المكاسب التركية وراء السعي للانضمام للاتحاد الأوروبي

المكاسب التركية وراء السعي للانضمام للاتحاد الأوروبي

[escenic_image id="5526386"]

في الأساطير اليونانية القديمة، قتل تانتالوس ابنه وقدمه وجبة للآلهة، ولكن لأن أكل لحوم البشر والوأد والتضحيات البشرية كانت تعد من المحرمات بالنسبة لليونانيين في العصر القديم، فإن الآلهة أنزلت بتانتالوس عقابًا صارمًا، وهو أن يقف إلى الأبد في بركة من المياه العذبة تحت شجرة مثمرة، وكلما حاول تانتالوس قطف ثمرة من الشجرة، تبتعد فروع الشجرة عن متناول يديه، ولا تسمح له بأكل الثمرة، وكلما مد يديه لأسفل للحصول على شربة ماء يطفئ بها ظمأه، تنحسر المياه قبل أن يتمكن من تحقيق هدفه.

وللوهلة الأولى، يمكن للمرء أن يجد شبها كبيرًا بين محاولة تركيا الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي والمصير الذي واجهه تانتالوس. فكلما أوشكت تركيا على استيفاء شروط الانضمام للاتحاد، أصبحت الشروط أكثر صرامة وتعقيدًا. فالشروط التي كانت تتركز في البداية حول تحسين المؤسسات السياسية والاقتصادية التركية، تحولت إلى عملية انضمام تتسم بالتعقيد الشديد. ففرنسا، على سبيل المثال، وصل بها الحد إلى درجة تغيير الدستور من أجل إجراء استفتاء وطني حول هذه المسألة.

وبغض النظر عن الآثار المحبطة لهذه العقبات السياسية، إلا أن إلقاء نظرة فاحصة على الأمر تكفي لأن تجعل المرء يدرك أن تركيا، بخلاف تانتالوس، تحقق فائدة كبيرة من هذا الوضع، ربما تزيد على الفائدة التي كانت ستحققها لو كانت شروط الانضمام أكثر تساهلًا. وتنبع هذه الفائدة من مصدرين رئيسيين هما: أولًا، تقلل عملية الانضمام من الحواجز التي تعوق التجارة وتدفق رءوس الأموال وتنقل الأشخاص بين الاتحاد الأوروبي وتركيا. وثانيًا، تشكل الرغبة في الانضمام نوعًا من الضغط الذي يدفع إلى الأمام عجلة الإصلاحات التي تحتاجها تركيا بشدة.

وتضع تركيا مسألة الوصول إلى السوق الداخلية للاتحاد الأوروبي على رأس قائمة أهدافها. وينص أحد بنود اتفاق أنقرة (1963) وكذلك بروتوكول أنقرة (1971) على أنه ينبغي أن يتم إنشاء الاتحاد الجمركي قبل تنفيذ عملية الانضمام إلى السوق الداخلية. ولم تتوقف الآثار الناتجة عن الاتحاد الجمركي الذي تم تكوينه بين الاتحاد الأوروبي وتركيا في عام 1996، عند حد القضاء على التعريفات الجمركية والحواجز الكمية على التجارة في السلع الصناعية والمنتجات الزراعية المصنعة، ولكنها تجاوزته إلى القيام بعمل مواءمة بين المعايير واللوائح الاقتصادية.

 

الجدول الزمني للمساعي التركية الرامية إلى الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي

31 يوليو/تموز 1959

تركيا تطلب الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة

12 سبتمبر/أيلول 1963

النص على شروط العضوية في إطار اتفاق الشراكة (اتفاق أنقرة)

1 ديسمبر/كانون أول 1964

تنفيذ اتفاقية الشراكة

23 نوفمبر/تشرين ثانٍ 1970

توقيع البروتوكول الذي يحدد الجدول الزمني لإلغاء الرسوم والحصص المفروضة على السلع (بروتوكول أنقرة)

1980

قطع العلاقات مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية، عقب الانقلاب العسكري  الذي وقع في تركيا في عام 1980

1983

تحسن العلاقات مع المجموعة الاقتصادية الأوروبية عقب الانتخابات التركية.

14 أبريل/نيسان 1987

تركيا تطلب بشكل رسمي الحصول على عضوية المجموعة الأوروبية.

6 مارس/آذار 1996

تشكيل الاتحاد الجمركي بين تركيا والاتحاد الأوربي.

12 ديسمبر/كانون أول 2002

المجلس الأوروبي ينص على ضرورة استيفاء تركيا لمعايير كوبنهاجن قبل الشروع في التفاوض مع الاتحاد الأوروبي.

2004

"خطة عنان" بشأن قبرص تحظى بدعم تركيا والجمهورية التركية لقبرص الشمالية.

