أدولفو كاساريس الذي هزم الموت بخياله العلمي

روايته "اختراع موريل" دشنت أدب الواقعية السحرية

أدولفو كاساريس

أدولفو كاساريس الذي هزم الموت بخياله العلمي

ثمة روايات تبقى حية بعد رحيل كاتبها، ليس فقط لأنها تتمتع بقيمة أدبية لا يقوى عليها الزمن، ولا ما يأتي هذا الزمن به من جديد في كل حقبة، بل أيضا لأن صاحبها تمكن فيها من فتح فضاء روائي لم يسبقه أحد إليه، فباتت عملا مرجعيا يتعذر إهماله أو تجاوزه.

هذه هي حال رواية "اختراع موريل" (1940) التي وضعها الكاتب الأرجنتيني أدولفو بيوي كاساريس (1914 - 1999) في سن الـ 26، وانتزع بفضلها اعترافا دوليا بمهاراته السردية النادرة، وخصوصا بعبقرية استثماره مراجع أدبية مختلفة للتأسيس لنوع روائي جديد تعود فتنته إلى جملة أسباب، أبرزها جمعه بين الخيال والعلم بطريقة مبتكَرة تنأى به عن روايات الخيال العلمي، وتسمح له بالبقاء مترسخا في أرض الواقع. من هنا رؤية العملاق خورخي لويس بورخيس في هذه الرواية "واحدا من ألمع نصوص الأدب الحديث". من هنا أيضا توافرها اليوم في معظم لغات العالم المكتوبة، بما في ذلك العربية (ترجمة أحمد يماني، دار "الجمل"). وفي حال أضفنا الأفلام والمسلسلات والروايات المصورة العديدة التي اقتُبست عنها، لتبينت لنا مدى أهميتها وجاذبيتها.

حيوية راهنة

توقفنا عند "اختراع موريل" اليوم، لا يبرره فقط صدور الطبعة السادسة للترجمة الفرنسية التي وضعها لها أرمان بيرال عام 1952 (دار "روبير لافون")، بل أيضا المقدمة المهمة التي خطها لها، في هذه المناسبة، الكاتب الفرنسي الكبير جان ماري لو كليزيو. تبريران إذن هما، في الوقت نفسه، دليلان إضافيان على مدى حيوية هذه الرواية التي يسرد كاساريس فيها قصة رجل يعتقد أنه وجد ملجأ في جزيرة مهجورة، بعد إفلاته من قبضة الشرطة، لكنه سرعان ما يدرك أن كابوسه ما زال في بدايته. فلدى استكشافه هذه الجزيرة، يكتشف فيلا ضخمة وفخمة تخفي أقبيتها آلات يجهل وظيفتها. يكتشف أيضا رجالا ونساء يتعذر التواصل معهم، ويبدون منغمسين في حياة رخاء يتكرر طقسها كل أسبوع، إلى ما لا نهاية. هل هم مجانين؟ أم أن المدعو موريل، الذي جمعهم في هذا المكان، يقف خلف سلوكهم الغريب؟

جمع كاساريس بين الخيال والعلم بطريقة مبتكَرة تنأى به عن روايات الخيال العلمي، وتسمح له بالبقاء مترسخا في أرض الواقع

أحداث "اختراع موريل" تقع في مكان ما من مياه باراغواي الإقليمية، وفقا إلى صديق كاساريس، بورخيس الذي رأى في الرواية، على الرغم من اعتبارها "ثمرة خيال خارق"، أنها "عمل واقعي ذو نفحة سوريالية، لا مبالغة في وصفه بالكامل". أما قصتها، فنتلقاها على لسان الرجل الفار من يد العدالة. رجل لن نعرف أبدا طبيعة جريمته، ولا كيف انتهى به الأمر في هذه الجزيرة التي يبدو أن كل حياة حيوانية أو نباتية توارت فيها جراء مرض أو عدوى غامضة. لذلك، تزداد مخاوفه حين يعي أنها في الواقع مأهولة.

