شهدت صناديق الثروة السيادية في الخليج العربي نموا كبيرا في السنوات القليلة المنصرمة، ولم تصبح فاعلة وقادرة على تحقيق التوسع والتنوع الاقتصادي فحسب، وإنما على إقامة العلاقات وتعزيز نفوذ دول الخليج على الصعيدين الإقليمي والعالمي أيضا.
خلافا لكثير من الأسواق الناشئة التي تضررت عندما اندلعت الحرب الأوكرانية في فبراير/شباط 2022، فإن دول الخليج الغنية بالموارد الهيدروكربونية استفادت كثيرا من الارتفاعات الشديدة اللاحقة في أسعار الطاقة، إذ تجاوز سعر برميل النفط 100 دولار في بعض الأحيان.
ذهب جانب كبير من تلك الإيرادات الضخمة، التي تراجعت لاحقا بعد انخفاض أسعار الطاقة، إلى صناديق الثروة السيادية للدول الخليجية، مما عزز مكانتها بوصفها ركائز أساسية لطموحات حكوماتها الإستراتيجية، على الصعيد المحلي وخارج الحدود.
تشكل صناديق الثروة السيادية في السعودية والإمارات وقطر والكويت الغالبية العظمى من قيمتها المجمعة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تبلغ قيمتها 5,377 تريليونات دولار
"غلوبال إس. دبليو. إف."
وتعد صناديق الثروة السيادية في المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر والكويت أبرز الأدوات الاستثمارية الخليجية. وتشكل معا الغالبية العظمى من القيمة المجمعة لصناديق الثروة السيادية في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي تبلغ قيمتها 5,377 تريليونات دولار، وفقا لبيانات "غلوبال إس. دبليو. إف.".
ثمة بعض الخطوط العريضة المتماثلة لدى صناديق الثروة السيادية الخليجية، حيث تشترك في مجالات الاهتمام الرئيسة مثل الخدمات اللوجستية والذكاء الاصطناعي والمعادن الثمينة. لكن عند التدقيق، يتبين أن استراتيجيات كل منها مصممة لتتوافق مع الأهداف الوطنية المختلفة الأوسع نطاقا.
صندوق الاستثمارات العامة: الأولوية لـ"رؤية 2030"
يقوم صندوق الاستثمارات العامة السعودي بدور رئيس في دعم "رؤية المملكة 2030". وتهدف الخطة الوطنية إلى خفض اعتماد الاقتصاد على النفط الذي يستأثر حاليا بنحو 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. ويتطلب تحقيق هذا الهدف استثمارات ضخمة في جميع قطاعات الأعمال الرئيسة.
ويشير الموقع الإلكتروني للصندوق إلى أن قيمته 925 مليار دولار، ويضم 96 شركة تعمل في 14 قطاعا مختلفا، بما في ذلك العقارات والسيارات والتعدين والطاقة المتجددة والتكنولوجيا والنقل والخدمات اللوجستية.
محافظ صندوق الاستثمارت العامة السعودي ياسر الرميان، في مؤتمر مبادرة المستقبل، الرياض 21 يناير2021
وتشمل محفظة الاستثمارات الدولية لصندوق الاستثمارات العامة حصصا في شركات متعددة الجنسيات، بما في ذلك "أوبر"، مزود خدمات نقل الركاب الأكثر شهرة في العالم، وشركة الاستثمار الكبرى "بلاكستون".
تشكل الطموحات الاقتصادية السعودية أولى أولويات الصندوق، ويوجد أكثر من 70 في المئة من استثماراته داخل المملكة، من ضمنها "نيوم" المدينة المستقبلية، و"القدية"، عاصمة الترفيه المستقبلية، ومشروع البحر الأحمر السياحي الضخم. كما يدعم أحداث ضخمة مثل 'إكسبو 2030' وكأس العالم 2034
تقديرات أسعار النفط
وبحسب الصندوق، فإن استثماراته في المملكة العربية السعودية من المقرر أن تصل إلى 70 مليار دولار في السنوات الخمس المقبلة، ارتفاعا من إنفاق سنوي يتراوح بين 40 و50 مليار دولار، وهو توسع محلي من المرجح أن يكون على حساب مساعي الصندوق الدولية.
يملك الصندوق الذي تبلغ قيمته 925 مليار دولار، 96 شركة تعمل في 14 قطاعا مختلفا، بما في ذلك العقارات والسيارات والتعدين والطاقة المتجددة والتكنولوجيا والنقل والخدمات اللوجستية
صندوق الاستثمارات العامة السعودي
ووفقا للتقديرات، يفترض أن تكون أسعار النفط قريبة من مستوى 100 دولار للبرميل لتتمكن السعودية من الحفاظ على استثماراتها بيسر وتمويل المشاريع الضخمة العديدة. ويتراوح السعر حاليا في حدود 65 دولارا للبرميل.
