مفارقة أميركية... طموحات "ذكية" دون تمويل حكومي

تصطدم وعود ترمب الطموحة بسياسات تقليص الإنفاق البحثي

GettyImages
GettyImages
الروبوت G1 البشري (على اليسار)، والكلب الآلي Go2 من شركة "يونيتري روبوتوكس"

مفارقة أميركية... طموحات "ذكية" دون تمويل حكومي

في خضم السباق العالمي المحموم نحو الهيمنة التكنولوجية، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترمب سلسلة من الوعود الرامية إلى تعزيز التفوق الأميركي في مجال الذكاء الاصطناعي والتقنيات المستقبلية. هذه الخطط، التي تهدف إلى "إطلاق العنان لمستقبل الولايات المتحدة التكنولوجي"، تعكس إدراكا متزايدا من الإدارة لأهمية الاستثمار في البحث العلمي كضمان للريادة العالمية.

لكن المفارقة الصارخة تكمن في أن هذه الرؤية الطموحة تصطدم بواقع سياسات تقليص الإنفاق الحكومي، التي قد تهدم الأسس التي تُبنى عليها هذه الوعود. فبينما تتحدث الإدارة عن دعم الابتكار، تأتي قرارات تسريح العلماء وخفض التمويل لتثير تساؤلات حول مدى جدية هذه الاستراتيجيا.

في يناير/كانون الثاني الماضي، أعلن ترمب مشروع "ستارغيت" وتعهد باستثمار 500 مليار دولار على مدار 4 سنوات بهدف تعزيز الاستثمارات في أبحاث الذكاء الاصطناعي، وتطوير معايير أخلاقية لاستخدامه، وضمان تفوق الولايات المتحدة في هذا المجال أمام منافسين مثل الصين وروسيا.

كما أعلنت الإدارة خططا لزيادة التمويل الفيديرالي لأبحاث الذكاء الاصطناعي عبر وكالات مثل وزارة الدفاع (بنتاغون) ومؤسسة العلوم الوطنية، مع التركيز على تطبيقات عسكرية وصناعية.

رغم هذه الوعود، فإن سياسات الإدارة المالية تتعارض مع الأهداف المعلنة. ففي فبراير/شباط الماضي، وبعد شهر واحد من إعلان مشروع "ستارغيت" تم تسريح 170 موظفا من مؤسسة العلوم الوطنية، بينهم خبراء في الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات. وفي خطوة مثيرة للقلق، تلقى المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا تعليمات بتقليص موظفيه بنحو 500 وظيفة، مما يهدد عمل فرقه البحثية، بما في ذلك الوحدة الناشئة لسلامة الذكاء الاصطناعي.

تؤدي تسريحات الكوادر العلمية إلى تداعيات خطيرة على الابتكار، حيث يتسبب تسريح الخبراء في تأخر المشاريع البحثية وتباطؤ تطوير خوارزميات الذكاء الاصطناعي في مجالات حيوية مثل الأمن السيبراني والرعاية الصحية، كما يضعف تقليص موارد المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا قدرته على وضع المعايير التقنية الضرورية لتقنيات المستقبل مثل الشبكات الكمية وإنترنت الأشياء.

ويؤدي تراجع الدعم الحكومي إلى هجرة العقول العلمية نحو القطاع الخاص والعمل لدى شركات مثل "غوغل" و"فيسبوك"، مما يحوّل التركيز من البحث العلمي الأساسي إلى التطبيقات التجارية المباشرة، وهو ما يقوض البنية التحتية للابتكار الطويل الأمد.

يشهد المجتمع العلمي وقطاع التكنولوجيا الأميركي حالة من التوجس والقلق إثر سلسلة القرارات الأخيرة لإدارة ترمب الرامية إلى خفض الدعم المالي للمؤسسات البحثية الفيديرالية التي لعبت دورا محوريا في تطوير التقنيات الحديثة

من اللافت للانتباه أن عمليات التسريح والخفوضات المالية تستهدف بشكل خاص الفرق البحثية التي أُنشئت بموجب "قانون الرقائق والعلوم"، وهو التشريع الذي كان يُنظر إليه كإحدى الركائز الأساس لتعزيز القدرات الأميركية في مجال الذكاء الاصطناعي وتوطين الصناعات التكنولوجية.