اللامرئي

فعلا، يظهر يوما أمام عينيه أولئك الرجال والنساء الذين سبق ذكرهم، وسرعان ما يستنتج أنهم يعيشون قبل عشر سنوات من زمنه، وأن مشاهد حياتهم الاحتفالية تتكرر بدقة ميكانيكية. على مدى أسابيع، يظل مختبئا، خوفا من أن يكتشفوا وجوده ويبلغوا السلطات عنه، لكن الجوع والفضول يدفعانه في النهاية إلى الخروج من مخبأه. هكذا يشاهد على الشاطئ امرأة تدعى فوستين، ويصعق فورا بجمالها. وحين يلاحظ أنها تأتي كل يوم إلى هذا المكان للقراءة، يستسلم لطقس تأملها من بعيد، ثم يقع في غرامها. وحين يجرؤ أخيرا على الاقتراب منها لمحاورتها، يكتشف أمرا يهز كيانه ويفجر العديد من يقينيات وجوده: إنه غير مرئي لها.

رواية "اختراع موريل"

تفسير هذا الأمر، الذي سيوضح أيضا سلوك فوستين وأصدقائها، يتلقاه هذا الرجل في اليوم الذي يسمع فيه المدعو موريل يعلن لضيوفه أنه اخترع آلة تسجّل الحياة في كل أبعادها، وتحفظ نسخة طبق الأصل لكل حركة، وكل كلمة، وكل انفعال، إلى الأبد، لكن ثمن ذلك هو موت صاحب هذه الحياة. هكذا يعرف هذا الرجل أن المرأة التي يحبها ليست في الواقع سوى طيف يعيش حياة أبدية في هذه الجزيرة، فيقرر الانضمام إليها وإنقاذ نفسه بالحب والموت، من طريق تشغيل الآلة القادرة على دمجه إلى عالمها.

في مقدمته لطبعة "اختراع موريل" الأولى، يصف بورخيس هذه الرواية بعمل أدبي ناتج من "خيال معقول" (أو منطقي). وإذ يرى في بعض عناصرها الموضوعية (الاختراع التقني)، ومكانها (جزيرة)، وعنوانها (اختراع موريل/ جزيرة مورو)، أصداء تردنا إلى تيار أدبي أنغلوسكسوني، خرافي وبوليسي الطابع، لم يكن له حتى ذلك الحين أي تأثير مهم على الأدب المكتوب باللغة الإسبانية، إلا أنه يخلص إلى التأكيد أن صديقه كاساريس تمكن في هذا العمل من "أقلمة نوع (أدبي) جديد داخل فضائنا ولغتنا". نوع يقوم على الخيال والعلم والواقع على حد سواء، وبقيامه على هذه الركائز الثلاث، أنجب الواقعية السحرية التي سيتبناها عدد من كتّاب أميركا اللاتينية، بما في ذلك بورخيس نفسه.

تتكشف عملية السرد كما على مرآة ثلاثية المصاريع تعكس الأشياء داخل فضاء مغلق، على خلفية يتعذر الإمساك بها

من جهته، كتب كاساريس في مذكراته التي صدرت عام 1994: "إن كان علي أن أختار مكانا لانتظار نهاية العالم، فسيكون صالة سينما". جملة لم يخطئ ناقد فرنسي في اعتبارها مفتاحا لولوج وفهم "اختراع موريل"، كون سرديتها تبدو خاضعة بوضوح لفضاءات الإسقاط التي يفتحها البصر أمام الخيال، ومسكونة بالتالي بشبق النظر (scopophilia)، باستيهامات امتلاك الآخر بواسطة النظر، ومدينة بحيويتها وسحرها الفريد إلى لعبة الظهور والتواري فيها. من هذا المنطلق، تتكشف عملية السرد، بحسب الناقد المذكور، كما على مرآة ثلاثية المصاريع تعكس الأشياء داخل فضاء مغلق، على خلفية يتعذر الإمساك بها، وتشوّه واقعا متعددا في جوهره ومحكوما عليه بألا يُرى، بل يُلمح فقط، سواء من قبل القارئ، أو من قبل الراوي نفسه.

