لماذا انتصرت الحكومة الفرنسية ل "ماريان" على 1900 مسلمة

لماذا انتصرت الحكومة الفرنسية ل "ماريان" على 1900 مسلمة

[escenic_image id="5519564"]

في أوائل شهر فبراير/شباط الحالي، أعلن رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا فيليون أنه حرم رجلًا مغربيًا من الجنسية الفرنسية لأنه أجبر زوجته الفرنسية على ارتداء البرقع. ونظرًا لتزامن هذا الحدث مع تجدد الجدل حول مكانة البرقع والنقاب في فرنسا، فإن قرار فيليون برفض منح الجنسية للرجل يسلط الضوء على قضية كامنة  في مبادرة البلاد الجديدة ضد غطاء الوجه.

فرغم أن الحكومة قالت إن غطاء الوجه ليس له مكان في فرنسا لأنه يتعارض مع القيم الأساسية للدولة الفرنسية (الحرية والمساواة والأهم من ذلك كله العلمانية)، هناك درجة من التناقض في الحجة التي تسوقها. صحيح أن العدالة بين الجنسين لا تنفصم عن المساواة، ووفقًا للمعايير الغربية فإن إخفاء المرأة لهويتها حين ترتدي الحجاب يمثل إهانة لهذه المساواة. ولكن ألا ينبغي أن يكون الناس أحرارًا في ارتداء ما يحلو لهم؟ أليس احترام الأعراف الاجتماعية للأديان الأخرى جانبًا أساسيًا من جوانب المساواة أيضًا ؟ وبعبارة أخرى، من خلال السعي لحماية الطبيعة العلمانية للدولة الفرنسية، ألا يمكن للحكومة في نهاية المطاف التحكم في الحقوق الدينية للمرأة؟ لم تغب هذه الأسئلة عن الرأي العام الفرنسي، وتمسك كلا الجانبين بموقفه مؤمنًا بأنه يدافع عما هو أكثر عدالة، وما ينتمي أكثر للطابع الفرنسي.

ومع ذلك، فإن الجدل حول الحظر العام لارتداء البرقع يمثل التهديد الحقيقي أو المتصور الذي تواجهه الهوية الفرنسية. وهى أزمة تعلن عن نفسها في جدل حول التعريف الذي ينبغي أن يتحول إلى قاعدة؛ هل هو تعريف الفرنسيين أم تعريف المهاجرين المسلمين للحرية والمساواة؟

وهذه ليست المرة الأولى التي يشغل فيها قانون حول ارتداء الحجاب الرأي العام الفرنسي. ففي بداية الألفية الجديدة، شهدت فرنسا ارتفاعًا في عدد الطالبات المسلمات اللاتي يرتدين الحجاب في المدارس الحكومية. وأدى رفض بعض هؤلاء الطالبات لخلع الحجاب ـ بناء على أمر معلميهن ـ إلى إدخال السلطات الفرنسية لتشريعات تحظر إظهار أية رموز تدل على الانتماء الديني أو السياسي، بما في ذلك الحجاب، على سبيل المثال لا الحصر، وأجيز القانون في شهر مارس/آذار 2004 بأغلبية كبيرة في الجمعية الوطنية الفرنسية.

والحظر المقترح اليوم أتى على أساس هذا القانون، وهو سوف يحظر ارتداء البرقع في المستشفيات والمدارس والمكاتب الحكومية ووسائل النقل العامة. وسوف تتعرض النساء اللاتي ما زلن يرتدين النقاب للحرمان من الخدمات العامة في هذه المواقع. وإذا تم تمرير هذا القانون، فإن الحكومة تبعث بذلك رسالة مفادها أن الذين يقومون بممارسات دينية تخرج عن نطاق معين لما هو فرنسي، لا يمكن أن يستفيدوا من المؤسسات الفرنسية. ويمكن أن هذه الرسالة تقابل برد فعل عنيف من الجالية المسلمة.