وتزداد خطورة الموقف مع تزايد المؤشرات الى نية إدارة ترمب خفض ميزانيات مؤسسات بحثية فيديرالية كبرى أخرى مثل المعاهد الوطنية للصحة ووزارة الطاقة مما ينذر بتوسع هذا النهج المقلق.

 Nathan Howard‬
موظف في الوكالة الأميركية للتنمية الدولية (USAID) يغادر الوكالة حاملا صندوقا يحتوي على متعلقاته الشخصية

وفي سياق متصل، تجدر الإشارة إلى أن الثراء المالي لشركات التكنولوجيا العملاقة مثل "غوغل" و"أمازون" لا يُغني عن الحاجة للدعم الحكومي. فالقطاع التكنولوجي يعتمد بشكل جوهري على الدولة في مجالات حيوية يصعب تعويضها، أهمها تمويل الأبحاث الأساسية الطويلة الأجل التي لا تقدم عوائد مالية فورية، وتنسيق الجهود بين المؤسسات الأكاديمية ومراكز الأبحاث، وإرساء معايير تنظيمية موحدة، ودعم المشاريع الابتكارية في مراحلها الأولى التي تتميز بأخطار عالية وجدوى تجارية غير مضمونة.

وعلى مدار سنوات كثيرة، مثّل الدعم الحكومي السخي للأبحاث حجر الزاوية في ضمان تقدم الولايات المتحدة. كما أن الشراكة بين القطاعين العام والخاص شكلت الأساس للعديد من الابتكارات الكبرى، بدءا من الخوارزميات التي بُنيت عليها "غوغل"، وصولا إلى اللبنات الأساسية لتطوير روبوتات الذكاء الاصطناعي التوليدي. اذن، ما مدى خطورة وقف التمويل الحكومي في العديد من المجالات التكنولوجية المهمة، وما مدى خطورة تسريح مئات وربما الالاف من العلماء والباحثين، ومدى استهداف أعداء أميركا لهم للاستفادة من خبراتهم؟

أهمية التمويل الفيديرالي للأبحاث

يشهد المجتمع العلمي وقطاع التكنولوجيا الأميركي حالة من التوجس والقلق إثر سلسلة القرارات الأخيرة لإدارة ترمب الرامية إلى خفض الدعم المالي للمؤسسات البحثية الفيديرالية التي لعبت دورا محوريا في تطوير التقنيات الحديثة، وخاصة في مجال الذكاء الاصطناعي. وتأتي هذه الخطوات متناقضة مع الميزانيات التي أقرها الكونغرس سابقا لهذه المشاريع، مما يهدد استمرارية الابتكار التكنولوجي في الولايات المتحدة.

ويعرف الخبراء أن العديد من التقنيات الرائدة اليوم، التي يتوقع أن تسهم بحوالى 4.4 تريليون دولار سنويا في الاقتصاد العالمي حسب تقديرات "ماكينزي"، ما كانت لترى النور لولا عقود من الدعم الحكومي المستمر عبر مؤسسات مثل المؤسسة الوطنية للعلوم.

لا يمكن إغفال الأثر الكبير لهذا التمويل في ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي أحدث تحولا عميقا في مختلف القطاعات

فقد مولت هذه المؤسسات أبحاثا جامعية أساسية في مجالات حيوية مثل التعلم العميق، ومعالجة اللغة الطبيعية، ورؤية الحاسوب، مما يؤكد الأهمية الاستراتيجية للتمويل الحكومي المستدام للبحث العلمي في دفع عجلة الابتكار والنمو الاقتصادي.

وساعد التمويل الفيديرالي بشكل كبير في تحقيق الولايات المتحدة إنجازات علمية هائلة في مجالات الطب والذكاء الاصطناعي. فعلى مدار العقود الماضية، موّلت وكالات اتحادية مثل وزارة الطاقة، والمؤسسة الوطنية للعلوم، ووكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة الدفاعية، أبحاثا تجاوزت قيمتها مليار دولار، بهدف تطوير تقنيات الحوسبة ومعدات الذكاء الاصطناعي.

كما أسهمت الاستثمارات الفيديرالية في مجال الأبحاث بشكل مباشر في تطوير تقنيات متقدمة أصبحت اليوم حجر الأساس في أعمال كبرى الشركات الأميركية مثل "أمازون"، و"إنفيديا"، و"غوغل"، سواء في تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي أو في إنتاج رقائق المعالجة المتطورة العالية الأداء.