17 ديسمبر/كانون أول 2004

بدء المفاوضات بين تركيا والاتحاد الأوروبي

11 ديسمبر/كانون أول 2006

الاتحاد الأوروبي يوقف التقدم في التفاوض بشأن قوانين الاتحاد بسبب النزاع الذي لم يتم تسويته بين تركيا وقبرص

29 مارس 2007

إعادة فتح التفاوض بشأن قوانين الاتحاد الأوروبي، وذلك فيما يتعلق بالفصل الخاص بسياسة الأعمال والسياسة الصناعية

25 يونيه/حزيران 2007

فتح التفاوض بشأن فصل السياسة الاقتصادية والنقدية والذي أعاقة الرئيس الفرنسي نيكولاس ساركوزي

19 ديسمبر/كانون أول  2008

فتح التفاوض بشأن فصل السياسة الاقتصادية والنقدية وفصل المجتمع والإعلام 

8 ديسمبر/كانون أول 2009

فتح التفاوض بشأن فصل البيئة

 

ونتيجة لذلك، هناك تكامل جيد نسبيًا بين كلا الاقتصادين في الوقت الحالي. ففي عام 2008، كان الاتحاد الأوروبي في أعلى القائمة التركية لكبار شركائها التجاريين، حيث يمثل الاتحاد نحو 41.7% من التدفقات التجارية، بما يفوق بكثير روسيا (11.4%) والصين (5.2%) والولايات المتحدة (4.9%). وما بين عامي 2006 و2007، بلغت تدفقات الاستثمار الأوروبي المباشر إلى تركيا أكثر من 24 مليار يورو وسجلت أسهم الاستثمار الأوروبي المباشر أكثر من 48 مليار يورو مع بداية عام 2008.  

ولا تزال هناك العديد من العوائق الفنية والإدارية التي تقف في طريق التجارة، خصوصًا في القطاع الخدمي، وهناك حاجة إلى التغلب على هذه العوائق قبل انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، وهذا من شأنه أن يحقق مكاسب كبيرة للاقتصاد التركي: فمجرد تحقيق التناغم بين العوائق والتنظيمات من شأنه أن يزيد إجمالي الناتج المحلي بنسبة 0.8% والتجارة الثنائية بنسبة 12-18% سنويًا وفقًا لبعض التقييمات المتحفظة.

بيد أن المكسب الرئيسي من انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي يتمثل في تحسن المؤسسات الاقتصادية والسياسية في تركيا. فخلال الخمسين عامًا الماضية، كانت المساعي التركية الرامية إلى الانضمام الأوروبي بمثابة دفعة لتحقيق إصلاحات مؤسسية حساسة من الناحية السياسية وكذلك إدخال تعديلات مميزة على السياسات الاقتصادية التي عادت بالنفع على تركيا حتى وإن فشلت في مفاوضاتها من أجل الانضمام إلى الاتحاد.

وكمثال على ذلك أنه تم تنظيم القطاع المالي التركي بشكل هائل، ما أدى بدوره إلى نظام يسيطر عليه عدد قليل جدًا من البنوك الكبرى التي تستفيد من هوامش ربحية لا بأس بها. وفي فترة الثمانينيات، قررت الحكومة إصلاح القطاع المالي من خلال تحرير السوق للسماح للبنوك الأجنبية بالدخول إليها وإزالة ضوابط سعر الفائدة وتوجيه برامج الائتمان. وزيادة المنافسة بدخول البنوك الأجنبية إلى تركيا بنماذج عملها الأكثر كفاءة وفعالية كانت بمثابة دافع قوي للبنوك المحلية من أجل تحديث وتوسيع نطاق مختلف الخدمات المقدمة. كما أدت المنافسة أيضًا إلى خفض الهوامش التي كانت تفرضها البنوك المحلية، حيث قللت من تكلفة خدماتها المقدمة للمستهلكين، وبوجه عام، أصبح تخصيص رأس المال أكثر كفاءة في الاقتصاد كما تحسنت جودة الخدمات بشكل كبير.

ومن أكثر شروط الاتحاد الأوروبي صعوبة والذي لم تستطع تركيا إلى الآن الوفاء به هو انصياع أنقرة للقانون الكامل للاتحاد. وفي حال تمكنت أنقرة من الوفاء بهذا الشرط، فإنه دون شك سوف يصبح بمثابة حافز قوي لها لإجراء مزيد من الإصلاحات المؤسسية من خلال إدخال تعديلات على قوانين وتنظيمات القطاع الخدمي ولوائح الشراء الحكومي. ومن الممكن أن يعزز شفافية المؤسسات الحكومية بشكل ملحوظ ويقلل الفساد وبالتالي يعزز قدرة تركيا على المنافسة الدولية. ووفقًا لبعض الدراسات، فإن تعزيز الشفافية وتقليل الفساد يمكن أن يعملا على زيادة النشاط التجاري بين تركيا والأعضاء الحاليين في الاتحاد الأوروبي بنسبة تتراوح بين 17 و 27%.

