جون بورتيلي يتحدث لـ"المجلة" عن الشعر وفلسطين والفلسفة والسياسة

أعماله تستكشف قضايا الهوية والعدالة الاجتماعية وتجربة الهجرة

جون ب. بورتيلي

جون بورتيلي يتحدث لـ"المجلة" عن الشعر وفلسطين والفلسفة والسياسة

يؤمن الكاتب والشاعر والفيلسوف المالطي المقيم في كندا جون ب. بورتيلي بضرورة النضال من أجل القضية الفلسطينة ضد التحيز الغربي. ولد في مالطا عام 1954، وحصل على بكالوريوس في الفلسفة والدراسات المالطية عام 1975، ثم ماجستير ودكتوراه من جامعة ماكغيل.

يستكشف بورتيلي من خلال أعماله الأدبية قضايا الهوية والعدالة الاجتماعية وتجربة الهجرة. صدرت له رواية واحدة هي "الجميع إلا فائزة"، ودواوين شعرية من بينها "كنت هنا"، و"لن أصمت: قصائد لفلسطين"، و"حصاد الخشخاش" و"الظل: قصائد لأطفال غزة". ترجمت أعماله إلى لغات عدة من بينها العربية والتركية والرومانية والإيطالية.

  • تبدي في أعمالك اهتماما بالغا بالمأساة الفلسطينية، ولا سيما في كتابك "لن أصمت: قصائد لفلسطين". متى بدأت العمل على هذا المشروع؟

بدأت العمل على هذا المشروع في أوائل ديسمبر/ كانون الأول 2024. وهو بمثابة تكملة لمجموعتين شعريتين نشرتهما في عام 2024، "حصاد الخشخاش" و"الظل: قصائد لأطفال غزة". كانت الأولى عبارة عن مجموعة قصائد باللغة المالطية كتبها 40 مؤلفا مالطيا لدعم غزة. والثانية مجموعة قصائد كتبها أحمد مقداد، وهو شاعر من غزة، وأنا. كتبت هذه القصائد خلال الغزو اللاإنساني الأخير لغزة، وتبرعنا بعوائد مبيعات الكتب لغزة. يتكون الديوان الشعري الأخير من قصائد كتبها 50 مؤلفا عالميا كتبوا من أجل دعم فلسطين. وبصفتي فيلسوفا / شاعرا يؤمن بالعدالة الاجتماعية وحقوق الإنسان، فإن هذه الأعمال تعني لي الكثير. إن الغرب عموما متحيز ضد العالم العربي، وخاصة ضد فلسطين، دون أن يكون على دراية بالتفاصيل التاريخية المهمة. لا أستطيع أن أكون فيلسوفا يتأثر بشدة بالظلم وأبقى متفرجا عندما أرى إبادة جماعية تحدث. علينا جميعا واجب أخلاقي لتصحيح الأمور.

محمود درويش والنزوح

  • تستهل كتابيك الأخيرين "لن صامت" و"كنت هنا"، بأبيات من شعر محمود درويش. كيف تصف علاقتك بشعره؟

محمود درويش أحد أعظم الكتاب الذين قرأتهم. وما زلت أعيد قراءة أعماله الرائعة. إنه مثل ساطع على ما ينبغي أن يكتب عنه الأدباء. لا يمكن فصل الأدب عن الحياة اليومية للناس، التي تضمنت في حالته احتلالا ونفيا. شعريته قوية جدا وتصل إلى قلوب الناس بشكل لا يصدق. استعاراته رائعة. زرت الضفة الغربية مرتين، وخلالهما تطوعت هناك. وفي كلتا المناسبتين، زرت قبره حيث صليت وقرأت أعماله بصمت. مع أنني أقرأ أعماله غالبا مترجمة إلى الإنكليزية، إلا أنني أملك معرفة كافية باللغة العربية لأستمع بقصائده.