 ويعيش في فرنسا ما يقدر بخمسة ملايين مسلم، وهو أكبر عدد من السكان المسلمين في أوروبا الغربية. ورغم هذا العدد الكبير، تسجل وزارة الداخلية الفرنسية أن ما يقرب من 1900 امرأة في فرنسا يرتدين النقاب – أي أقل من 0.1 ٪ من السكان المسلمين في فرنسا. إذن لماذا تثير الحكومة مناقشة تؤدي للانقسام، عندما يكون عدد الأشخاص المتضررين من جراء الحظر لا يكاد يذكر بالنظر إلى أكثر من 65 مليون شخص يعيشون في الجمهورية الفرنسية!

ومرة أخرى تدعم هذه الأرقام أن الفكرة وراء هذا القانون ليست حقوق المرأة، ولكن رغبة الدولة في تعريف الهوية الفرنسية. ويصبح هذا واضحًا بشكل خاص في تجاهل الحكومة لأوجه التشابه بين إجبار النساء على ارتداء الحجاب وإجبارهم على عدم ارتدائه. وبعبارة أخرى، بدلًا من تحرير النساء، تستولي الحكومة على حقوقهن لخلق تعريف أكثر محدودية لما هو فرنسي.

 وكانت الحجة التي سيقت أن فرض حظر النقاب سوف يحرر المرأة من الأسر المتسلطة التي تجبرها على إخفاء هويتها. وبينما توجد حالات لأزواج يجبرون نساءهن على ارتداء الحجاب، كما أشار رئيس الوزراء فيليون، تعتبر الحكومة متغطرسة في توصيفها للحجاب على أنه سلوك إجباري بشكل قاطع. ومع ذلك، كما أوضح سانديب جوبالان، الكاتب في صحيفة نيويورك تايمز أنه إذا كانت هذه العائلات تجبر نساءها على ارتداء النقاب، فماذا سيمنعهم من إبقائهن داخل منازلهم إذا لم يعد النقاب متاحًا، وحتمًا لن يسهم حرمانهن من الخدمات العامة في تعزيز مكانتهن في المجتمع.

وربما يتساءل البعض، لماذا تختار الدولة الفرنسية تعريف ما هو فرنسي بالحد مما تستطيع النساء ارتداءه أو لا تستطعن؟ ولعبت المرأة على مدار التاريخ، ولا تزال تلعب دورًا مهمًا في بناء الهوية الفرنسية، وربما لا توجد شخصية أفضل من ماريان تفسر السبب في تركيز الفرنسيين اهتمامهم على كيف يمثل سلوك المرأة قيم الحرية والمساواة.

رسم الفنان يوجين دولاكروا ماريان في لوحته "الحرية توجه الشعب"، ويمكن أن تقدم لنا ماريان في هذه الحالة رؤية كاشفة للصورة المثالية للمواطن الفرنسي. ويصور الفنان ماريان مرتدية قبعة "فريجيان"، لكي ترمز إلى الحرية، وتمسك ببندقية في يد والعلم الفرنسي في يد أخرى. وهي عارية الصدر، وتتماشي مع المؤسسة المناهضة للكاثوليكية والتي ميزت الثورة الفرنسية إلى حد كبير، ولا شيء فيها يمكن ربطه بالدين. ماريان، المواطنة الفرنسية الكاملة، هي امرأة تتخذ الشكل العسكري وتدافع عن العلمانية الفرنسية. ومع ذلك، لا تقتصر أهمية ماريان في هذا الجدل على دورها باعتبارها رمزًا للعلمانية الفرنسية. ولكنها أيضًا تمثل بشكل مطلق الدولة الفرنسية، والمتجسدة في التماثيل، وعلى الطوابع، وفي الأوراق الحكومية (لدرجة أن ماريان لا تعتبر فقط مرادفًا للقيم الفرنسية ولكن تمثل أيضًا الضرائب الفرنسية). وهكذا، تمثل ماريان في الوقت نفسه الدولة الفرنسية والمواطن الفرنسي ويبدو أنها لا تشترك في شيء مع  1900 من النساء في فرنسا اللاتي يرتدين البرقع طواعية.