ولا يمكن إغفال الأثر الكبير لهذا التمويل في ظهور الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي أحدث تحولا عميقا في مختلف القطاعات، وساهم في رفع كفاءة الإنتاجية بشكل ملحوظ. ويعود جانب كبير من هذا التقدم إلى الدعم المستمر من المؤسسة الوطنية للعلوم، التي موّلت أبحاثا جوهرية في مجالات مثل الحوسبة الكمية والتعلم العميق.

ترمب والجامعات

في تصعيد غير مسبوق للصراع بين المؤسسات الأكاديمية والإدارة الأميركية، رفعت جامعة هارفارد دعوى قضائية فيديرالية ضد إدارة الرئيس ترمب تتهمها بمحاولة "الاستحواذ على استقلالية القرار الأكاديمي" و"استخدام التمويل الفيديرالي كأداة للابتزاز السياسي".

وقد جاءت هذه الخطوة الجريئة وسط موجة عارمة من التنديد من قبل نخبة الجامعات الأميركية، حيث أصدرت جامعات ييل وبرينستون وبراون وعدد من المؤسسات الأكاديمية المرموقة بيانا مشتركا حذرت فيه من أن "التدخل الحكومي غير المسبوق يهدد أسس التعليم العالي الأميركي"، واصفةً إجراءات الإدارة بـ"التعسفية والانتقامية".

حذر الخبراء من أن تصاعد هذا الصراع قد يعيد تشكيل المشهد البحثي الأميركي، لا سيما مع تهديدات بقطع التمويل عن جامعات أخرى، في خطوة قد تضعف التفوق العلمي للولايات المتحدة في منافستها مع الصين وأوروبا.

ويأتي هذا التمرد الأكاديمي في أعقاب قرار إدارة ترمب تجميد 2.2 مليار دولار من التمويل الفيديرالي المخصص لجامعة هارفارد، وإلغاء منح بحثية بقيمة 2.7 مليون دولار تقدمها وزارة الأمن الداخلي، بالإضافة إلى تهديدات بمنع الجامعة من استقبال الطلاب الدوليين ما لم تُسلّم سجلات حول "أنشطة غير قانونية" مزعومة.

ووصف ترمب هارفارد علنا بأنها "مزحة" واتهمها بـ"تعليم الكراهية والغباء"، في هجوم لاذع يأتي ضمن سلسلة تصريحات عدائية تجاه المؤسسة العريقة منذ اندلاع الاحتجاجات الطالبية المؤيدة لغزة أواخر عام 2024.

وفي خطوة موازية، شن الجمهوريون في الكونغرس هجوما تشريعيا عبر فتح "تحقيق برلماني" يتهم هارفارد بـ"انتهاك قوانين الحقوق المدنية" و"التمييز العرقي"، بحسب ما أعلنه رئيس لجنة التحقيق جيمس كومر، الذي زعم أن الجامعة "ترفض حتى مناقشة تسوية مقترحة لضمان امتثالها للقانون". إلا أن الوثائق القضائية التي قدمتها هارفارد كشفت أن الإدارة تسعى في الواقع إلى فرض رقابة سياسية على المناهج والقبول الجامعي، وهو ما وصفته الجامعة بـ"المساومة على حريتها الأكاديمية".

رويترز
متظاهرون يشاركون في مسيرة "الدفاع عن العلم" أمام مبنى الكابيتول في كاليفورنيا

والمشهد يتجاوز هارفارد ليكشف عن معركة أوسع حول دور الحكومة في الأكاديميا، حيث تحولت الجامعات إلى ساحة حرب بين إدارة ترمب التي تسعى إلى "تطهير المؤسسات التعليمية من التوجهات الليبيرالية"، كما يصفها مؤيدوها، وبين النخبة الأكاديمية التي ترى في هذه الإجراءات "انقلابا على استقلالية العلم والمعرفة".

وقد حذر الخبراء من أن تصاعد هذا الصراع قد يعيد تشكيل المشهد البحثي الأميركي، لا سيما مع تهديدات بقطع التمويل عن جامعات أخرى، في خطوة قد تُضعف التفوق العلمي للولايات المتحدة في منافستها مع الصين وأوروبا.

مشاريع بحثية مهددة

يواجه العديد من المشاريع البحثية الأميركية خطر تقليص التمويل، من ضمنها مشروع علمي يسعى إلى دراسة الأثر البيئي الناتج من عمليات تدريب وتطوير نماذج الذكاء الاصطناعي.

