هل تخلت أميركا عن الريادة في "الاستدامة"؟

إيلون ماسك يشكك ونصف الولايات الأميركية تحافظ على التزامها المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة

Shutterstock
Shutterstock
حديقة مستدامة على سطح مبنى، مع رسومات توضيحية عن إعادة التدوير

هل تخلت أميركا عن الريادة في "الاستدامة"؟

بعد سنوات عدة من الانتقادات التي وجهها إيلون ماسك لما أسماه سياسات "الصحوة الأخلاقية" للشركات، كتب على منصة "إكس" في سنة 2023: "المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة هي الشيطان". جاء ذلك بمثابة رد فعل مباشر على تصنيفات "ستاندرد أند بورز غلوبال" للمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG) التي منحت شركات للتبغ والنفط مرتبة أعلى من "تسلا" في هذا المجال.

وقد أتيحت الفرصة الآن لأغنى رجل في العالم لإيصال ذلك الانتقاد إلى أسماع الرئيس الأميركي دونالد ترمب. فهل تكتب فترة الرئيس السابع والأربعين نهاية المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة في الولايات المتحدة؟ أم سيحافظ هذا المفهوم على أهميته في عصر "أميركا أولا"؟

التشكيك في التأثير البيئي

وجهت "تسلا" سهام النقد إلى المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة قبل وقت طويل من وقوف ماسك إلى جانب ترمب في الحملة الانتخابية. فقد افتتحت تقريرها عن تأثيرها البيئي والاجتماعي لعام 2021 بما يلي: "التقارير البيئية والاجتماعية والحوكمة الحالية لا تقيس نطاق التأثير الإيجابي على العالم. بل تركز بدلا من ذلك على قياس قيمة الأخطار/العائد بالدولار". وتابع التقرير أن تصنيفات المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة الخاصة بشركات تصنيع السيارات قد ترتفع إذا خفّضت الانبعاثات قليلا ولكنها استمرت في "إنتاج سيارات تستهلك كميات كبيرة من الوقود".

لو كان في وسعي الضغط على زر لإيقاف كل استخدامات الهيدروكربونات اليوم، فلن أضغط عليه لأن ذلك يؤدي إلى انهيار الحضارة. بل يتعين علينا تسريع التحول إلى الطاقة المتجددة، إن أمكننا ذلك.

إيلون ماسك، تصريح له في قمة النفط والغاز في النروج عام 2014

في الوقت نفسه، تبدو سياسات ترمب التي تحث على إنتاج مزيد من الوقود الأحفوري كأنها توحي بأن النفط والغاز سيظلان موجودين إلى الأبد. ويقول غاري ديركس من جامعة ولاية أريزونا: "العديد من أوامره التنفيذية ستؤثر على الأقل في محاولة تحفيز إنتاج مزيد من النفط والغاز"، ويشير إلى أن الولايات المتحدة هي بالفعل أكبر دولة منتجة للنفط في العالم.

لكن إيلون ماسك كان ذات يوم صاحب نهج أكثر دقة في التعامل مع الهيدروكربونات، وأشار إلى أن اكتشاف احتياطيات جديدة من الهيدروكربونات يؤخر معالجة المشكلة فحسب ولا يحلها. وكان ماسك قد صرح في قمة النفط والغاز في النروج في سنة 2014: "لو كان في وسعي الضغط على زر لإيقاف جميع استخدامات الهيدروكربونات اليوم، فلن أضغط عليه لأن ذلك يؤدي إلى انهيار الحضارة. بل يتعين علينا تسريع التحول إلى الطاقة المتجددة، إن أمكننا ذلك. إنه الشيء المعقول الذي يجب القيام به".

