مفكرون عرب وغربيون خاضوا غمار الكتابة الروائية

فضاء أوسع للتعبير عن الأفكار ونقد الواقع

Lina Jaradat
Lina Jaradat

مفكرون عرب وغربيون خاضوا غمار الكتابة الروائية

على مدار سنوات طويلة، شكلت كتابة الرواية هاجسا إبداعيا بالنسبة إلى العديد من المبدعين الذين طالما عرفوا بكتاباتهم الفكرية والأكاديمية والنقدية. وعلى رغم من بساطة هذا الطرح المعرفي المتصل بالانتقال من الفكر إلى الأدب في التربة الغربية، إلا أنه في الثقافة العربية الحديثة يبدو ذلك مختلفا، إذ غالبا ما يتلقى المفكرون العرب نقدا لاذعا بسبب كتابتهم للرواية أو الانغماس في شعرية النصوص الأدبية المفتوحة العابرة للأجناس الأدبية ومتخيلها. فيرى بعضهم أن ذلك يأتي فقط انطلاقا من شعورهم بقيمة هذا الجنس وما أصبح يمثله من مكانة مرموقة داخل ثقافة عربية تعلي شأن الرواية، لا لأنها ملحمة البورجوازية على حد تعبير هيغل، بل على أساس أنها "لسان العرب" في الحقبة المعاصرة.

من الشعر إلى الرواية

والحقيقة أن الأمر لا يقف عن حدود رجل الفكر، بل أصبحنا نعاين عن كثب ابتداء من الألفية الجديدة كيف تحول عدد من الشعراء إلى كتابة الرواية، الى درجة أنهم أصبحوا في لحظة ما "كتاب رواية" أكثر من كونهم شعراء. مع العلم أن هناك العديد من الشعراء العرب، لم يعملوا فقط على إقامة نوع من العبور بين الشعر والرواية، بما يجعلهم يجربون جنسا جديدا يتيح لهم إمكانات تخييلية وجمالية وحرية كبيرة في تكثيف القول، وإنما عمل العديد من الشعراء على تجديد صنعة الرواية وتكثيف معانيها وتغيير بعض من أساليب كتابتها، كما هو الحال على سبيل المثل لا الحصر مع الشاعر الأردني أمجد ناصر في "هنا الوردة"(2017) والشاعر المغربي عبد الله زريقة في "المرأة ذات الحصانين"(1991) والشاعر محمد الأشعري في "القوس والفراشة"(2010). ولا شك أن قارئ هذه النصوص الروائية وغيرها، سيفطن إلى الإمكانات الكبيرة التي يحملها الشعراء على مستوى الكتابة وقدرتهم الفائقة في التفاعل مع الواقع والاشتباك مع قصصه وحكاياته وأحداثه، وما يعرفه بشكل يومي من أحداث ضاربة في الجسد والسياسة والمجتمع.

هذا الأمر يزيد جماليات الكتابة الروائية ويفتح لها آفاقا جديدة على مستوى النسق والكتابة والتخييل. وإذا كان هؤلاء الشعراء برعوا في جنس الرواية ومتخيلها السردي، فإن الثقافة الشعرية وأساليب كتابتها يمنحان هؤلاء الشعراء الروائيين قوة ناعمة في مزج اللغة الشعرية وحميميتها بلغة سردية تتراص فيها الكلمات من أجل تكثيف وحدة السرد وخطية الحكاية، بغية خلق أحداث متسلسلة تزدحم أليافها القصصية وفضاءاتها وشخصياتها في ذهنية القارئ. في حين أن الكتابة الشعرية، تظل كتابة لا تكتفي بالجاهز من الحدث السردي، بقدر ما ترتق الفراغ وتبني شعريتها انطلاقا من تأمل العالم وليس تفكره بالمعنى الذي كان أعطاه عالم الاجتماع الفرنسي ميشال مافيزولي لمعنى التصور أو التأمل.