ويركز هذا المشروع على تحليل كفاءة استهلاك الطاقة في تقنيات الذكاء الاصطناعي بهدف خفض التكاليف ودعم قرارات السياسة العامة في إدارة الموارد. ومع أن أهمية المشروع تتزايد في ظل النقاش العالمي حول الاستدامة البيئية، إلا أنه مهدد إما بإنهاء التمويل كليا أو تقليصه بشكل قد يعيق تحقيق أهدافه ونتائجه المرجوة.

يؤثر استمرار إدارة ترمب في سياسة تقليص الإنفاق الحكومي على مجموعة ضخمة من الملفات الاستراتيجية التي تمس الأمن القومي والمكانة العالمية للولايات المتحدة

وكانت المؤسسة الوطنية للعلوم في مايو/أيار من العام الماضي قد أعلنت تمويل مشروع بحثي بقيمة 9 ملايين دولار بالتعاون مع جامعة نورث إيسترن، بهدف إنشاء "البنية الوطنية للاستدلال العميق"، وهي منصة بحثية تعاونية تُمكّن الباحثين في الولايات المتحدة من الوصول إلى أحدث نماذج الذكاء الاصطناعي، ضمن بيئة شفافة تُظهر العمليات الحسابية الداخلية لهذه النماذج المتقدمة.

ولا يقتصر تأثير التمويل الفيديرالي على هذا المجال فحسب، بل يمتد إلى مشاريع استراتيجية مثل السيارات الذاتية القيادة. فقد أطلقت وكالة مشاريع الأبحاث المتقدمة الدفاعية التابعة لوزارة الدفاع الاميركية منذ سنوات، تحديات بحثية ساهمت في تسريع تطوير هذه التقنية، وتشير تقديرات مجلة "فورتشن" إلى أن العائدات المتوقعة لصناعة السيارات الذاتية القيادة ستتراوح بين 300 و400 مليار دولار بحلول عام 2035.

Getty Images‬
سيارة أجرة ذاتية القيادة من Waymo في سان فرانسيسكو، كاليفورنيا

من ناحية اخري، أسهمت بعض قرارات إدارة ترمب في خلق حالة من الغموض لدى الأوساط الأكاديمية والعلمية، خصوصا في ما يتعلق بمستقبل الأبحاث الممولة اتحاديا. فقد بدأ المعهد الوطني للصحة في شهر مارس/آذار الفائت بإلغاء عدد من المنح البحثية التي وصفها بأنها "غير علمية". وشملت هذه الإلغاءات أبحاثا تتعلق بـالوقاية من فيروس نقص المناعة البشرية وإدارة أعراض الاكتئاب لدى المتحولين جنسيا، والعنف الأسري أثناء الحمل، بالإضافة إلى دراسة تأثير السرطان على الأميركيين من ذوي الدخل المحدود. كما طال الخفض أيضا الأبحاث المتعلقة بقضايا التنوع، والإنصاف، والشمول، التي تعتبرها إدارة ترمب أفكارا ليبيرالية تشكل خطرا على الهوية الأميركية، رغم أهميتها في تعزيز بيئة علمية ومجتمعية عادلة ومتوازنة.

أثر سلبي

ويؤثر استمرار إدارة ترمب في سياسة تقليص الإنفاق الحكومي على مجموعة ضخمة من الملفات الاستراتيجية التي تمس الأمن القومي والمكانة العالمية للولايات المتحدة. فإضعاف وكالة التنمية الدولية لا يقتصر على تقليص المساعدات الخارجية، بل يقوض أدوات "القوة الناعمة" التي شكلت لسنوات ركيزة أساسية للنفوذ الأميركي عالميا، مما يفتح الباب أمام القوى المنافسة لملء الفراغ الجيوسياسي.

كذلك، فإن تقليص التمويل الفيديرالي لوكالات الأبحاث والأجهزة الحكومية المعنية بالعلم والتكنولوجيا يؤثر سلبا على قدرة البلاد على مواكبة أحدث الابتكارات، سواء في مجالات الذكاء الاصطناعي أو في تطوير علاجات للأمراض المستعصية. ولا يطال هذا التأثير المؤسسات الحكومية وحدها، بل ينعكس أيضا على شركات التكنولوجيا الخاصة التي تعتمد على شراكات وثيقة مع الدولة لتحقيق طموحات كبرى، ومنها ما أعلنه ترمب مؤخرا من خطة لإطلاق مشروع "ستارغيت" الهادف إلى تمكين الولايات المتحدة من بناء قواعد بيانات ضخمة وتقنيات ذكاء اصطناعي متقدمة.