وكانت منظمة "أوبك بلس" قررت في الشهر الجاري زيادة الإنتاج المقررة في أبريل/نيسان بمقدار 411 ألف برميل يوميا بدءا من الشهر المقبل، وهي زيادة مفاجئة كبيرة في العرض جاءت في وقت كانت فيه أسعار النفط منخفضة بالفعل.
وما لبثت أن اندلعت حرب تجارية عالمية غير متوقعة أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، شهدت فرض رسوم جمركية متبادلة بين الولايات المتحدة والصين من ثلاثة أرقام، لتتأجج المخاوف من حدوث تباطؤ اقتصادي وانخفاض أكبر في أسعار النفط.
تعزيز العلاقات السعودية الأميركية
في يناير/كانون الثاني المنصرم، قدر المركز الوطني لإدارة الدين احتياجات السعودية التمويلية في سنة 2025 بـ 139 مليار ريال (37 مليار دولار). وسجل عجز في الموازنة بنحو 57,7 مليار ريال في الربع الأخير من العام المنصرم.
على الصعيد الدولي، ستكون من المهمات الرئيسة لصندوق الاستثمارات العامة مساعدة المملكة على تعزيز علاقاتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة، وهي مقدمة لاتفاقية استراتيجية متوقعة تقترب الدولتان من عقدها.
تسعى الإمارات العربية المتحدة بقوة لتوسيع محفظتها الدولية في مختلف المجالات في كل أنحاء العالم. ويتجلى تفوقها بوضوح في أفريقيا، حيث تعد دولة الإمارات رابع أكبر مستثمر بعد أميركا والصين والاتحاد الأوروبي
في يناير/كانون الثاني الماضي، أبلغ ولي العهد السعودي، رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان الرئيس ترمب أنه يعتزم زيادة الاستثمار والتجارة مع الولايات المتحدة في السنوات الأربع المقبلة بمقدار 600 مليار دولار. ودعاه الرئيس الأميركي، الذي تجمعه علاقات ودية بولي العهد السعودي منذ ولايته الأولى، لاحقا إلى رفع هذا الرقم إلى تريليون دولار.
وتماشيا مع هذه التفاهمات ، قال ياسر الرميان، محافظ صندوق الاستثمارات العامة، في فبراير/شباط، إن الصندوق مستعد لتوجيه مزيد من استثماراته الخارجية إلى الولايات المتحدة، حيث يوجد بالفعل 40 في المئة من الأصول الدولية للصندوق، "ويمكن أن تصبح أكثر من ذلك بكثير"، كما قال في قمة "أولوية مبادرة مستقبل الاستثمار" في ميامي.
وفي الشهر التالي، وافقت "سكوبلي إنك"، وهي وحدة تابعة لمجموعة "سافي غيمز غروب" المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، ومقرها الولايات المتحدة، على الاستحواذ على قطاع الألعاب في شركة تطوير البرمجيات الأميركية "نيانتيك إنك"، بما في ذلك لعبة الهاتف المحمول الشهيرة "بوكيمون غو"، في مقابل 3,5 مليارات دولار. ومن المتوقع أن تلي ذلك صفقات مماثلة.
الإمارات: التوسع في أفريقيا
خلافا للمملكة العربية السعودية، تسعى الإمارات العربية المتحدة بقوة لتوسيع محفظتها الدولية في مختلف المجالات في جميع أنحاء العالم. ويتجلى تفوقها بوضوح في أفريقيا، حيث تعد دولة الإمارات رابع أكبر مستثمر بعد الولايات المتحدة والصين والاتحاد الأوروبي. وقد قلصت هذه الدول الثلاث مشاركتها في القارة، في حين أن لدولة الإمارات مصالح متعددة فيها.
في أبو ظبي تقود "القابضة" (ADQ)، التي تبلغ قيمتها 249 مليار دولار، استثمارات الإمارات في أفريقيا. وقد أبرمت في العام المنصرم صفقة ضخمة مع مصر بقيمة 35 مليار دولار للاستحواذ على حقوق تطوير منطقة "رأس الحكمة" المتميزة على ساحل البحر المتوسط.