هي إذن كتابة تحتمي بأخرى، كتابة لا تريد أن تبقى سادرة ومنضبطة بالفكر، وإنما تريد البحث عن ماء جديد لها

هي إذن كتابة تحتمي بأخرى، كتابة لا تريد أن تبقى سادرة ومنضبطة بالفكر، وإنما تريد البحث عن ماء جديد لها. إن كتابة الفكر وكتابة الأدب أشبه بالعيش في النهار والليل. للأول صرامته اليومية التي لا تقبل التأجيل: محاكمة العقل وتحليل الواقع ورصد التحولات وتمحيص المفاهيم وتأويل النظريات. أما الليل فيبقى مفتوحا على تخوم العدم. في الليل تنفلت الكتابة من قبضة اليومي ومن صرامة العقل المتحجرة لتلج الكتابة إلى الجسد وتهدم أحراشه وتقلب أحشائه، حتى ينزف القلب ويتقطر الدمع على بياض الورقة. إن الانتقال من الفكر إلى الأدب، ظاهره روحي وباطنه معرفي، فهو إلى جانب كونه يحرر المفكر من رتابة اللغة التقريرية ومفاهيمها، فإنه يعطيه من جهة أخرى متنفسا جديدا للتفكير في قضايا سياسية حساسة وإشكالات اجتماعية مركبة، لا يستطيع البوح بأسرارها إلا داخل قالب روائي يمتزج فيه الواقع بالتخييل والحقيقة بالكذب.

جان بول سارتر

الأدب والإيديولوجيا

حين كتب جان بول سارتر الرواية والمسرح، لم يكن يفكر على الإطلاق بما سيقوله عنه نقاد الأدب في الغرب، بل ظل الرجل مؤمنا بأن الفكر، يمكن أن يكتب داخل الأدب. ولا شك أن درسه الفلسفي المتعلق بـ"الذات والآخر" يجد ملامحه الواضحة في مسرحيته الشهيرة "الذباب"(1943)، إذ يجد البطل نفسه مع صديقته بالمقهى والكل ينظر إليهما، فيقول عبارته الشهيرة "الجحيم هو الآخر". لم يكن أحد سيفهم عمق ما كتبه فيلسوف الوجودية لولا حدس العديد من النقاد والمفكرين بقيمة الكتابة الأدبية وكيف يمكن أن تغدو مختبرا حقيقيا للتفكير خارج مدارات الجسد ومتخيله. حين يكتب سارتر الرواية، فهو لم يفكر في مفاهيم من قبيل الوجودية والالتزام والماركسية والمرأة والعدم والمثقف، باعتبارها قضايا تستحق أن تكون موضوعا للعمل الأدبي، بل ترك كل ذلك يخرج تلقائيا من جسده، لكن اللحظة الفاصلة في تحول النص رهينة بعمق رؤاه، وما يمكن أن يبوح به جسده من أسرار أو ما يترتب عن مخاض الولادة من أفكار، قد تأتي بنفس شعري أو سياق تاريخي أو تجريد فكري أو مشهد مسرحي. لهذا فالقالب الأدبي، يبقى أكثر تحررا من سلطة الشكل الذي قد يفرضه الخطاب الفكري، سواء من ناحية اللغة أو النسق.

لم يكن أحد سيفهم عمق ما كتبه فيلسوف الوجودية لولا حدس العديد من النقاد والمفكرين بقيمة الكتابة الأدبية وكيف يمكن أن تغدو مختبرا حقيقيا للتفكير

نعثر في الفكر الغربي على نماذج كثيرة لم تكتب الأدب، لكن متونها الفكرية تتضمن الكثير من الجماليات على مستوى التكثيف الأدبي وبلاغته الشعرية المفرطة. يطالعنا هذا النموذج عند فريدريك نيتشه وميشال فوكو وجيل دولوز ورولان بارت، مجموعة أسماء آمنت بقوة الأدب ودوره في تحرير الفكر والذاكرة، فغاصت كتاباتهم الفلسفية إلى حد كبير في الأعمال الأدبية، الى درجة تجعل القارئ يندهش من طريقة المقاربة المفاهيمية التي تبدو أنها تتبع ترتيبا دقيقا لمسار شخصية موجودة على الحياة، خاصة أن المفاهيم في عمقها تشبه الشخصيات لكونها دائمة التغير والتحول.

حرص سارتر في "الجدار" و"الغثيان" على نقل أفكاره ومواقفه الفلسفية إلى النصوص الأدبية. سيما أن الأدب يعمق الفكر ويحرره من الجمود الذي عادة ما نعثر عليه في المؤلفات الفكرية بسبب طبيعتها النظرية أو التحليلية. حرص سارتر في كل ما كتبه على إقامة نوع من التوازي المنهجي بين الفكر والأدب، لكنه كان دائما فطنا إلى عملية انمحاء الحدود على مستوى التفكير. أي أنه ظل في باطنه ينظر إلى الأدب على أساس أنه فكر، وأن داخل الفكر ثمة الكثير من الأساليب الأدبية التي يصعب التعبير عنها بنمط من الفكر المجرد. انمحاء الحدود والأسيجة بين الفكر(الفلسفة) والأدب أمر قائم من قرون طويلة، لكنه لم يتبلور بعد داخل ثقافة عربية تتشدق بالحداثة.