الاعتماد المفرط على القطاع الخاص في توجيه دفة الابتكار يحمل في طياته أخطارا متعددة، أبرزها تآكل قدرة الدولة على تنظيم هذا القطاع الحيوي وضمان مساءلته

في الوقت الحالي، يتحول المشهد التكنولوجي الأميركي بشكل ملحوظ في اتجاه تعزيز الشراكات بين القطاعين العام والخاص، حيث تتسارع وتيرة التعاون بين الوكالات الفيديرالية وشركات التكنولوجيا العملاقة مثل "أوبن إيه آي" و"أنثروبيك" كاستجابة للحاجة الملحة لتسريع الابتكار ومواجهة التحديات التقنية المعقدة.

فقد أبرمت "أنثروبيك" اتفاقية تعاون مع وزارة الطاقة الأميركية والإدارة الوطنية للأمن النووي لتقييم مدى أمان نموذج الذكاء الاصطناعي "كلود ثري سونيت"، كما دخلت "أوبن إيه آي" في شراكة استراتيجية مع شبكة مختبرات وزارة الطاقة الوطنية التي تضم 17 مركزا بحثيا متخصصا في مجالات تتراوح بين الأمن النووي ومواجهة تغير المناخ.

هذا التحول نحو نموذج "الابتكار المختلط" يبرز اتجاها متصاعدا لاعتماد الحكومة على كيانات القطاع الخاص في قيادة التطور التكنولوجي. غير أن هذا النهج يطرح أسئلة محورية حول إعادة توزيع الأدوار بين الدولة والشركات في رسم ملامح المستقبل الرقمي، خاصة في مجال الذكاء الاصطناعي الذي تتداخل فيه الاعتبارات التقنية مع الأبعاد الأمنية والأخلاقية والاجتماعية.

في الوقت الذي تتصدر فيه الولايات المتحدة مشهد تطوير الذكاء الاصطناعي عالميا، بفضل شركاتها الكبرى مثل "اوبن ايه اي" و"غوغل" و"انفيديا"، فإن استمرار تقليص التمويل الفيديرالي المخصص للأبحاث الأساسية يهدد هذا التفوق على المدى البعيد، إذ يشكل الدعم الحكومي عنصرا جوهريا في الحفاظ على بيئة بحثية مستقلة ومتنوعة، لا تقتصر على أهداف الربح التجاري فحسب، بل تُعنى أيضا بالمسائل الأخلاقية والاجتماعية والبيئية المرتبطة بتقنيات الذكاء الاصطناعي.

Getty Images‬
تُعرض منتجات "غوغل" في متجر جوجل

إن الاعتماد المفرط على القطاع الخاص في توجيه دفة الابتكار يحمل في طياته أخطارا متعددة، أبرزها تآكل قدرة الدولة على تنظيم هذا القطاع الحيوي وضمان مساءلته. فعندما تصبح الشركات هي المصدر الرئيس للمعرفة والتكنولوجيا، فإن الحكومة قد تجد نفسها عاجزة عن فرض تشريعات فعالة لحماية حقوق المواطنين أو معالجة التحديات المجتمعية الناتجة من الاستخدام الواسع للذكاء الاصطناعي، مثل التحيزات الخوارزمية، والخصوصية، والتأثيرات البيئية. كما أن هذا التوجه قد يؤدي إلى هجرة العقول الأكاديمية نحو القطاع الخاص، مما يضعف دور الجامعات كمراكز للبحث الحر والمستقل.

إذا لم تصحح هذه المسارات، فقد تخسر الولايات المتحدة موقعها الريادي الشامل في مجال الذكاء الاصطناعي، لا سيما مع تصاعد المنافسة من قوى دولية مثل الصين، التي تستثمر بقوة في أبحاث الذكاء الاصطناعي ضمن استراتيجيا وطنية طويلة الأمد. الريادة في هذا المجال لا تُقاس فقط بسرعة الابتكار أو حجم الاستثمارات، بل أيضا بقدرة الدولة على تطوير تقنيات آمنة، عادلة، ومستدامة تخدم الصالح العام، وليس فقط مصالح السوق. وبالتالي، فإن الحفاظ على التمويل الفيدرالي للأبحاث يُعد استثمارا استراتيجيا في مستقبل الأمة، وليس مجرد بند إنفاق يمكن الاستغناء عنه.

font change