرين العظماء في العصور الذهبية أمثال الجاحظ وأبو حيان التوحيدي،  ممن أفنوا حياتهم في جمع العلم دون الدخول في دراسة أكاديمية أو البحث عن شهادات..

المحلل والكاتب الدكتور رشيد الخيون تعرف إلى  مشاري عبر كتابته وعن ذلك يقول: قرأت له مقالة أذهلتني بسعة معلوماتها وموقف كاتبها الإنساني وانسياب كلماتها، وكانت خاصة بالعراق وأهله، فتخلصت عندها من عقدة الغيرة بين أهل المهنة أو الحِرفة الواحدة، ألا يعترف بعضهم لبعض بفضل، وكتبت  تعليقًا على مقالته، دون أن أعرف أنه من أي بلد، وكانت تلك وشيجة وتعارفًا، منذ سنوات.

مشاري الذايدي من المثقفين الجامعيين بين التراث والمعاصرة، بأسلوب كتابته وبحياته أيضًا، ولعلي وجدت فيه تلك الفطرة الثقافية، التي لم تكتسب من دراسة أكاديمية أو مكتبة عائلية، إنما تخرج من تحت يد المشايخ، يجلس على الأرض ويستمع ويحدو وراء شيخه، وهذا ما كان عليه أرباب ثقافتنا الأوائل، ومازال وفيًا لذلك الأسلوب بالتعليم، وقد تزود منه التواضع الجم، والخجل أمام المعرفة، ومَنْ لا يخجل ولا يخشى ليس بصاحب علم ودراية، إنما يُعد من أصحاب الأهواء الطارئين، من تلك الأيام علقت بدواخل مشاري جزالة التعبير وقوة المفردة، ومن جانب تجده ذلك المتمرد على فكر الشيخ وطريقة حياته، ليدخل إلى عالم المعاصرة من أوسع أبوابه، ولا أظنه دخل باب الحداثة بمفتاح أحد رموزها إنما بمفتاحه هو.

يضيف الخيون : لا يمل مشاري من السؤال حول فكرة أو حدث، أو تقصي رواية، على الرغم من أنه ملم بها، فبعد إجابتك يفاجئك بمخزون ما لديه، حتى ينقلب أنه الفائد لا المستفيد.
كثيرًا ما طلب من مشاري أن يجهز لمقاله الأسبوعي قبل يومين أو ثلاثة، ليجد فسحة من مراجعته، وألا يدع الزمن يغدر به، لكنه وبكل اقتدار لا يكتب إلا قبيل ساعات من النشر، وينتصر ويفاجئنا بمقالات لا تغفلها الذاكرة. وهكذا يبدو الزمن لدى مشاري هباء منثورًا إلا سويعات منه يسد بها كل حاجته منه، يكتب ويقرأ وينجز. ومغالبة الزمن ليست بالأمر الهين للذين يقلقون على فوات الأوان، أما مَنْ هم على شاكلة مشاري الذايدي، قد تتساوى لديهم الساعات والسنوات، لكن من دون خسارة وتفريط.

ويواصل: لقد حدثت في حياة مشاري تحولات فكرية، من العقائدية المتشددة إلى الليبرالية المتفتحة، والقابضة على جمرة الحرية، وهو لا يبعد مثالًا عن قصيمي سابق انتقل من سلفية غامقة إلى ليبرالية جامحة، إنه عبد اللـه القصيمي، تحول وهو في عرض الصحراء، ومن مؤثر داخلي على ما يبدو، تحول من محدودية المذهب وانغلاق الدين إلى العالم الرحب، وأرى في هذا التحول ما يشبه الخارقة، حتى أضحى ابن الصحراء وسليل الإخوان يعلم أهل الحواضر والمدائن حرية الفكر والتمرد، شأنه شأن أبي العلاء المعري، الذي يحار قارئ لزومياته بمصدر علمه، وهو رهين المحبسين على ما عُرف عنه. أحسب أن تحولات مشاري الذايدي من هذا النوع، للذي يراه عن بُعد لا يهتم بشأنه، ولا يرى فيه هاجس الفكر والرؤية،

فهو يحمل قوته الثقافي في كيس يطوي به الشوارع والطرقات، يجمع وجبات طعام يومه بوجبة واحدة، لا من عازة أو تقشف، إنما لإهمال الزمن وتداخله، وما إن يستريح بمقهى يخرج من كيسه جريدة وكتابًا، يشربه من القراءة الأولى وكثيرًا ما سرد عليَّ تفاصيل كتاب بمجلس ضمنا أو عبر التليفون. لا أظن مشاري يألف رفوف الكتب أو طاولات الكتابة وحافظات الأقلام، وكم سخر من حملي لقلم باركر نمرة 51 منذ سنوات طويلة، على أني تقليدي السلوك معاند للتقدم. حاولت يومًا استبدال كيسه ذي الاستعمال اليومي بحقيبة دائمة، لكنه في اليوم الآخر عاد إلى الكيس راميًا بالحقيبة في زاوية من زوايا المقهى.

