"ولاية الفقيه" وبقاء الحكم في إيران

الجولة الحالية من المفاوضات الأميركية–الإيرانية، جزء من صراع النظام الإيراني للحفاظ على نفسه

"ولاية الفقيه" وبقاء الحكم في إيران

منذ الأيام الأولى لانتصار الثورة الإيرانية، وضعها القائمون عليها وعلى الجمهورية التي تأسست على أثر سقوط حكم الشاه، في موقع شديد الأهمية والخصوصية ضمن منظومة الاعتقادات والأيديولوجيا التي سندوا نظامهم إليهما.

وثمة اليوم من يرى أن الوضع الدفاعي الذي يجد الإيرانيون أنفسهم فيه منذ فشل "طوفان الأقصى" في تغيير المعطى السياسي الإقليمي وهزيمة "حزب الله" في لبنان واضطرار طهران إلى التفاوض مع الأميركيين على الملف النووي أولا وعلى دورها في المنطقة ومستقبل أنصارها ثانيا، قد يضع مستقبل النظام بأسره في مهب الريح.

يحتل بقاء "الجمهورية الاسلامية" ونظامها المسترشد بمقولة "ولاية الفقيه"، أولوية قصوى في التفكير السياسي الإيراني لارتباطها بالبعد الغيبي للإمامية الاثنى عشرية الشيعية القائلة بعودة الإمام المهدي، محمد بن الحسن العسكري، وإخراجها الفقه الشيعي من الاستعصاء الذي اصطدم به في مراحل مبكرة من تكوينه في مسألة العلاقة بين السلطة السياسية والإمامة ونظرية الولاية. على هذه الأسس بنيت مجموعة ضخمة من المصالح المتشابكة داخليا وخارجيا، وصيغت تحالفات وعداوات في شتى الاتجاهات.

وتنتشر على مواقع الإنترنت تصريحات لكثير من حلفاء إيران، خصوصا الأمين العام السابق لـ"حزب الله" حسن نصرالله، يعود بعضها إلى مرحلة التصلب الأيديولوجي في ثمانينات القرن الماضي والبعض الآخر لم تمض عليه سوى سنوات قليلة، تتضمن تشديدا على الولاء المطلق "للجمهورية الإسلامية في إيران" عملا بما تقتضيه "ولاية الفقيه" من تسليم بالولاية المطلقة للفقيه الذي ينوب حتى خروج الإمام من الغيبة الكبرى. معروف أن الولاية المطلقة التي تشمل هيمنة نائب الإمام على كامل وجوه الحياة العامة بما فيها السياسة والأمن والعلاقات الخارجية، لا تحظى بإجماع مراجع الشيعة وتعددت تفسيراتها وحدود سلطاتها، وطرح بعض المراجع فكرة "ولاية الأمة على نفسها" وعدم اشتمال الولاية العامة على سلطات تنفيذية...

في جميع الأحوال، يبدو أن الموقف الدفاعي الإيراني الحالي ينطوي على بعد داخلي يتعلق بصمود النظام الذي حذر بعض الساسة الإيرانيون من سقوطه في حال تعرضت إيران لهجوم أميركي واسع النطاق بهدف تدمير المنشآت النووية. وتزامن ذلك مع مظاهرات وتحركات في الشارع لتحويل الاستياء من تردي الأحوال إلى موجة تطيح بالحكم القائم.

سقوط النظام المجسد لإرادة إلهية– بحسب منظري ولاية الفقيه– سيعني أن الإرادة تلك قد تغيرت وأن وظيفة الحكم الحالي في إيران كممهد لظهور الإمام المهدي لم تعد مطروحة.

لا مجال للشك في أن إيران، وبغض النظر عمن يحكمها وعن مراحل الاضطراب أو الارتباك التي قد تسود سلطاتها العليا في حال وقوع مفاجأة ما، فإنها باقية في هذه المنطقة من العالم

ولا يُظهر الدبلوماسيون والسياسيون الإيرانيون أي جانب من الجوانب الأيديولوجية لنظامهم أثناء المفاوضات مع الأميركيين بل يعملون كممثلين لدولة لها مصالحها وشؤونها كأية دولة في العالم. بيد أن ذلك لا يلغي أصواتا في الداخل الإيراني تتحدث عن الحفاظ على النظام وعلى قوته ومنعته كضرورة لا تضاهيها ضرورة أخرى، خشية تداعي الأسس التي تحمل كامل منظومة الحكم منذ 46 عاما. 
في هذا السياق، يتعين النظر إلى الموقع الذي ستحتله القضية الفلسطينية في الخطاب الإيراني بعد الصدوع الواسعة التي ألحقتها بها هزائم المحور في غزة ولبنان وسوريا. 
في المقابل، لا مجال للشك في أن إيران، وبغض النظر عمن يحكمها وعن مراحل الاضطراب أو الارتباك التي قد تسود سلطاتها العليا في حال وقوع مفاجأة ما، فإنها باقية في هذه المنطقة من العالم كدولة مؤثرة قادرة على استعادة دورها والحفاظ عليه مثلما تفعل منذ القدم. 
هذه الحقيقة التي يجري تجاهلها أحيانا من قبل خصوم النظام الإيراني الذين يرون أن نهايته تعادل اختفاء أي تأثير لإيران في المنطقة، وهذا غير صحيح. فإيران من الدول التي يحكمها موقعها الجيو-استراتيجي وتاريخها ووزنها الديموغرافي ويدفعها إلى أداء أدوار إقليمية نشطة سيان كان من يتولى السلطة في طهران (أو أصفهان في عصور سابقة). مثلها في ذلك مثل تركيا والصين والهند وألمانيا ومصر. 
وربما تشكل الولايات المتحدة استثناء لهذه القاعدة باعتبارها قادرة على عزل نفسها بالفاصل الجغرافي الذي يشكله المحيطان الأطلسي والهادئ، لكنها أنهت عزلتها إراديا بعد الحرب العالمية الثانية وتحدت موقعها الجغرافي...
عليه، صدق من رأى في الجولة الحالية من المفاوضات الأميركية–الإيرانية، جزءا من صراع النظام الإيراني للحفاظ على نفسه وعلى بقائه حتى لو كان الثمن التخلي عمن تبقى من حلفاء ووكلاء. 

font change