عبد الله العروي

لم تستوعب الثقافة العربية الحديثة والمعاصرة أن داخل روايات عبد الله العروي وأمين معلوف مثلا قدرا كبيرا من أنماط التفكير المجرد وأن كلا الكاتبين عبرا عن مواقفهما، انطلاقا من بنية العمل الأدبي. بل يعتبر صاحب "الإيديولوجية العربية المعاصرة" أن الكثير من أنماط الفكر الإيديولوجي الذي كتبه كل من طه حسين وسلامة موسى وغيرهما، لقي صدى كبيرا داخل النقد الإيديولوجي الذي كتبوه، بمعنى أن المفكر يصل إلى مرحلة يصعب عليه فيها أن يقول كل شيء بطريقة مباشرة. لذلك عمد هؤلاء إلى النقد الأدبي لقول أشياء ذات صلة بالسياسة والمجتمع. في حين فضل العروي نفسه أن يكتب الكثير من أفكاره داخل جنس الرواية التي تنزل عبرها منزلة رفيعة من ناحية الرواية الفكرية التي تفكر في الذات لكن في علاقتها بالتاريخ والذاكرة والمجتمع.

لم تستوعب الثقافة العربية أن داخل روايات عبد الله العروي وأمين معلوف مثلا قدرا كبيرا من أنماط التفكير المجرد وأن كلا الكاتبين عبرا عن مواقفهما، انطلاقا من بنية العمل الأدبي

لم يعمل سارتر على كتابة روايات من داخل مدارات الجسد فقط، بقدر ما جعل من الجسد وسيلة للتعبير عن واقعه وتاريخه وذاكرته الشخصية. فالكتابة الروائية عند صاحب "الوجود والعدم" مقرونة بإعادة تملك الواقع والكشف عن مرارته وخيباته. مع العلم أن روايات من قبيل "الغثيان" و"دروب الحرية" لا يمكن اعتبارها إلا وسيلة للتفكير الإيديولوجي القائم على تحميل الشخصيات مجموعة من أفكاره ومواقفه في السياسة والفكر والمجتمع. والحقيقة أنه إذا تأملنا مدى تأثير أدب ومسرح سارتر في الأدب العربي الحديث، فقد لا نعثر له على أثر بالغ، بالمقارنة مع مؤلفاته الفكرية التي أصبحت تشكل نسقا من ناحية التفكير ونافذة مشرعة لفهم بعض القضايا المرتبطة بالوجود والالتزام والوعي والعدم وغيرها.

وبالرغم من حرص سهيل إدريس على ترجمة عدد من رواياته إلى اللغة العربية، إلا أن ذلك لم يعكس شيئا من وجع الترجمة. فقد وجدت بعض أفكاره الفلسفية ومواقفه الإيديولوجية تناغما مع ما كانت تعيشه الشعوب العربية في مرحلة سياسية معينة وفي طبيعة السياق التاريخي المتطلع إلى مختلف أشكال المد القومي ابتداء من خمسينات القرن العشرين.

أمين معلوف

الرواية والفكر

يعد الكاتب التشيكي الفرنسي ميلان كونديرا، أحد أبرز النماذج الغربية التي أصلت أفكارها ومواقفها، انطلاقا من داخل النص الروائي. إذ عمل صاحب "كائن لا تحتمل خفته" على الموازنة بين الكتابة الروائية ونظيرتها النقدية. وسعى صاحب "الدعابة" إلى الكتابة من منطلق الهامش، سيما أنه ينتمي إلى الأدباء الذين لم يغوهم المركز، بل جعلوا من الهامش مركزا لهم. إذ رغم ماضيه العسير مع السلطة في بلاده، سعى كونديرا في كل ما كتبه إلى التعبير عن مواقفه الفكرية داخل قوالب أدبية مختلفة ومنعرجات تخييلية متباينة. سلط كونديرا في روايته "حفلة التفاهة" تركيزه على الفراغ الذي قد يصيب المرء في حياته، محولا كل الناس إلى وجوه ذات أقنعة. وعلى الرغم من اعتباره أن الإيديولوجيا عدوة للرواية، فإن روايته الأخيرة "حفلة التفاهة" تتبطنها الكثير من الأنفاس الإيديولوجية، إذ تأتي الكتابة بوصفها موقف الكاتب من العالم والواقع على حد سواء. كما أنه لم يكتف بكتابة الرواية، بل عمل على التنظير لها في كتب من قبيل "الوصايا المغدورة" و"الستارة" و"فن الرواية".

