الشعر غير التعبير الشعري. والتعبير الشعري أعم من الكتابة الشعرية. والكتابة الشعرية قد تكون قصيدة أو غيرها.
وفن الشعر هو فن تأليفه، والشاعر المؤلف هو مؤلف القصائد. وأما الأقوال الشعرية المتناثرة، أو العبارات الموحية، التي قد تسير في الناس وتعْبر الأزمنة، فليست محدودة بفن الشعر، وإنما قد تكون خارجه، في حقول الفلسفة والعِلم والتأريخ والأمثال الشعبية... وغيرها.
إذن، يمكن للشعر أن يكون خارج القصائد. والقصيدة لا يكفيها، لكي تكون ناجحة، أن تنطوي على نظامها الخاص. لا يكفيها، لكي تكون ناجحة، أن تكون مبنية أو محكمة أو متماسكة... أو ما أشبه ذلك. فرب قصيدة تكاد تكون خالية من الشعر.
مهمة الشاعر الفنية ليست بسيطة. إنها مهمة مركبة. وليس للنجاح فيها معيار واحد. وإنما له معايير أو مقتضيات متعددة.
وإذا قيل: لماذا القصيدة؟ لماذا لا يكون البحث عن الشعر هو المطلوب دون الاهتمام بالبناء الشعري، أي بإنشاء القصيدة؟ بل لماذا لا تكون الكتابة الشعرية حرة إلى أبعد الحدود، أو بالأحرى إلى أبعد من كل الحدود التي تقتضيها القصيدة، أو يقتضيها فن تأليفها؟ إذا قيل هذا أو مثلُه، أمكن الرد عليه بأنه تفريط بفن الشعر، أي خروج من حقل هذا الفن.
والشاعر الشاعر ينفر من النظام بقدْر ما يلتذ بتحقيقه في القصيدة. فالشاعر (كالشعر) لا يستقر. ينزع دائما إلى ابتكار أشكال جديدة، إلى أبنية فنية جديدة، إلى قصائد جديدة. فهو في عمله، من قصيدة إلى قصيدة، يتنقل بين الأشكال والأبنية وحتى الأساليب. فالأسلوب الذي هو الأكثر تعبيرا عن شخصية الشاعر (إذ الشخص هو أسلوبه، بحسب الأسلوبيين) من شأنه أن يتغير أو يتطور أو ينضج.
ويخطئ الذين يظنون أن شعرنا العربي في تاريخه الطويل، ما قبلَ الحداثة الشعرية المعاصرة، لم يشْهد تغييرات (بل ثورات) في تأليف القصائد. الأصح أنه عرف الكثير من التحولات التي أدت إلى ابتكار أشكال أو أبنية فنية، ولكن في داخل النظام العام للقصيدة الذي سُمي "عمود الشعر"، وجعل القصيدة تسمى "عمودية".
إنه نظام ذو أساس عروضي. فهو نظام البيت الذي يتألف من شطريْن لكل واحد منهما تشكيل عروضي يتكرر في جميع شطور القصيدة، التي تنتهي أبياتها بقافية موحدة. ولكن، كل تغيير لغوي أو بلاغي أو معنوي أو صوتي داخل الهيكل العروضي للقصيدة، من شأنه أن يحْدث تغييرا يُنتج شكلَ القصيدة، أو بالأحرى نظامَها الخاص. هكذا تكون القصائد (العمودية) قد اتكأت على نظام عام في اتخاذها أشكالَها الخاصة، إذْ لكل قصيدة شكلها.
القصيدة، موزونة كانت أو غير موزونة، نجاحها يكمن في نوعية العلاقات التي تقوم بين مكوناتها المتعددة، اللغوية منها والبلاغية والموسيقية والبنائية
إذن، في داخل النظام العمودي للقصيدة، قامت في تراثنا الشعري تحولات كبرى كثيرة، من روادها في العصور العباسية بشار بن برد وأبو نواس وأبو تمام وابن المعتز وأبو العتاهية والمتنبي وأبو العلاء... وغيرهم.
في حداثتنا الشعرية المعاصرة، أتت محاولات التجديد من خارج نظام البيت. بل كانت هذه المحاولات، في جانب منها، ثورة على ذاك النظام. وبعض هذه المحاولات أطاح بمفهوم القصيدة، ودفع في اتجاه التخلي عن كل نظام في الكتابة الشعرية.
إزاء ذلك، كيف نرى ما كُتب ويُكتب من شعرنا الحديث؟ وماذا تبقى من مقاييس للتمييز بين الناجح منه وغير الناجح؟
ربما يكون التمسك بالقصيدة تعزيزا لفن الشعر، لفن تأليفه أو كتابته. وفي هذا ما يدعو إلى تطوير مفهوم القصيدة، بل ربما إلى اجتراح مفاهيم لها. وعند ذلك يكون البحث عن القصيدة الناجحة واحدا من أنجع السبُل للبحث عن الشعر.
إنها القصيدة، موزونة كانت أو غير موزونة، نجاحها يكمن في نوعية العلاقات التي تقوم بين مكوناتها المتعددة، اللغوية منها والبلاغية والموسيقية والبنائية... إلخ. نجاحها إذن يكمن في نوعية النظام الخاص بها. وكلمة "نوعية" هنا لها أهمية جوهرية، لأنها تشير إلى ضرورة الجِدة للقصيدة الناجحة، أي إلى رؤية جديدة فيها، من شأنها أن تفتح أفقا جديدا. فالمعاني والأفكار والتصورات والمواقف... وما إلى ذلك، تشكل مكونا أساسيا من مكونات النظام الخاص بالقصيدة.
هل نلاحظ أخيرا أن كتابنا، على اختلاف اتجاهاتهم، يتشبثون بالقصيدة في وصف كتاباتهم: القصيدة العمودية، قصيدة التفعيلة، قصيدة النثر... إلخ.