على مدار سنوات طويلة، شكلت كتابة الرواية هاجسا إبداعيا بالنسبة إلى العديد من المبدعين الذين طالما عرفوا بكتاباتهم الفكرية والأكاديمية والنقدية. وعلى رغم من بساطة هذا الطرح المعرفي المتصل بالانتقال من الفكر إلى الأدب في التربة الغربية، إلا أنه في الثقافة العربية الحديثة يبدو ذلك مختلفا، إذ غالبا ما يتلقى المفكرون العرب نقدا لاذعا بسبب كتابتهم للرواية أو الانغماس في شعرية النصوص الأدبية المفتوحة العابرة للأجناس الأدبية ومتخيلها. فيرى بعضهم أن ذلك يأتي فقط انطلاقا من شعورهم بقيمة هذا الجنس وما أصبح يمثله من مكانة مرموقة داخل ثقافة عربية تعلي شأن الرواية، لا لأنها ملحمة البورجوازية على حد تعبير هيغل، بل على أساس أنها "لسان العرب" في الحقبة المعاصرة.
من الشعر إلى الرواية
والحقيقة أن الأمر لا يقف عن حدود رجل الفكر، بل أصبحنا نعاين عن كثب ابتداء من الألفية الجديدة كيف تحول عدد من الشعراء إلى كتابة الرواية، الى درجة أنهم أصبحوا في لحظة ما "كتاب رواية" أكثر من كونهم شعراء. مع العلم أن هناك العديد من الشعراء العرب، لم يعملوا فقط على إقامة نوع من العبور بين الشعر والرواية، بما يجعلهم يجربون جنسا جديدا يتيح لهم إمكانات تخييلية وجمالية وحرية كبيرة في تكثيف القول، وإنما عمل العديد من الشعراء على تجديد صنعة الرواية وتكثيف معانيها وتغيير بعض من أساليب كتابتها، كما هو الحال على سبيل المثل لا الحصر مع الشاعر الأردني أمجد ناصر في "هنا الوردة"(2017) والشاعر المغربي عبد الله زريقة في "المرأة ذات الحصانين"(1991) والشاعر محمد الأشعري في "القوس والفراشة"(2010). ولا شك أن قارئ هذه النصوص الروائية وغيرها، سيفطن إلى الإمكانات الكبيرة التي يحملها الشعراء على مستوى الكتابة وقدرتهم الفائقة في التفاعل مع الواقع والاشتباك مع قصصه وحكاياته وأحداثه، وما يعرفه بشكل يومي من أحداث ضاربة في الجسد والسياسة والمجتمع.
هذا الأمر يزيد جماليات الكتابة الروائية ويفتح لها آفاقا جديدة على مستوى النسق والكتابة والتخييل. وإذا كان هؤلاء الشعراء برعوا في جنس الرواية ومتخيلها السردي، فإن الثقافة الشعرية وأساليب كتابتها يمنحان هؤلاء الشعراء الروائيين قوة ناعمة في مزج اللغة الشعرية وحميميتها بلغة سردية تتراص فيها الكلمات من أجل تكثيف وحدة السرد وخطية الحكاية، بغية خلق أحداث متسلسلة تزدحم أليافها القصصية وفضاءاتها وشخصياتها في ذهنية القارئ. في حين أن الكتابة الشعرية، تظل كتابة لا تكتفي بالجاهز من الحدث السردي، بقدر ما ترتق الفراغ وتبني شعريتها انطلاقا من تأمل العالم وليس تفكره بالمعنى الذي كان أعطاه عالم الاجتماع الفرنسي ميشال مافيزولي لمعنى التصور أو التأمل.