سلط كونديرا في "حفلة التفاهة" تركيزه على الفراغ الذي قد يصيب المرء في حياته، محولا كل الناس إلى وجوه ذات أقنعة

تقترن الرواية عند كونديرا بالفكر فهي تدريب سردي على التفكير في مآزق الواقع وتصدعاته، فهي وإن كانت تعود إلى التاريخ وتسرد محكياته على لسان شخصياته، تظل علاقة أصيلة بالفكر. حين تقرأ رواية مثل "الخلود" تشعر أنك أمام نص روائي عالم، لا يقف عند الأحاسيس والمشاعر والاستيهامات، بقدر ما يوسع أفق النظر لتغدو الكتابة شكلا من أشكال التفكير الفلسفي. وقد لا ترتطم فسحة التأمل التي نعثر عليها داخل روايات كونديرا، بنص فكري معين، بل تكاد بعض الفقرات من "حفلة التفاهة"(أو "عيد اللامعنى" حسب ترجمات أخرى) كتابة فلسفية تأملية تروي سيرة حياة شخصيات معاصرة تعيش في فرنسا. فالتفاهة كما يصورها كونديرا ليست ظاهرة بقدر ما تغدو عبارة عن سلوك جماعي مكرر في الواقع والفكر والسياسة. لذلك حاول كونديرا تتبع هذه التفاهة السائلة في الواقع والكشف عنها بطريقة سردية ساخرة تظهر مدى تشبث الإنسان المعاصر بعناصر سريعة لا معنى لها، كما يصورها في روايته القصيرة "البطء".

غلاف "حفلة التفاهة"

الرواية والتعبير عن الذات

يعد عبد الله العروي أكثر المفكرين العرب الذين استطاعوا لفت الانتباه إلى نصوصهم الروائية، بحكم الزخم المعرفي الذي رافق مشروعه الأدبي الذي فاق خمس روايات. والحال أن الرواية كما يقترحها العروي، قد لا نعثر على مثيل لها داخل تجارب روائية مثل محمد زفزاف ومحمد شكري وأحمد المديني ومبارك ربيع وغيرهم. وذلك لكون البؤرة المعرفية التي قدم منها العروي، تفرض عليه نموذجا معينا على مستوى التفكير. فكتابة الرواية عند العروي، تكاد تكون عبارة عن حفر دقيق في هوية المجتمعات العربية الإسلامية في علاقتها بالآخر الغربي وسفر ميثولوجي في تفكيك الكينونة الإنسانية ورحلة دائمة في تاريخ الأفكار. حين كتب العروي "أوراق" لم يكن همه كتابة رواية يكسر فيها من حدة البعد التنظيري الذي عادة ما تتميز به كتاباته الفكرية، بقدر ما عمل على إعادة تملك التاريخ وفهم ميكانيزمات الواقع ومحاولة وضع سردية أدبية وإن افتقرت إلى لمسة شعرية، تظل عبارة عن شهادة أدبية تجاه الواقع. لذلك جاءت هذه الرواية باعتبارها "سيرة غيرية" يقيم فيها الأسيجة والحدود مع شكل "سيرة ذاتية" كتبت بها روايات عربية كثيرة. فحين نقرأ هذه الرواية نشعر أننا نقرأ سيرة العروي من خلال سيرة الآخر.

بنسالم حميش

هذا التفكير في الآخر من خلال ذواتنا نكاد نعثر عليه في مجمل رواياته. نحن هنا أمام روايات فكرية، تحاول استعادة تاريخ الأفراد والتمعن في قراءته وتأمله وتقديمه على طبق روائي مغاير. فإذا كان كتاباته الفكرية مثل "مجمل تاريخ المغرب" و"ثقافتنا في ضوء التاريخ" و"العربي والفكر التاريخي" راهنت على مفهوم المركز الذي نبذه ابن موطنه عبد الكبير الخطيبي، فإن رواياته لا تستعيد تاريخ السلطات والسلالات الحاكمة، بقدر ما تعتني بسيرة أفراد رغم تباين مستواهم المعرفي ومشاربهم الإيديولوجية، فإنهم يبدون في رواياته عبارة عن شخصيات آتية من الهامش. فثنائية المركز والهامش لم تكن تعني للعروي شيئا أمام رغبة دفينة في التعبير عن الجرح البشري ومكر التاريخ وقلق الواقع. ذلك أن نصوصه الروائية مشغولة بتحولات الفرد داخل مجتمعه.