استعارة

في ضوء ذلك، تصبح الأسئلة التالية مشروعة: أين نحن تحديدا، داخل هذه الرواية؟ ما هي تلك الجزيرة بالضبط؟ هل هي موجودة حقا؟ وذلك الرجل الذي من المفترض أنه هارب من حكم بالسجن المؤبد بسبب "خطأ قضائي يتعذر إصلاحه"، ألا يمكن أن يكون بكل بساطة مصابا بداء البارانويا، وبهذيان الارتياب الملازم له؟ فمن يستطيع أن يشيّد، ولأي غرض، تلك المباني التي يسترسل في وصفها (المسبح، المعبد والمتحف ضمن الفيلا)، بهندستها المينيمالية والحلمية التي تستحضر إلى أذهاننا ديكور لوحات جورجيو دو كيريكو الميتافيزيقية؟ وفوق كل ذلك، من يختبئ وراء هؤلاء الأشخاص الغريبين الذين يظهرون من العدم أمام عينيه في صباح يوم جميل، ويجبرونه، بإقامتهم في الفيلا وتجولهم في أرجاء الجزيرة، على الاختباء في الأراضي السفلية لهذه الأخيرة، الخاضعة لحركة المد والجزر، وعلى مراقبة حركة ذهابهم وإيابهم، الغريبة أيضا، بلا كلل؟

أدولفو كاساريس وبورخيس

هذه الأسئلة تحديدا هي ما يقود إلى رؤية استعارة لأشياء عدة في "اختراع موريل"، أبرزها هو ذلك الشعور الذي يتسلط على جميع البشر، وهو الخوف من الموت. استعارة تسمح لكاساريس، في موازاة استثماره الفكرة الساحرة لعالم ذي أبعاد متعددة، بعرض فكرته للخلود، التي تنطوي على عيش لحظة سعيدة إلى ما لا نهاية. فكرة ليست إطلاقا ضحلة، كما يمكن أن نظن، فمن منا لا يرغب في استعادة أجمل لحظات حياته إلى الأبد؟

أما فن كاساريس الخاص، في نظر لو كليزيو، فيكمن في "إدخالنا برفق، كما عن طريق الخطأ، إلى ذلك العالم الآخر الذي يخفيه الواقع عنا"

من سيرورة تطور أحداث روايته، يتجلى كاساريس أيضا قاصا موهوبا للغاية، يعرف كيف يمسك بأنفاس قارئه بفضل حبكة متينة ومشوقة، على طريقة إدغار ألن بو، كما يتجلى كساحر مدهش، مثل صديقه بورخيس، يعرف كيف يُسقط عدة وجهات نظر مكانية - زمنية، واضعا بطله وقارئه على حد السواء في موقف المتفرج، بغية إقناعهما بإمكان مصالحة، وحتى صهر الجوهر والكينونة، الروح والمادة، التناهي والخلود، في مكان - زمان واحد، فقط إن توافرت الوسيلة.

أدولفو كاساريس

"ليس من المستحيل أن يكون كل غياب، في النهاية، مجرد غياب مكاني. بطريقة أو بأخرى، تبقى صورة مَن رحلوا، ولمستهم، وصوتهم، في مكان ما. لا شيء يضيع"، يقول الكاتب في روايته، على لسان راويه، قبل أن يضيف: "سنخترع يوما جهازا أكثر اكتمالا. ما نفكر فيه ونشعر به خلال حياتنا سيكون بمثابة أبجدية تتمكن صورتنا بفضلها من فهم كل شيء (كما يمكننا، بفضل حروف الأبجدية، تأليف جميع الكلمات وفهمها)". ولا مبالغة في هذا القول، بحسب لو كليزيو، لأن "كتّاب الخيال العلمي ــــ أو أدب الخيال ــــ لديهم القدرة على استباق زمنهم، والرؤية أبعد من معاصريهم، وربما حتى المساعدة في تحقيق المستقبل".

أما فن كاساريس الخاص، في نظر لو كليزيو، فيكمن في "إدخالنا برفق، كما عن طريق الخطأ، إلى ذلك العالم الآخر الذي يخفيه الواقع عنا، من خلال انزلاقات متتالية، انطباعات، مفاجآت، صدمات، ارتعاشات، انخطافات ونشوات". وفي نظر بورخيس، يكمن هذا الفن في بسط صديقه "ملحمة من المعجزات التي يبدو أن لا مفتاح لها سوى الهلوسة أو الرمز". وبقيامه بذلك، "يجدد حرفيا مفهوما دحضه القديس أغسطين و(عالم اللاهوت) أوريغانوس، وحلله (الفيلسوف الثوري اليوتوبي) لويس أوغست بلانكي، وصاغه الشاعر والرسام دانتي غابرييل روسيتي في موسيقى لا تُنسى: "كنتُ هنا من قبل/ لكني أجهل متى وكيف/ أعرف العشب خلف الباب/ الرائحة العطرة النفاذة/ الصوت المتنهِّد، والضوء على الشاطئ...".

font change