مكاسب تركيا الاقتصادية

ورغم ذلك يعد الانضمام لعضوية الاتحاد الأوروبي في حد ذاته مفيدًا جدًا للاقتصاد التركي على مستوى القطاعات، فبما أن عوائق التعريفة وغيرها من العوائق تمثل فعليًا نوعيات من الضرائب، سوف تؤدي إزالتها إلى تغيير في أسعار السلع المنتجة في تركيا والاتحاد الأوروبي، فمن وجهة النظر التركية سوف يسمح ذلك للمنتجين بالتخصص في المجالات التي تتميز فيها تركيا مثل المنسوجات والملابس وخدمات الأعمال والنقل، وقبل كل هذا السلع الزراعية، والتي تمثل أكثر من 50% من صادرات تركيا.

والمفارقة أن هذا يعد من وجهة النظر الأوروبية إحدى العقبات السياسية والاجتماعية الرئيسية أمام انضمام تركيا لعضوية الاتحاد الأوروبي، وذلك إضافة إلى قضية حرية انتقال الأفراد، حيث من المرجح أن يؤدي وصول تركيا إلى الأسواق الأوروبية الداخلية إلى زيادة المنافسة التي يواجهها المزارعون الأوروبيون، والفرنسيون منهم على وجه الخصوص، وإلى تحويل التجارة بعيدًا عن دول وسط وشرق أوروبا، التي لها عضوية في الاتحاد، ففي ضوء تخصص تلك الدول في نفس القطاعات الاقتصادية التي تتخصص فيها تركيا، من المرجح بشكل كبير أن يؤدي وصول تركيا إلى الأسواق الداخلية إلى خسارة في الإنتاج في تلك الدول، فحتى الآن استفادت دول وسط وشرق أوروبا من ميزة الوصول إلى الأسواق الأوروبية الأخرى، وانضمام تركيا للاتحاد سوف يزيد من حدة المنافسة وسوف يؤدي حتمًا إلى بعض الخسارة في القوة السوقية.

وتظل الهجرة هي العقبة الكبرى سياسيًا واقتصاديًا، فأكثر الدراسات تحفظًا تقدر تدفقات المهاجرين من تركيا إلى الاتحاد الأوروبي عند 2.9 مليون مهاجر عندما يتم الأخذ بنظام حرية انتقال الأفراد، وهو ما يمثل 3% من سكان وسط وشرق أوروبا و0.7% من سكان غرب أوروبا، وتتكهن الدراسات بأن 76% من بين هؤلاء المهاجرين المحتملين سوف يستقرون في ألمانيا، و8% يستقرون في فرنسا و4% في هولندا.

ورغم أن ذلك سوف يكون مفيدًا جدًا للاتحاد الأوروبي ولتركيا من الناحية الاقتصادية، فإن هذا الأمر يعد غير مستساغ من الناحية السياسية، لأنه سوف يؤدي إلى زيادة الضغوط في سوق العمل الأوروبية المشبعة بالفعل بالعمالة، وبالتالي ليس من الغريب أن الدول المرجح أن تستوعب القدر الأكبر من المهاجرين الأتراك هي التي تعارض انضمام تركيا للاتحاد بشدة، وهو ما يتضح في تصريح وزيرة الخارجية الألمانية أنجيلا ميركل بأنه "إذا انضمت تركيا للاتحاد الأوروبي، فمن الممكن أن تحمل الاتحاد بأعباء سياسية واقتصادية واجتماعية كبيرة، وبالتالي تتسبب في تعريض عملية تحقيق التكامل الأوروبي للخطر".

تحقيق أقصى استفادة ممكنة

وعلى عكس الوضع بالنسبة لتنتالوس، تزيد المياه العذبة وظلال الأشجار من قوة تركيا يومًا بعد يوم، فقد تمكن قادتها من تحويل وضع مثير للإحباط إلى ميزة لتركيا، من خلال استغلال عملية الانضمام للاتحاد كقوة دفع لتنفيذ المزيد من التشريعات وإقامة المزيد من المؤسسات الفعالة اقتصاديًا، فإنشاء الاتحاد الجمركي بين الاتحاد الأوروبي وتركيا عام 1996 يظهر أن الهدف الرئيسي هو استغلال عملية الانضمام للاتحاد لإصلاح بقية مؤسسات تركيا التي لا تتسم بالفعالية، ومع تحسن احتمالات الانضمام للاتحاد، ومع تحول الطموح التركي نحو الانضمام للعملة الموحدة، من المرجح أن تركز الحكومة على سياسات تركيا غير المستقرة للاقتصاد الكلي، إلا أن الطريق لا يزال طويلًا، حيث سيكون هناك حاجة إلى الانضمام للاتحاد الأوروبي لتثبيت تلك الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، حيث إنه بمجرد الانضمام للاتحاد، لن تستطيع الحكومة التركية التراجع عن تلك الإصلاحات بغض النظر عن الرصيد السياسي المتاح لديها.

 

font change