كتابة الرواية عند العروي، تكاد تكون عبارة عن حفر دقيق في هوية المجتمعات العربية الإسلامية في علاقتها بالآخر الغربي

من ثم، يسعى من جهته إلى القبض على حميمية هذه التحولات. لقد انتقد العروي الشكل الواقعي في كتابة الرواية العربية واعتبره لا ينسجم مع السياق التاريخي الذي تنتمي إليه البلدان العربية. فهو يرى أن هذا الشكل نسخ بعضا من النماذج الغربية بسبب عدم تطابقه مع البنيات العربية والتحولات السياسية والقوى الاجتماعية. هذا الأمر حكم على عدد من الروايات العربية بالوهن وإعادة إنتاج النسخ على مستوى الشكل. والحقيقة أن الملاحظة التي اقتنصها العروي منذ لحظة تفكيره في العرب ومسألة التعبير عن الذات تبدو أنها لا تزال صالحة لمعاينة الكثير من المتون الروائية، على الرغم من كون الرواية الجديدة لها مفاهيمها الخاصة ومسالكها الجمالية وإيقاعها الفني المؤثر في اللغة والشكل على حد سواء.

يأخذ الشكل عند العروي بعدا مركزيا، لذلك تطالعنا رواياته من صلب الواقع لكنها لا تصور الواقع. هذه المفارقة العجيبة نابعة من فرط التفكير في الواقع وضرورة تخليص مفهوم الشكل من أي واقعية قد تعيق عنصر الحكي والتخييل. إن نموذج الواقعية يجسده بصورة كبيرة الروائي نجيب محفوظ الذي وإن كان متشبعا بمختلف أنماط الكتابة السردية الغربية، فإنه ظل حريصا على أن تكون رواياته خاضعة لرؤية واقعية يرى أنها تتماشى مع طبيعة المجتمع المصري الذي عاش فيه. على هذا الأساس، يطالعنا الشكل الروائي عند العروي باعتباره زئبقيا، نزقا، متشظيا لا ينظر إلى الزمن الواقعي بكرونولوجية سردية مملة، بقدر ما يحاول إبداع زمنه الخاص الذي به يعيد نسج الحكاية ويضبط إيقاعها الجمالي ومتوالياتها السردية.

غلاف "معذبتي"

بهذه الطريقة فكر في الرواية وبها أعاد تملك تاريخ الفرد والتعبير عنه بطلاقة على أساس أن الفرد مجرد حلقة صغيرة من حلقات تاريخ المجتمع. فإذا كان التاريخ عند بنسالم حميش وموليم العروسي يحضر على أساس أنه خلفية مركزية في صناعة العنصر السردي، فهو يغدو عند صاحب "مفهوم الحرية" مجرد فكرة تربط فكرة التقدم بحرق المراحل لبلوغ الحداثة واستئناف الحاضر والمستقبل معا.

تخييل التاريخ

منذ سنوات ترك المفكر بنسالم حميش مجال الفكر واتجه مباشرة صوب كتابة الرواية، فأصبح أحد الأقلام البارزة في جنس الرواية وحصل بموجبها على جوائز عربية معتبرة. اختيار حميش للرواية لم يكن وليد المصادفة، بقدر ما جاء انطلاقا من رغبته في تطويع الذاكرة وإعادة كتابتها انطلاقا من ذاته. لم يذهب صاحب "مجنون الحكم" صوب الرواية بسبب حظوتها الرمزية، بل من خلال ايمانه القوي بأن هذا الجنس الأدبي يمتلك من الخصائص الفنية والميكانيزمات الجمالية، ما يجعل الكتاب يجربون الرواية وعوالمها التخييلية بكيفيات مختلفة من الإبداع. لقد أعطى صاحب "معهم حيث هم" أولوية كبيرة لموضوع التاريخ، فعمل في مجمل ما كتب من روايات من قبيل: "مجنون الحكم" و"هذا الأندلسي" و"من ذكر وأنثى" و"العلامة" على إعطاء مفهوم التاريخ بعدا مركزيا في صياغة المتن الروائي. بل يكاد يكون الاشتغال على التاريخ هوسيا، وعيا منه بنوعية هذا المفهوم / البراديغم ومكانته الاعتبارية في سيرة الشعوب العربية.