لا أستطيع أن أكون فيلسوفا يتأثر بشدة بالظلم وأبقى متفرجا عندما أرى إبادة جماعية تحدث

  •  تستكشف مجموعتك الشعرية "كنت هنا" موضوعي النزوح والوحدة. ما الذي ألهمك تناول هذا الموضوع، وكيف يرتبط بتجاربك الشخصية؟

بالفعل تتناول هذه المجموعة الشعرية موضوع النزوح. في القسم الأول مجموعة مختارة من القصائد التي كتبتها خلال زياراتي لفلسطين، حيث استمعت مباشرة إلى العديد من سرديات النزوح والنفي. يتناول العديد من القصائد الأخرى في هذه المجموعة موضوع الهجرة، الذي يعد موضوعا رئيسا في أعمالي الأدبية. منذ أن كنت في الخامسة عشرة من عمري، رغبت في مغادرة مالطا. في عام 1977، وفي سن الثالثة والعشرين، حصلت على منحة دراسية وذهبت لدراسة الفلسفة في جامعة ماكغيل في مونتريال. الآن وقد بلغت الحادية والسبعين من عمري، أرى العالم بشكل مختلف. لست نادما على مغادرتي. لكنني الآن أمضي معظم وقتي في مالطا. من الواضح، نظرا لتجربتي في العيش في كندا، ونظرا لأسفاري الواسعة، يجب أن أكتب عن الهجرة والنزوح. لست متأكدا من "الوحدة". يعتمد الأمر على ما نقصده بالوحدة. لكن من المؤكد أنني أناقش موضوع الهوية. كوني قادما من مالطا، عند ملتقى البحر الأبيض المتوسط، ومولودا في بلد استُعمر طويلا (أرى أنه الآن مستعمر من الاتحاد الأوروبي)، فإن مسألة الهوية تطرح نفسها بشكل طبيعي.

الذاكرة والحب

  •  روايتك "الجميع إلا فايزة" تتناول مواضيع الهجرة والذاكرة والحب والمنفى. ما الذي ألهمك كتابة هذه القصة؟

استلهمت الرواية من القصص المؤلمة العديدة للمهاجرين التي عرفتها خلال إقامتي في كندا لمدة 47 عاما. تصور الرواية العديد من المشاكل التي واجهها المهاجرون وما زالوا يواجهونها في كندا. وفي الوقت نفسه، تجسد الرواية توترات الحب، والسلطوية الأبوية، وصراع الأجيال، كل ذلك في إطار عالم مبني على أسس اجتماعية. كما تناقش  الرواية صراع حقوق المرأة في مجتمع مهاجر أبوي. وبينما تتناول الرواية عائلتين مهاجرتين مالطيتين في تورنتو، فإن سرديات الشخصيات الرئيسة الثماني تتقاطع مع ثقافات وأعراق مختلفة.

مع أن كندا معروفة بتعدديتها الثقافية، إلا أن هناك مشاكل عنصرية خطيرة هناك

  •  يتناول العديد من أعمالك موضوعات النزوح والانتماء. كيف أثرت تجربتك الشخصية على كتاباتك؟

كما ذكرت سابقا، مع أنني غادرت مالطا في مرحلة مبكرة نسبيا من حياتي، ويرجع ذلك في الغالب إلى حفاظ وطني على طابعه المحلي، إلا أنني أدركت في النهاية وجود قضايا متشابهة، إن لم تكن متطابقة، في أماكن أخرى. لقد رأيت بنفسي العنصرية التي كانت ولا تزال موجودة في كندا، حتى في الأوساط الأكاديمية. مع أن كندا معروفة بتعدديتها الثقافية، إلا أن هناك مشاكل عنصرية خطيرة هناك، كما أظهرت التصريحات المتحيزة الأخيرة (حتى من السياسيين) تجاه الفلسطينيين. مع أنني رجل أوروبي وذو امتيازات، إلا أنني عانيت من آلام عدم الانتماء.