.أ.ف.ب
لوحة تحمل صورة ترمب كتب عليها" أزمة المناخ لن تتوقف من أجل مُنكر للتغير المناخي"، في ريو دي جانيرو، البرازيل، 18 نوفمبر 2024

بالانتقال سريعا إلى يومنا هذا، عندما انفجر غضب ماسك من المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة في أعقاب نشر تصنيفات "ستاندرد أند بورز غلوبال" ونيل "تسلا" درجة إجمالية قدرها 32 نقطة، أي أقل من شركة "إكسون موبيل" التي نالت 38 نقطة. عند إمعان النظر في منهجية الحسابات نكتشف بعض الفروق الدقيقة. فهاتان الشركتان تنتميان إلى قطاعين مختلفين والمنهجية المتبعة لا تتوخى دعم المقارنات المباشرة في مثل هذه الحالات، ومع ذلك نالت "تسلا" في الواقع درجة أعلى (52) من درجة "إكسون موبيل" (33) في الجانب البيئي. لكن أداءها الضعيف في المكونين الاجتماعي والحوكمة هو الذي أثر سلبا على نتيجتها الإجمالية.

إنفوغراف: النفط والغاز حجرا الأساس في الطاقة العالمية

إذا نظرنا في شركة عالمية رائدة في صناعة النفط والغاز وفقا لهذه التصنيفات، نجد أن "توتال إنرجيز إس. إي." تتصدر القائمة. فلدى هذه الشركة الفرنسية، وفقا لأحدث منشوراتها في شأن المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، إستراتيجيا لتصفير صافي الانبعاثات بحلول سنة 2050، وخطة خمسية لاستثمار نحو 18 مليار دولار أميركي سنويا في هذا المجال حتى سنة 2028. وتقدم تقارير الشركة تفاصيل عن كيفية قياس الانبعاثات وخفضها، وكثافة الكربون في دورة حياة المنتجات، والمؤشرات الرئيسة الأخرى.

تخلت "ميتا"، الشركة الأم لـ"فيسبوك" و"إنستغرام"، عن برنامجها الخاص بالتنوع والمساواة والشمول، الذي يرمي إلى تعزيز الشمول في عمليات الشركة مثل التوظيف واختيار الموردين

يتوافق ذلك تماما مع أفكار ماسك بأن الهيدروكربونات ضرورية على المدى القصير ويجب خفضها على المدى الطويل، ويظهر أيضا التزاما واضحا بتحقيق ذلك. إذن، هل يجب التشكيك في مكون البيئة في المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة أم أنه ببساطة الحل الوحيد للحقيقة المزعجة بأن موارد كوكبنا محدودة؟

إضافة المكون الاجتماعي إلى "الصحوة الأخلاقية"

وقع دونالد ترمب كثيرا من الأوامر التنفيذية في الساعات الأولى بعد تنصيبه، وقد أحدث أحدها صدمة للعديد من جماعات حقوق الإنسان، باستهدافه إدارات التنوع والمساواة والشمول في الهيئات الاتحادية.

رويترز
الرئيس الأميركي دونالد ترمب، في تجمع انتخابي في ألينتاون، بنسلفانيا، 29 أكتوبر 2024

ومع أن الأمر التنفيذي لا يمتد إلى القطاع الخاص، فقد التحقت شركات كبرى بالركب على الفور واتخذت إجراءات تحاكيه. فتخلت "ميتا بلاتفورمز"، الشركة الأم لـ"فيسبوك" و"إنستغرام"، عن برنامجها الخاص بالتنوع والمساواة والشمول، الذي يرمي إلى تعزيز الشمول في عمليات الشركة مثل التوظيف واختيار الموردين. وقالت "أمازون" إن جهودها في هذا المجال ستتوقف على مراحل.

لكن دراسة أجرتها شركة "سنتر فوكس إنترناشونال" على عشرات الشركات المدرجة في قائمة "فورتشن 500"، ونشرت في أبريل/نيسان 2024، أشارت إلى أن لمنصب مدير التنوع تأثيرا إيجابيا مباشرا على أداء الشركات. وقالت داني مونرو، مؤسسة شركة "سنتر فوكس إنترناشونال" ورئيستها التنفيذية: "تتجاهل المؤسسات في الغالب القيمة الكبيرة التي يتمتع بها مدير التنوع، وقد حان الوقت لتحديد المسؤوليات العديدة لهذا الدور، وإظهار كيف يحدث التنوع والمساواة والشمول اختلافا كبيرا في صافي أرباح الشركة والأداء العام للمؤسسات".