ويعتبر الكاتب رشيد الخيون أن مشاري الذايدي واحد من جيل الليبرالية السعودية فيقول: لم نكن نظن أن في جوف الصحراء، وما حول الحرمين، سوى تاريخ من التزمت، ومعاداة مذهبية، ووقفت ذاكرتنا كعراقيين عند غزوات الإخوان لتخوم النجف وكربلاء، وأن تلك الأرض خالية من عقلانية وليبرالية وإبداعات ثقافية وفنية، وأفكار إنسانية، كان ذلك حصيلة انغلاقيين: مذهبي وعقائدي، الأول وقف عند مقالات ابن تيمية(ت 728 هـ)، وخصمه أبي مطهر الحلي (ت 728 هـ)، والثاني عند أعتاب تعالي اليسار على بقية العقائد.
لكن المفاجأة، التي فاجأني بها مشاري وبقية الأصدقاء السعوديين، أنهم يعرفون عن تمرد جميل صدق الزهاوي (ت 1936)، وعلوم أنستاس الكرملي (ت 1947)، وعوالم الأحزاب العراقية بما لا يعرفه الكثير من العراقيين، ويحفظون لمحمد مهدي الجواهري (ت 1997) أروع القصائد، ناهيك من معرفتهم وتبحرهم في أمر عوالم البلدان الأخرى، من لبنان وسوريا ومصر وغيرها. ولعزلتنا عند ماضينا وحاضر وسابق المدن السعودية أخذني الاستغراب من أن يكون لمجلة "لغة العرب"(1911 - 1931) مراسل في أعماق نجد هو الصحفي سليمان بن صالح الدخيل، صاحب جريدة "الرياض" القديمة.

يبقى مشاري المثقف والإنسان أحد المتوقدين الحالمين بعالم خالٍ من التزمت والتعصب، وهو الذي خاض تلك التجربة، التي خرج منها خروج طائر الفينيق من تحت الرماد. ومَنْ يدري فلربما بلا تلك التجربة، والتدين السياسي إلى حد التطرف، لا يكون مشاري الذي نعرفه، كائنًا مثقفًا، لذا أرى في تجربة مشاري وأصدقاء آخرين، يحضر في مقدمتهم الكاتب والمثقف عبد الـله بن بجاد، وهما الشاربان من منهل واحد، والخارجان من باب واحد، والسالكان طريقًا واحدًا، حتى غدوت لا أعرف أحدهما من دون الآخر، وتبدو لي ما بينهما وشيجة نادرة في التأسيس والتحول وحمل الهم الواحد.

وجدت في مشاري الذايدي جدية الباحث، وقلق المثقف المتابع، يكسرهما مرح طفولي وعاطفة بدوي إذا ما أحب وأرخى رسن عاطفته لمكان أو صديق. أجده كثير التخيل لمشاريع يتحدث بها وكأنه قائم على إنجازها في تلك اللحظات، لا يظهر خلافه بالفكرة والرأي إذا ما شعر بأن ذلك يؤدي إلى خدش صلته بالآخرين.

ويختتم الخيون حديثه عن مشاري الذايدي بقوله: على الرغم من تسيبه في الوقت، ينجز أكثر من الحاصين الدقائق والساعات، والدليل على ذلك أنه لا يمتلك، حسب علمي، ساعة توقيت، ولا روزنامة تاريخ، لكنه ينتظم عبر الفوضى، ويقيس الزمن على حركة الشمس، أما الليل فهو نهاره، من دون مغامرة في الالتزامات الخطيرة، كمسئولية قسم في جريدة، تُعد من أمهات الجرائد مثلًا.

يقول الكاتب محمد صادق دياب: تعرفت إلى مشاري الذايدي قبل بضعة أعوام، فندمت على أنني لم أعرفه من قبل، إذ وجدت فيه ذلك الإنسان الحضاري المنفتح على الناس والأفكار والعالم، همه المعرفي يسبق مختلف همومه الحياتية، حتى أنني في كل مرة ألتقي به أجده منشغلًا بالبحث عن قضية معرفية في التاريخ أو الأدب أو السياسة أو الدين، يشد من أجلها رحال الاهتمام ليتعرف على تفاصيلها الكاملة،

إذا التقيت به في شارع الحياة تشعر بأنك أمام إنسان تعب كثيرًا في بناء ثقافته، أمام روح مسكونة بالبحث والسؤال والتقصي، أمام ذات ترنو إلى آفاق إنسانية أكثر احتفاء بالتنوع والتعدد والتكامل، وهو على المستوى الأخلاقي أحد النبلاء في شارع الصحافة بعفة لسانه، وصدقه مع نفسه، وترفعه عن الجدل العقيم.

ويؤكد الكاتب والمسرحى المصري على سالم أن مشاري واحد من أهم كتاب السعودية في الوقت الحالي ومحلل سياسي بدرجة ممتاز ودائمًا كتاباته تتميز بالعمق،  فهو ثاقب الرؤية وواسع الاطلاع.. فضلًا عن استخدامه  العبارات الرشيقة التي تمتع القارئ  علاوة على أنه إنسان قبل كل شيء حيث يغلب عليه التواضع ولا يعرف الغرور له طريقًا.

 

font change