جون ب. بورتيلي

اللغة المالطية 

  •  إلى أي مدى تؤثر الفروق اللغوية والثقافية للغة المالطية على أسلوبك في السرد القصصي والتعبير الشعري؟

على الرغم من أن المالطية لغة سامية تنتمي إلى عائلة العربية والآرامية، إلا أنها تأثرت باللغات الرومانسية، بما في ذلك الصقلية في العصور الوسطى. ومع ذلك، فإن الصرف والنحو يظلان ساميين في المقام الأول. ومن الواضح أن هذا المزيج من المفردات والبنية السامية للمالطية أثر على كتابتي. في المناسبة، ولأسباب سياسية، أكتب معظم أعمالي الأدبية بالمالطية، ثم أترجمها بشكل احترافي إلى الإنكليزية ولغات أخرى. تتمتع المالطية بصوت جميل جدا للشعر، تماما مثل اللغة العربية. على سبيل المثل، فإن الاستخدام المتكرر لأداة الربط "و" في اللغات السامية، يساعد في إضفاء طابع موسيقي على اللغة. لا يفهم العديد من المترجمين الإنكليز استخدام "و"، ويجدونه غير ضروري. اللغة، كما يقول فيتغنشتاين، هي أسلوب حياة. حتى الجوانب التقنية المختلفة للغة، بالنسبة لي، تعكس أسلوب حياة معينا. بالنسبة إلي، تمثل اللغة المالطية، مثل العربية، الغنائية والعاطفة. أخصص كتابتي باللغة الإنكليزية للكتابة الأكاديمية التي أجدها اليوم مملة وجامدة. علي أن أكون صريحا، مع أن هذه العبارة الأخيرة قد تسيء إلى زملائي الأكاديميين.

البحر مثل رائع على الجدلية الوجودية التي نختبرها كبشر، بكل ما تحمله من توترات وشكوك

  •  تعرف باستخدام الاستعارات في شعرك، فما دور "الاستعارة" في أعمالك؟

- لا أدب بلا استعارات، وهي تلعب دورا محوريا في أعمالي، وخاصة في الشعر. وكما قالت ماري كاثرين باتيسون: "لا يمكن التفكير دون استعارات". بل يمكن القول أيضا: لا يمكن الشعور حقا دون استعارات. أستخدم العديد من الاستعارات من الطبيعة: البحر والجرف والعصافير والريح والأشجار والرمال والحصى، وغيرها. هذه استعارات من طفولتي في قرية دينغلي، أصغر قرية في مالطا آنذاك، على أعلى تل في الجزيرة، ذات المنحدرات الغامضة والمخيفة التي كنت أزورها كثيرا ليلا ونهارا. من المنحدرات المواجهة للغرب، يمكن رؤية البحر، لكن لم يكن الوصول إليه ممكنا. لكن الاستعارة الأكثر انتشارا بالنسبة إلي هي "البحر"، فهو يجسد كل شيء ولا شيء! يجسد السعادة والحزن، البداية والنهاية، الاضطراب والسلام، العاطفة والعقل. البحر مثل رائع على الجدلية الوجودية التي نختبرها كبشر، بكل ما تحمله من توترات وشكوك، وما إلى ذلك.

ازدواجية

  •  غالبا ما يناقش الأدب المالطي الازدواجية،  التي تعكس تاريخ الجزيرة المعقد. كيف تتجلى هذه الثنائية في أعمالك؟

في حالتي، الثنائية ذات طابع سيرة ذاتية أو شخصية. عندما كنت في الثامنة من عمري، انتقلت عائلتي من قرية كبيرة نسبيا إلى أصغر قرية في مالطا. شعرت باكتئاب شديد لاشتياقي الى أصدقائي ونمط الحياة في القرية الأكبر. ثم عندما بلغت الخامسة عشرة، بسبب رسوبي في جميع امتحاناتي، وصفت بـ"الشخص الجيد الذي يرمى في النار". أدركت ثنائية العادي والنخبوي. أتواصل مع العاديين أكثر، وما زلت أفعل، على الرغم من امتيازاتي. منذ ذلك الحين، اقتنعت بضرورة مغادرة الجزيرة. آمنت بأسطورة "حلم المهاجرين بحياة أفضل". سرعان ما أدركت أن حتى كندا لديها مشاكلها الخاصة. عشت ثنائية الغريب والمنتمي. حتى عندما حصلت على الجنسية الكندية، ظللت أشعر بالغربة. ثم في عام 1985، انتقلت إلى نوفا سكوشا حيث أدركت الثنائية في كندا بين مقاطعتي أونتاريو وكيبيك النخبويتين من جهة، والمقاطعات البحرية من جهة أخرى. وهنا شعرت بالغربة وبدأت أتوق إلى مالطا. عندما انتقلت إلى تورنتو عام 1999، شعرت براحة أكبر في وطني، بفضل الجالية المالطية بكنيستها ونواديها. ومع ذلك، كلما عشت في كندا أكثر، زاد شعوري بعدم الانتماء. لحسن الحظ، تمكنت منذ عام 2007 من السفر كثيرا بسبب العمل وعشت في مالطا بشكل متقطع. الآن وقد تقاعدت، أمضي معظم وقتي في مالطا التي أراها الآن بشكل مختلف تماما، وبشكل طبيعي.

