ما لا تقوله "الزن"

تكمن السعادة في كيفية ترسيخ شعور راسخ عميق بالثقة بالذات

ما لا تقوله "الزن"

السعادة من أقدم قضايا الفلسفة وأقربها لحياتنا، فما كانت مساجلات سقراط في "محاورات أفلاطون"، إلا بحثا عن عيش الناس، أفرادا وجماعات، في مجتمع يجمع بين السعادة والفضيلة. ولذلك كان اليونان الأوائل يسمون الفلسفة: فن الحياة السعيدة.

كان أرسطبوس– تلميذ سقراط المنسي- مشغولا بسعادة الفرد محتقرا للعلوم الطبيعية والرياضية، ولم تكن السعادة عنده إلا اللذة المدروسة بأسلوب كمي. ومع أبيقور تراجع الطموح إلى مجرد الخلاص من الألم، لأنه كان يعيش في أزمنة خوف واضطرابات سياسية. لكن النفعيين طوروا هذا المذهب ليكون منفعة للمجتمع، خصوصا مع جيريمي بنثام وجون ستيوارت مل، ليكون مبدأ لبريطانيا كلها، من القرن التاسع عشر، إلى اليوم.

تلامذة سقراط ومن بعدهم، دخلوا في دهاليز القضية، ففرقوا بين اللذة والسعادة وقسموهما إلى حسية وعقلية، مع اختلاطهما أحيانا. فعندما تقول إنك قضيت خمس ساعات تتناول العشاء مع أصدقاء الطفولة في مطعم فاخر، فهذه ليست لذة حسية خالصة، بل اللذائذ الحسية كلها لا تأخذ من يومنا إلا القليل. لذة الطعام والشراب والجنس الفعلية لا تعيش سوى دقائق. الوقت السعيد الذي قضيتَ يدخل معظمه في قسم السعادة العقلية التي تَنتج عن الأحاديث اللطيفة التي تستدعي الذكريات البهيجة والحوارات العقلية الممتعة.

اختلفت وجهات الغربيين في وصف طريق السعادة، فالجمع بين الفضيلة والسعادة لم يكن سهلا على فيلسوف أخلاقي كبير هو إيمانويل كانط، فاختار الفضيلة ولم يشترط السعادة، مع أن الجمع بينهما ممكن. والرواقيون يرون أن موافقة الطبيعة كفيلة بتحققها، ولقوا من نيتشه نقدا لاذعا لغموض فكرة موافقة الطبيعة، وأنها من أخلاق العبيد. إنه يرى السعادة في إشباع الغرائز، خصوصا عندما تنتصر أخلاق النبلاء في إرادتهم للقوة. وعند فرويد، لا توجد سعادة، اللهم إلا إشباع لذة جنسية طال انتظارها. ومن وجهة نظر برتراند راسل، السعادة تكمن في العلم ومتابعة القراءة والعمل على تقدم العلم والاستمتاع بالمعرفة، بعد فشل تجربته في الزواج مرتين. نحن جميعا نبحث عن السعادة، لكنّ فكرة ما يجعلنا سعداء تختلف من شخص لآخر.

السعادة المطلقة تعني أن العيش في حد ذاته هو السعادة، وأن الحياة فرحة بالوجود والخروج من العدم، بغض النظر عن مكان وجودنا أو ظروفنا الخاصة