يضعنا حميش أمام مقاربة جديدة في تناول النص الروائي، فهو ليس مجرد وسيلة تعبيرية، بل مادة قابلة إلى أن تغدو مطية لطرح أسئلة فكرية

في رواية "العلامة" التي تعد أشهر نص روائي له، استعاد حميش بطريقة مذهلة سيرة العلامة والمؤرخ ابن خلدون وحاول عبر سيرته في العلم والسياسة والحياة بناء أفق تخييلي لهذه الشخصية المؤثرة بنصوصها منذ القرن الـ 13 الميلادي. فحين صدرت الرواية حركت الكثير من الأهواء وهذا أمر عادي بالنسبة إلى كتاب يتناول سيرة رجل في حجم ابن خلدون الذي ما زالت أطروحاته العلمية تعيش نوعا من "المضاربة الفكرية" بين الأكاديميين، انطلاقا مما أسس له من "علم العمران البشري" الذي "يعتقد" أنه يعود فيه الفضل لصاحب "المقدمة" في تأسيس ما يعرف حاليا بعلم الاجتماع. غير أن النقد الذي قوبلت به الرواية لا يرتبط بهذا الأمر فقط، وإنها بثنائية الواقعي والأدبي والتاريخي والتخييلي، إذ اعتقد القارئ أن الرواية لم تقم بتأريخ دقيق لسيرة ابن خلدون كما هي على أرض الواقع. مع العلم أن الروائي غير مطالب بالمرة بوضع "تأريخ" لحياة أي شخصية أو تدوين علمي لواقع ما، بل هدفه الأساس يرتكز على تقديم "التخييل" وليس "المعرفة". اجتهد حميش في وضع سيرة لابن خلدون وفق آليات تخييلية ولغة شعرية رصينة لا تقف عند سطح المعجم الأدبي وبلاغته، ولكنها تحاول أن تحفر عميقا في بنيته المجازية. لذلك نجح سواء من خلال هذه الرواية أو عبر "هذا الأندلسي" أن يقارب موضوعات تاريخية بنبرة أدبية ترتكز على السرد وتبني عوالمها الواقعية، انطلاقا من مفهوم التخييل الروائي. ففي هذا النص يضع حميش سردا روائيا تخييليا لا يهتم بالواقع التاريخي، بقدر ما يتعامل مع عنصر السيرة من زاوية كونها مادة قابلة للتحوير والتخييل وفق آليات سردية متباينة.

ما يحسب لصاحب "معذبتي" أنه أعاد الاعتبار إلى علاقة الرواية بالتاريخ وساهم إلى حد كبير من خلال جنس الرواية في تسليط الضوء على الموروث التاريخي والاشتغال عليه على أساس أنه مادة تاريخية. لذلك، يضعنا حميش أمام مقاربة جديدة في تناول النص الروائي، فهو ليس مجرد وسيلة تعبيرية، بل مادة قابلة إلى أن تغدو مطية لطرح أسئلة فكرية. حين نقرأ روايات بنسالم حميش، نفهم أن داخل الرواية التي تعنى بالتاريخ العربي قديمه وحديثه، ثمة نوعين. الأول رواية تاريخية تحاكي كتابة وتخييلا النص التاريخي / الواقعي، والثاني عبارة عن روايات تحتضن التاريخ وتتعامل معه إما على شكل سردية تاريخية (الموضوع) أو بوصفه تقنية من تقنيات السرد التاريخي. وعلى الرغم من إيمان الثقافة العربية بأهمية الكتابة الروائية لنظيرتها التاريخية، بحيث أنها تستطيع أن تغدو مصدرا هاما من مصادر كتابتها، فإن واقع البحث التاريخي لا يعكس هذا الأمر. وفق هذا الواقع العلمي المتناقض يسعى حميش إلى بلورة معرفة فكرية داخل القالب الروائي، فيحرص في كل عمل روائي له على طرق باب التاريخ وتفكيك أوصاله وكشف بعض ملامحه وأسراره وخفاياه. وبالتالي، فإن استعادة الواقع التاريخي في المشروع الروائي عند بنسالم حميش، يبدو بارزا وأصيلا، سواء على مستوى الكتابة أو التخييل. فهو يمنحنا وبكيفية علمية وآلية منهجية، إعادة قراءة التاريخ والإيمان بقوته الوجودية وزخمه التحرري. على هذا الأساس، ثمة الكثير مما يستحق الانتباه في سيرته الروائية التي تظل دائما تهجس بالتجريب وتقوم على مفارقة فكرية أصيلة بين التاريخي والتخييلي.

font change

مقالات ذات صلة