الإسباني رييرا أراغو الذي يستخرج من الصخب صمتا

معرض في لندن يستحضر أوديسة هوميروس

الفنان رييرا إي أراغو

الإسباني رييرا أراغو الذي يستخرج من الصخب صمتا

حين خرجت من معرض الفنان الإسباني رييرا إي أراغو كنت كمَن عاد من رحلة بالطائرة لم ير فيها سوى الفضاء على الرغم من أن هناك لوحات كانت احتوت على قوارب في أسفلها كما أن هناك لوحات أخرى ظهرت فيها أجزاء من مراوح هوائية بدت بقيا لأثر حركتها. الأشياء القليلة التي لم يستطع الرسام إخفاءها كانت أشبه بالرموز التي تنطوي على قوة سحرية. ولأن المعرض حمل "الأدويسة الخالدة" عنوانا له، فإن الإحالة على القصيدة المنسوبة إلى هوميروس لا بد أن تلزمنا برؤية شعرية يغلب فيها الشغف بخيال الرحلة على التفكير في إمكان وقوعها في عالم ما بعد حرب طروادة بلغة القرن الثامن أو السابع قبل الميلاد الإغريقية.

الصرامة في لوحات أراغو هي الأساس، فهو فنان لا تسليه العاطفة الباذخة. رحلته التي قام بها من خلال تماهيه مع رحلة أوديسيوس، فيها من الكثافة التأملية ما يجعلها أشبه برحلة عبر الزمن، وهو ما يغني عن الحاجة إلى الإستعانة بصور المفردات التي هي أدوات السفر.

يذهب الفنان الذي يقف في طليعة الفنانين الإسبان المعاصرين، إلى عالمه بطريقة يغلب عليها طابع السرد الشعري الذي يتخلى عن كل حمولة لغوية فائضة. فلكي يحصل على نتائج صافية، لا بد من أن تكون لغته خالية من الشوائب، وهذا ما فعله أراغو وهو يمضي في رحلته المعاصرة بحثا عن أثر أوديسيوس عبر الزمن.

التجريد بمزاج إسباني

على الرغم من أن رييرا إي أراغو استعمل في لوحاته مفردات أو أجزاء من مفردات مستعارة من عالم السفر والحركة، فإن فنه لا يُعتبر تشخيصيا. المساحة الكبيرة التي يحتلها الفراغ في لوحاته، تجعله قريبا من التجريد. كان من الممكن أن يقوده اعجابه بالنحت، إلى أن يكون شبيها بالأميركي ألكسدنر كالدر، لكن علاقته بالحركة يغلب عليها الطابع التأملي. فهناك ايحاء بالحركة وسط سكون مطلق. لا يزال ينتج منحوتات (ضم المعرض عددا منها)، غير أنها تبدو مستعارة من لوحاته، في هذا المعرض بشكل خاص. ولا أعتقد أن تأثيرها البصري سيكون كبيرا إذا ما عُرضت وحدها.

لكي يحصل على نتائج صافية لا بد من أن تكون لغته خالية من الشوائب، وهذا ما فعله أراغو وهو يمضي في رحلته المعاصرة بحثا عن أثر أوديسيوس

الفنان الذي ولد في برشلونة عام 1954، كرس جزءا مهما من تجربته الفنية للنحت. عُرضت منحوتاته في أماكن عامة في بلده وأوستراليا وبلجيكا واليابان، وأخيرا هذا المعرض الذي تقيمه قاعة "بلو رايدر" أو "الفارس الأزرق" الواقعة في منطقة "ماي فير" بلندن، وهي قاعة صينية المنشأ يدخل في صميم اهتماماتها بالروحانية في الفن كما عبر عنها مخترعها الروسي فاسيلي كاندنسكي.

  Bluerider ART
"الأوديسة الخالدة"

ينتمي رييرا إي أراغو إلى ذلك المفهوم وهو تجريدي، لكن بأسلوبه الشخصي. وإذا ما كان هناك تجريد بارد، فإن فن أراغو ينتمي إلى ما يمكن تسميته بالتجريد الحار. وهو على العموم لا يفارق المزاج الإسباني، وهو مزاج حار في تعامله مع المواد واستعماله التقنيات. غير أن لعبة هذا الفنان الماكرة في استحضار مفردات عالمه ومن ثم التخلي عنها، صنعت خصوصيته وجعلته يقف وحيدا في عزلته. رييرا إي أراغو، يشبه إلى حد كبير لوحاته. في كثير من لوحاته، هناك سؤال يتعلق بجدوى تلك المفردات التي كان في إمكانه الاستغناء عنها، لكن الفنان كان ذكيا حين أبقى تلك المفردات التي لا تتعارض مع ميله إلى التجريد.