ويسعى بعض مؤيدي ترمب لدحض هذا الادعاء بإطلاق صناديق استثمار متداولة في البورصة (ETFs) مرتبطة بشركات ألغت سياسات التوظيف التي تتسم بـ"الصحوة الأخلاقية". لكن أداء صندوق "غاد بلس أميركا" (يال) (God Bless America ETF -YALL)، على سبيل المثل، كان أسوأ حتى الآن، خلال السنة الجارية، من أداء صندوق "فانغارد إي. إس. جي." (Vanguard ESG ETF)، الذي لديه معايير لاستبعاد ما يتعلق بسوء معايير حقوق العمال وحقوق الإنسان.

اليوم، تتشكل في أميركا نخبة صغيرة يجتمع لديها الثراء الفاحش والسلطة والنفوذ وتشكل تهديدا حقيقيا لديمقراطيتنا بأكملها، وحقوقنا وحرياتنا الأساسية

الرئيس الأميركي السابق جو بايدن

لا تزال شركات التكنولوجيا العملاقة مثل "مايكروسوفت" تقدر قيمة مبادرات التنوع والمساواة والشمول، إذ قال رئيسها التنفيذي ساتيا ناديلا مؤخرا: "نحرص من خلال السعي الحثيث لتحقيق التنوع وتبني الشمول على أن تمثل قوتنا العاملة الكوكب الذي نخدمه، وأن تلبي المنتجات التي نطورها احتياجات عملائنا دائما".

.أ.ف.ب
مصفاة نفط في لوس أنجلوس، ويبدو العلم الأميركي متسخا بالغبار 19 نوفمبر 2024

لا يقتصر المكون الاجتماعي في المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة على موضوعات التنوع والمساواة والشمول فحسب. بل يضم مجموعة واسعة من قضايا حقوق الإنسان مثل العبودية الحديثة، والحصول على المعادن في مناطق النزاع، والأجور اللائقة، التي تتناسب جميعها مع سردية دونالد ترمب عن إعادة العدالة إلى نظام يستغل الناس لتحقيق المكاسب.

انتقاد الحوكمة؟

ربما تبدو الحوكمة المكون الوحيد غير المستهدف مباشرة، حتى الآن على الأقل، لكن الأسابيع القليلة الماضية أبرزت بالتأكيد قضايا جديدة ذات علاقة بأخطار الحوكمة. فقد أوجز الخطاب الوداعي للرئيس السابق جو بايدن الأخطار المتزايدة لانخراط الشركات في السياسة، الذي من المحتم أن يتجاوز الحد في هذا المجال. وقال بايدن: "اليوم، تتشكل في أميركا نخبة صغيرة يجتمع لديها الثراء الفاحش والسلطة والنفوذ وتشكل تهديدا حقيقيا لديمقراطيتنا بأكملها، وحقوقنا وحرياتنا الأساسية".

وفي ظل تصدر الذكاء الاصطناعي واستكشاف الفضاء قائمة الأولويات المقبلة، كيف سيتعامل البيت الأبيض مع الشركات الفاعلة القائمة، وما مقدار شفافية العملية من منظور الشركات التي لا يستفيد منها إيلون ماسك؟ وقد تبادل سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة "أوبن إيه. آي."، الانتقادات مع ماسك على منصة "إكس" عندما أشار الأخير إلى تأمين أقل من 10 مليارات دولار من أصل 500 مليار كان من المتوقع استثمارها قريبا في البنية التحتية للذكاء الاصطناعي. ورد ألتمان على ماسك: "أدرك أن ما يعود بالفائدة على البلاد ليس دائما الخيار الأمثل لشركاتك، ولكن آمل في دورك الجديد أن يغلب وضع أميركا في المقام الأول".