كل شيء في هذا العالم سياسي، بمعنى أن كل ما نقوم به بشكل أو بآخر ينطوي على علاقة مع الآخرين والعالم

ومع ذلك، أشعر في كثير من الأحيان أنني أعيش بين هذا وذاك، وهي تجربة وجودية حاولت تجسيدها في مجموعتي الشعرية "بين الثنائيات" (2022). لدي أصدقاء لا يختبرون مثل هذه الثنائيات. أحسدهم، لأنه بينما يمكن أن تكون حياة الثنائيات مثيرة وملهمة، إلا أنها مؤلمة للغاية في بعض الأحيان. ربما أكون مثاليا أكثر من اللازم.

الأدب والفلسفة

  •  تتداخل أعمالك الأدبية باستمرار مع توجهاتك الأكاديمية. هل تشعر أن خلفيتك الفلسفية تضفي بعدا فريدا على سردك القصصي؟

بالتأكيد، مع أنني أعتقد أن دور الأدب ليس الوعظ الأخلاقي، إلا أن تجارب الكاتب بأكملها تؤثر حتما على كتابته. تفكيري الفلسفي ومشاعري جزء لا يتجزأ من تجاربي. لا شك أن كتاباتي الأدبية تحمل في طياتها جرعة قوية من الوجودية متأثرة بمؤلفين مثل كامو والطاهر بن جلون، وكذلك بآخرين مثل كيركيغارد وغبريال مارسيل. علاوة على ذلك، في جميع قصصي القصيرة، وأيضا في روايتي، هناك تحولات غير متوقعة تشير إلى عدم القدرة على التنبؤ بالحياة. أيضا، من حيث الأسلوب وخاصة في روايتي، فإنه يعكس نظرية معرفية ووجودية بنائية اجتماعية قائمة على مفهوم الجدلية، كما فهمها الفيلسوف البرازيلي باولو فريري. مرة أخرى، وتماشيا مع معتقداتي الفلسفية، يجد المرء في العديد من قصائدي توتر الحدية.

  •  غالبا ما تسلط أعمالك الضوء على معاناة الأصوات المهمشة وصمودها. هل تعتقد أن الأدب مسؤول عن معالجة القضايا الاجتماعية والسياسية؟

بالتأكيد، كل شيء في هذا العالم سياسي، بمعنى أن كل ما نقوم به بشكل أو بآخر ينطوي على علاقة مع الآخرين والعالم. السياسة ليست بالضرورة كلمة بذيئة كما يعتقد للأسف في الخطاب الشعبي في أميركا الشمالية. المسألة هي أي الأشكال قمعية، وأيها غير قمعية. يجب أن نهدف إلى الأخير. مرة أخرى، أكرر أن الأدب ليس المقصود منه الوعظ أو أن يكون بمثابة منصة لبيان حزب سياسي. ومع ذلك فإن الأدب سياسي لا محالة. تتعلق مشاعر الحياة اليومية بأنطولوجيا الحياة، ولا يمكن أن توجد الأنطولوجيا في سياق غير سياقي أو بيئة محايدة، والوجودية سياسية بامتياز. بعبارة أخرى، وكما قال إدوارد سعيد، الشعر هو في نهاية المطاف التعبير الشخصي عن سياسة القلب.

font change

مقالات ذات صلة