  Bluerider ART
"الأوديسة الخالدة"

من الفلك إلى التبقيع

يقول رييرا إي أراغو: "في الرسم اليومي وفي تدوين أفكاري، تأتي اللحظات الحاسمة وتصبح يدي أكثر من مجرد أداة عقلية". ما بين شغفه بعلم الفلك الذي بدأ أثناء إقامته في غرناطة، وبين تعرفه الى فن بول كلي، ومن ثم ذهابه إلى اليابان، أدرك أن لحظته الشخصية تقع في الاقتضاب الشعري. تلك لحظة كان الشاعر والرسام الفرنسي هنري ميشو قبض عليها من خلال أسلوبه التبقيعي بالحبر الصيني. عرف أراغو أنه ستكون لديه حصة من ذلك المشهد، لكن من غير أن ينتمي اليه. فهو ابن المدرسة الإسبانية الحديثة التي لا يزال انتوني تابيس سيدها. ولكنه لن يكون تابعا لتابيس لا بمواده ولا تقنياته، والأهم أنه لن يفكر بطريقته.

على الرغم من حياديته وخلوه من العاطفة، فإن عالم أراغو مشحون بتعبيرية، يكمن أساسها في التماهي مع العزلة الخلاقة

لم يقده انهماكه في تأمل الآلات والمحركات الميكانيكية، الجوية والمائية، كالطائرات والغواصات وقوارب الصيد، إلى عالم علمي جاف، بل فتح أمامه أبواب عالم، فيه من قوة الشعر ما يلهم الكثير من الرقة غير المتوقعة. كأن المشاهد يتلقى رشقات من الهواء العذب الذي يتدفق من الحركة المتخيلة لتلك الآلات. في معرضه الذي أقامه عام 2012 في متحف الفن الحديث بنيويورك (موما)، عرض 200 غواصة صغيرة في مياه الحوض الخارجي للمتحف. أما في معرضه الحالي فإنه يركز على قوارب الصيد التي على الرغم من صغر المساحة التي تحتلها على سطح اللوحات، فإن تأملها يهب المرء شعورا غامضا بالعزلة والسكون والطمأنينة يتخطى زمن النظر المباشر إلى ما بعده. تبدو تلك القوارب كأن خيال الفنان استدرجها من عالم الحكايات المبثوثة على الشواطئ.

  Bluerider ART
"الأوديسة الخالدة"

شذرات شعرية

الكثير من الكلام في تلك المشاهد الصامتة، الكثير من الحركة في ذلك السكون. ليس هناك أي تناقض. تلك قناعة تزيد متعة تأمل فضاءات اجتهد رييرا إي أراغو في تكريس قوة الإيحاء المنبعثة من داخلها. أحيانا يشعر المرء أن الفراغ في لوحة ما، هو مجرد محاولة لزيادة مساحتها. لدى هذا الفنان تكمن أهمية ما نراه في الفراغ الممتلئ. من غير ذلك الفراغ لا تحمل المفردات المرسومة أي قدرة على الإلهام البصري. تكتسب تلك المفردات رقة تأثيرها من الفراغ الذي يحيطها بغموضه. وعلى الرغم من حياديته وخلوه من العاطفة، فإن عالم رييرا إي أراغو مشحون بتعبيرية، يكمن أساسها في التماهي مع العزلة الخلاقة. عزلة المرء في مواجهة البحر في هذا المعرض، تذكر بعزلة الفنان في عالمه. وإذا ما كان الفراغ في ظاهره المادي يجسد كيانا بصريا، فإنه في دلالته الروحية يمثل قوة إلهام استثنائي. ذلك ما يشير إلى أهمية معالجة الفنان لنظرية كاندنسكي في الروحانية في الفن بطريقته الخاصة المشبعة بلذائد شعرية هي أشبه بالشذرات.                 

font change