في طبيعة الحال، هناك أيضا شركات مرتبطة مباشرة بالرئيس ترمب ويمكن أن تستفيد من ولاية رئاسته الثانية. وقد ذكرت لجنة في الكونغرس في سنة 2022 أن منتجع "مار-ألاغو" الذي يمتلكه ترمب كان يتقاضى من جهاز الاستخبارات المولج بحماية أمن الرؤساء أسعارا باهظة تصل إلى نحو 800 دولار لليلة الواحدة عندما يضطر العملاء للبقاء فيه لحماية ترمب خلال رئاسته الأولى.

بعض مسائل تكاليف المعيشة التي وعد ترمب بمعالجتها يمكن أن ترتبط بقضايا الحوكمة، مثل غياب ممارسات التسعير العادل

ثم إن بعض مسائل تكاليف المعيشة التي وعد ترمب بمعالجتها يمكن أن ترتبط بقضايا الحوكمة، مثل غياب ممارسات التسعير العادل. ولا يعرف على وجه اليقين إذا كان ذلك من الاعتبارات التي تلحظها خطته لتيسير حياة المواطن الأميركي العادي.

القيادة الأميركية للمناخ موضع تساؤل؟

أكد ترمب في حملته الانتخابية أن العالم يستغل الولايات المتحدة، وأنه يعتزم استعادة مكانة بلاده بوصفها قائدة للعالم. لكن الاستدامة لا تزال تحظى بالأولوية في العديد من الدول، وقد يعني افتقار ترمب إلى الإدارة الرشيدة للقضايا البيئية والاجتماعية والحوكمة، فقدانها موقعها المتقدم في هذا المجال. ويحاول بعض أصحاب المصلحة الأميركيين الحؤول دون ذلك. لذا أرسل الحلف الأميركي للمناخ، الذي يتكون من حكام 24 ولاية، رسالة مشتركة إلى الأمين التنفيذي لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في شأن تغير المناخ، سيمون ستيل، يؤكدون فيها التزامهم أهداف اتفاقية باريس، على الرغم من إقدام الرئيس على الانسحاب منها.

Shutterstock
الحدائق العامة مطلب أساسي لأوكسجين سكان المدن

لكن موقع القيادة العالمية للمناخ أصبح خاليا وتتنافس دول عدة على ملء ذلك الفراغ. ولا يزال الاتحاد الأوروبي ملتزما بقوة المكونات الثلاثة للمعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة (ESG). وعلى صعيد بعض القضايا المحددة، تحرز الدانمارك تقدما رائدا في الحد من انبعاثات الثروة الحيوانية، وتؤكد البرازيل حضورها في مفاوضات المناخ، وتستعرض الهند قوتها أيضا. وربما تكون الصين المنافس الأكبر لأنها تنتج أكثر من نصف السيارات الكهربائية ونحو 70 في المئة من توربينات الرياح و80 في المئة من الألواح الشمسية في العالم.

"العصر الذهبي" في مقابل "العصر الترمبي"

هل يريد دونالد ترمب أن تفقد الولايات المتحدة موقعها القيادي السابق في أي قضية خلال ما أطلق عليه "العصر الذهبي" للبلاد؟

ربما يكون الحل في أن يهمس ماسك في أذن الرئيس صياغته المفضلة كما جاءت في تقرير "تسلا" عن تأثيرها البيئي والاجتماعي لعام 2021: "بما أن على العالم السعي لتحقيق تأثير إيجابي كبير، فإننا لن نشير إلى المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة، وإنما سنتحدث عن التأثير بدلا من ذلك".

وتعهد رئيس بلدية مدينة نيويورك السابق مايكل بلومبيرغ بتغطية الفجوة في تمويل اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في شأن تغير المناخ التي تأثرت أيضا بقرار ترمب.

font change

مقالات ذات صلة