وهذه الاتفاقية هي الأكبر من نوعها في تاريخ مصر، وبموجبها التزمت "القابضة" أيضا باستثمار 11 مليار دولار في المنطقة التي تبلغ مساحتها 170 مليون متر مربع، مكنت مصر من الحفاظ على قدرتها على الوفاء بالتزاماتها المالية وساعدت الحكومة في القضاء على السوق السوداء التي ازدهرت منذ الغزو الروسي لأوكرانيا.
مخطط لمشروع رأس الحكمة في الساحل الشمالي
وفي يناير/كانون الثاني، أعلنت "القابضة" عن إنشاء مشروع مشترك بقيمة 1,2 مليار دولار مع شركة "أوريون ريسورس"، ومقرها نيويورك، للاستثمار في التعدين والمعادن الأساسية، وهو مشروع يركز على أفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية. كما وسعت مجموعة "موانئ أبو ظبي"، التي تمتلك "القابضة" حصة الغالبية فيها، موطئ قدمها في أفريقيا في السنوات الثلاث الماضية باستثمارات تجاوزت 800 مليون دولار في قطاعات الملاحة البحرية والشحن البحري والموانئ والخدمات اللوجستية في مصر وجمهورية الكونغو وتنزانيا وأنغولا.
تبلغ قيمة صندوقي الثروة السيادية في قطر والكويت مجتمعة نحو 1.5 تريليون دولار. وعين كل منهما رئيسا جديدا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي
وهناك شركة أخرى تمتلكها "القابضة"، وهي "الظاهرة" التي تختص في زراعة الأعلاف الحيوانية والسلع الغذائية الأساسية وإنتاجها وتجارتها وإدارة سلسلة الإمداد في مراحلها كافة، وتعمل في الأسواق الأفريقية، بما في ذلك مصر وكينيا.
تحرص الإمارات على الحفاظ على موطئ قدم في شرق أفريقيا، وتقيم علاقات قوية مع كينيا منذ سنوات. وقد أتاح ذلك للدولة المثقلة بالديون الحصول على قرض بقيمة 1.5 مليار دولار في فبراير/شباط، كما تعهدت الإمارات للحكومة الكينية باستثمارات بقيمة 500 مليون دولار في العام المنصرم. وعلى العموم، تمتلك الإمارات صناديق ثروات سيادية متعددة تبلغ قيمتها مجتمعة أكثر من 2 تريليون دولار، وتلك قوة مالية كبيرة تستخدمها لتحقيق مكاسب مختلفة.ويعد جهاز أبوظبي للاستثمار، الذي تبلغ قيمته 1,11 تريليون دولار، أكبر صندوق ثروة سيادي في المنطقة ومن بين صناديق الثروة السيادية العشرة الأعلى قيمة في العالم. ويقود الجهاز وشركة مبادلة للاستثمار التي تبلغ قيمتها 330 مليار دولار، الاستثمارات الإماراتية في جميع أنحاء العالم.
قطر والكويت: عدم تحقيق الاستفادة الكاملة من أصولهما
تبلغ قيمة صندوقي الثروة السيادية في قطر والكويت مجتمعة نحو 1.5 تريليون دولار. وعلى الرغم من هذا المبلغ الهائل، يعد تأثير كلا الصندوقين، اللذين عين كل منهما رئيسا جديدا في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، متحفظا مقارنة بتأثير صندوقي الثروة السيادية في السعودية والإمارات.
متجر للمجوهرات والذهب في وسط الدوحة، 21 يناير 2025
على نحو صندوق الاستثمارات العامة السعودي، يرتبط جهاز قطر للاستثمار بأهداف رؤية قطر الوطنية 2030. وتبلغ قيمة محفظة الجهاز 510 مليارات دولار، وتشمل مجالات أقل، أبرزها التكنولوجيا والبنية التحتية والعقارات. وحقق جهاز قطر للاستثمار تقدما في أسواق أخرى، أبرزها إعلانه في فبراير/شباط اعتزامه استثمار 10 مليارات دولار في الهند وفتح مكتب في البلاد، في حين يعمل البلدان على تعزيز العلاقات بينهما.
تركز الهيئة العامة للاستثمار الكويتية أيضا على الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا، ويوجد أكثر من نصف استثماراتها في الولايات المتحدة. كما تمتلك أصولا في الاتحاد الأوروبي وآسيا وأسواق أجنبية أخرى.
وتتخلف الهيئة العامة للاستثمار حاليا عن صناديق الثروة السيادية الأخرى في الخليج، على الرغم من قيمة أصوله الهائلة التي تبلغ نحو 969 مليار دولار. ويرجع ذلك إلى التعقيدات السياسية المحلية التي أثرت سلبا على العافية المالية والقدرة على اتخاذ القرار في الكويت.