تقدم لنا "فلسفة الزن" السعادة الكلية التي هي تعبير عن أعظم إمكاناتنا، والتي تسميها التنوير أو الاستنارة. تنوير يختلف عن التنوير الأوروبي وإن كان يحمل الاسم نفسه، بحسب العُرف والترجمة. في "الزن"، هناك نوعان أساسيان من السعادة: السعادة النسبية والسعادة المطلقة. يقصدون بالسعادة النسبية حالة تتم فيها تلبية الرغبات المادية أو الرغبات الشخصية المباشرة. وفي حين أنه لا يوجد حد لما يمكننا أن نتمناه، فإن هناك حدا لما يمكننا الحصول عليه ولمدة قدرتنا على التمسك به. قد نحصل على شيء نريده في هذه اللحظة، لكن الرضا الذي نستمتع به من الحصول عليه لن يدوم. ومن خلال الجهد والتخطيط، يمكننا أن نطور ونكيف ظروفنا حسب رغباتنا، معتقدين أن هذه هي السعادة. ولكن إذا تغيرت هذه الظروف أو اختفت، فسوف تهتز سعادتنا أيضا. وتُعتبر هذه السعادة نسبية لأنها لا توجد إلا في علاقة بالعوامل الخارجية. مصيرنا مقيد بآخر، بالشريك أو بالعمل أو بالنظام السياسي والاقتصادي الذي نعيش في ظله.
وعلى النقيض من ذلك، فإن السعادة المطلقة تعني أن العيش في حد ذاته هو السعادة، وأن الحياة فرحة بالوجود والخروج من العدم، بغض النظر عن مكان وجودنا أو ظروفنا الخاصة. إنها حالة حياتية تنبع فيها السعادة من الداخل، وتصدر عن قرار حُر بأن تعيش ما حييت مغتبطا بحياتك، بغض النظر عن الظروف والآخر. يسمونها مطلقة، لأنها لا تتأثر بالظروف الخارجية. بلوغ الاستنارة يعني السعادة المطلقة.
أحيانا، نواجه مشكلات غير متوقعة، إلا أن هؤلاء الشرقيين يقولون إن السعادة الحقيقية لا تعتمد على وجود مشكلات من عدمه، بل على كيفية إدراكنا لها وطريقة التعامل معها. أحداث اليوم هي فقط أحداث اليوم، وستحدث أحداث مماثلة لها في كل يوم، ولكن الإنسان يخطئ أحيانا فيصف حياته بالتعاسة بسبب تلك الأحداث التي تتفكك سريعا بمجرد أن نتغافل عنها بدلا من الاشتباك معها. لا تعط أحداث اليوم أكبر من حجمها واستمتع بمصادقة اللحظة الراهنة.

وبالمثل، من أقام حالة حياة، من السعادة المطلقة، يمكنه أن يواجه أي صعوبة بحزم. بل يمكن للمشاكل أن تصبح دافعا لإخراج قوة حياة جديدة، مما يمكن المرء من التغلب على أي تحد بهدوء وثقة. فبالنسبة لمتسلق الجبال المحترف تصير المتعة أكبر، كلما كان الجبل أكثر انحدارا ووعورة. وبالمثل، فإن الشخص الذي يعيش الحكمة وقوة الحياة للتغلب على الصعوبات سوف يجد أن المجتمع، الذي يعج بالمشكلات هو مكان لممارسة نشاطه في خلق القيم.
وفي نهاية المطاف، تكمن السعادة في كيفية ترسيخ شعور راسخ عميق بالثقة بالذات وبالوجود. فالسعادة لا تكمن في المظاهر الخارجية ولا في إعجاب المرء بسيارته الفاخرة الجديدة ولا برصيده البنكي. إنها قضيةُ ما تشعر به في داخلك، صدى عميق يتردد في حياتك. 
الأشياء التي تشكل السعادة النسبية، مثل الممتلكات أو العلاقات أو الظروف، تختفي جميعها عند الموت. أما السعادة المطلقة، حالة الحياة الطبيعية، فهي موجودة على مستوى الحياة الأبدية والتي تتجاوز الحياة والموت. إنها هبة نحملها معنا بعد حياتنا.
ثمة أمر يمكن أن نتعقب به "فلسفة الزن"، وذاك أنها قد تجعل الإنسان شديد الحساسية رقيق الشعور للغاية سريع التنكد، والحياة تحتاج من الواحد منا أن يكون جلدا مُرا صبورا لا ينقلب مزاجه بسبب الأمور العادية. لا سعادة من دون قوة التحمل واتساع الصدر، وأن يكون المرء فاعلا مريدا مُغيرا لكل واقع لا يناسبه. هذا ما لا تقوله "الزن".

font change