إن فرض حظر النقاب يعد رد فعل سيئًا من الحكومة الفرنسية لحماية ماريان، فالحكومة الفرنسية فسرت ارتفاع تعداد المهاجرين المسلمين، وربما الأهم من ذلك هو أنها فسرت ميل الجيل الثاني من هؤلاء المهاجرين إلى الممارسات الدينية المحافظة بشكل ظاهر، على أنها أمور تشكل تهديدًا للمواطن النموذجي، فهذا يمثل دليلًا على فشل النموذج الخاص بدمج المهاجرين في المجتمع الذي توقعت الدولة الفرنسية نجاحه فيما يتعلق بالمهاجرين إليها.

إلا أن  فرنسا ليست هي الوحيدة  فيما يتعلق بالتحديات التي تواجهها بالنسبة لدمج سكانها المسلمين، فواقعة الرسوم الدنماركية تعد مثالا للعديد من صور سوء الفهم السائد على المستوى الثقافي بين الغربيين والمسلمين. وإضافة إلى سوء الفهم، يشير مجلس العلاقات الخارجية، و هو مؤسسة بحثية مقرها واشنطن، إلى أن هناك مشكلة أخطر بكثير فيما يتعلق بإدماج المهاجرين المسلمين في أوروبا، فالمرجح هو أن المسلمين في أوروبا يعدون فقراء مقارنة ببقية السكان، وأنهم يعيشون في أحياء معزولة وعرضة للجريمة، وفرنسا ليست استثناء في هذا الصدد، ويشير المجلس إلى أنه نتيجة لتلك العزلة "تم جذب المسلمين غير المتدينين بشكل خاص باتجاه  استعراض هوية إسلامية قوية ."

وبعبارة أخرى، فان مبادرات مثل فرض حظر ارتداء البرقع سوف تضر بشكل كبير بمحاولات  الحكومة لإدماج المهاجرين المسلمين، فتلك المبادرة لا تعالج الأسباب الكامنة وراء أزمة المواطنة الفرنسية، بل وتتجاهل تمامًا فشل النموذج القائم للإدماج، وما يزيد الطين بلة هو أن الحظر المفروض على ارتداء البرقع، وبسبب عدد الأشخاص المتضررين من ذلك الحظر، لا يمثل علاجًا للأسباب التي أدت إلى فشل النموذج الفرنسي للإدماج في المجتمع.

والصعوبة في الأمر تأتي من أن الحكومة لا يمكن أن تعرف بالضبط عدد النساء اللاتي يرتدين  النقاب لأنهن يرغبن في ذلك، وكم عدد النساء اللاتي أرغمن  على ارتدائه، وكم عدد النساء اللاتي يرتدين النقاب باعتباره من التقاليد، وكما أكد مجلس العلاقات الخارجية، أنه يعد غنيًا عن البيان أن الجاليات المهاجرة تتشبث بالممارسات الإسلامية المحافظة كوسيلة لتعريف أنفسهم بشكل مميز عن المثل الفرنسية السائدة، واستخدام النقاب من الممكن جدًا أن يصبح وسيلة لتمكين الإناث من المسلمين، ورغم أن هذا لا يمكن أن يروق بسهولة للحكومة الفرنسية، يمكن القول إن حظر النقاب يمكن أن يؤدي إلى  انتشار المزيد من السلوكيات المحافظة بين السكان المسلمين.

وبدلًا من تعريف الهوية الفرنسية بأمور تتعلق بالموضة، وهي ما يمثل مفارقة واضحة، وبدلًا من استغلال حقوق المرأة من أجل القيام بذلك، كان من الأحرى بالحكومة الفرنسية التركيز على سبب الصعوبة الشديدة التي واجهها دمج المسلمين في المجتمع الفرنسي، كما ينبغي عليها أن تتخذ إجراءات جادة للحد من الظروف التي تؤدي إلى عدم المساواة الهيكلية والتي يعد المهاجرون المسلمين بصفة خاصة عرضة لها، ويجب أن تتجنب المسار المناهض للحريات الذي قد يؤدي إليه فرض حظر النقاب.

font change