حرب السودان في عامها الثالث… نمط دموي مستمر

كيف تُقتل الإنسانية

مرصد شمال دارفور لحقوق الإنسان
مرصد شمال دارفور لحقوق الإنسان
الناس يفرون لإنقاذ حياتهم بعد أن هاجمت قوات الدعم السريع مخيم زمزم، مما أسفر عن مقتل 200 شخص على الأقل

حرب السودان في عامها الثالث… نمط دموي مستمر

نعت لجان مقاومة شمال دارفور زميلتهم، الدكتورة هنادي النور، التي قُتلت برصاص ميليشيا "قوات الدعم السريع"، عند اقتحام قواتها مخيم زمزم للنازحين، الواقع على بُعد 15 كيلومترا من مدينة الفاشر، عاصمة ولاية شمال دارفور.

كانت هنادي، ابنة أوائل العشرينات، قد تخرجت حديثا من كلية الطب قبيل اندلاع الحرب، لكنها اختارت البقاء في معية النازحين في زمزم، واختارت أن تصمد وتخدم، بدلا من البحث عن سبل الخلاص الفردي.

اختارت هنادي أن تكون "جميلة بوحريد السودان" لتعمل بين أهله الذين افترشوا مضارب النزوح في المخيم، تطبب الجرحى، وتداوي المرضى، وتدافع بجسدها عمن طحنتهم آلة الحرب، وتساعد النازحين الذين هجّرتهم جحافل "الدعم السريع"، وشرّدتهم من ديارهم.

رحلت هنادي عن عالمنا قبل يومين من دخول حرب السودان عامها الثالث، عندما اجتاحت ميليشيا "قوات الدعم السريع" مخيم زمزم للنازحين في يوم 13 أبريل/نيسان 2025. صمد مخيم زمزم لأكثر من عام، في وجه الحصار الوحشي الذي فرضته ميليشيا "قوات الدعم السريع" على الفاشر ومخيمات النازحين المحيطة به ومن ضمنها زمزم وأبو شوك. وأدى ذلك الحصار الخانق إلى مأساة إنسانية غير مسبوقة.

وقد تم إعلان المجاعة من المستوى الخامس (المستوى الكارثي) في مخيم زمزم في أغسطس/آب 2024، وأفادت تقارير المنظمات الدولية ومن بينها "أطباء بلا حدود" بأن طفلا واحدا على الأقل يقضي نحبه جراء الجوع والمرض كل ساعتين نتيجة لنقص الغذاء والدواء. بعد الخسائر المتتالية التي أصابت ميليشيا "قوات الدعم السريع"، ونجاح الجيش السوداني في السيطرةعلى العاصمة الخرطوم، كثفت الميليشيا وحلفاؤها هجماتهم على الفاشر وزمزم وأبو شوك وبقية المناطق التي ظلت صامدة خارج سيطرتها. وأدى ذلك إلى إعلان منظمة "أطباء بلا حدود" تعليق جميع أنشطتها في مخيم زمزم في 24 فبراير/شباط 2025، بسبب تصاعد العنف والهجمات المتكررة وحفاظا على سلامة طواقمها.

أُعلنت المجاعة من المستوى الكارثي في مخيم زمزم، وأفادت تقارير المنظمات الدولية ومن بينها "أطباء بلا حدود" بأن طفلا واحدا على الأقل يقضي نحبه جراء الجوع والمرض كل ساعتين بسبب نقص الغذاء والدواء

وبعد يومين، في 26 فبراير 2025، أعلن برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة تعليق أعماله في مخيم زمزم، نتيجة لتدهور الوضع الأمني وتصاعد القتال، وقام بإجلاء الموظفين من أجل سلامتهم. لم يبق من عمال الإغاثة الإنسانية في زمزم- والذي يؤوي حوالي مليون نازح من المدنيين الذين هجرتهم الحرب- غير منظمة "ريليف إنترناشيونال"،وثلة من المؤمنين بشعبهم وبقدسية الحياة مثل هنادي ورفاقها.

لكن لم يسلم أحدهم من بطش آلة العنف الهمجية التي أطلقتها ميليشيا "الدعم السريع" وحلفاؤها. وأعلنت "ريليف إنترناشيونال" أن الميليشيا قتلت تسعة من كوادر العناية الطبية بعد الاجتياح الدموي، في العيادة الأخيرة في المخيم والتي كانت تديرها المنظمة، ثم أعلنت جمعية الأطباء السودانيين الأميركيين عن مقتل أحمد محمد صالح سيدنا، والذي كان يدير مركز الأطفال الذي ترعاه الجمعية في المخيم على يدالميليشيا "الجنجويدية" التي اجتاحت المخيم. 

أعادت الصور والفيديوهات التي تسربت عن الهجوم الأخير في الفاشر ذكريات ما حدث في الإقليم أوائل الألفية. مشاهد جنود "الدعم السريع" على ظهور جيادهم وهم يطاردون النازحين الذين يحاولون الفرار من الجحيم، مشاهد حرق المخيم وشهادات القتل والاستهداف الإثني.

مع دخول الحرب في السودان عامها الثالث، يتجلى عجز العالم أمام المأساة في أبهى صوره: تواطؤ تزينه لغة دبلوماسية متخشبة، ومجاملات جوفاء لا تقوى على ملامسة الحقيقة المروعة لهذه الحرب. الحقيقة التي تقول إننا نشاهد واحدة من أفظع الكوارث الإنسانية التي صنعها الإنسان في القرن الحادي والعشرين.

أعادت الصور والفيديوهات التي تسربت عن الهجوم الأخير في الفاشر ذكريات ما حدث في الإقليم أوائل الألفية

شعار "إيقاف الحرب"

تحوّل شعار "إيقاف الحرب" إلى لافتة باهتة يرفعها بعض الساسة الذين يتوسلون شرعية من الخارج الدولي على ركام الوطن. راية مهترئة يحملها من يسعون لتجميل وجه الفاشية، والبحث عن معادلات لتقاسم السلطة عبر إضفاء الشرعية على آلة الاستبداد والنهب والاغتصاب والقتل الجماعي، فقط لأنهم يتطلعون لنصيب من سلطة عرجاء، أو خدمة لمصالح إقليمية ودولية لا ترى في السودان سوى رقعة نفوذ وأداة صراع.

أ.ف.ب
أشخاص فروا من مخيم زمزم للنازحين بعد سقوطه تحت سيطرة قوات الدعم السريع إلى مخيم مؤقت في منطقة دارفور غرب السودان في 13 أبريل

في ذروة هذا النزيف، عقدت بريطانيا مؤتمرا وزاريا لمناقشة الأزمة السودانية في يوم الذكرى الثانية لانفجارها، وهو مؤتمر بدا كعرض مسرحي ناقص، غاب عنه السودانيون أنفسهم: لا حضور رسميا يمثل الدولة، ولا صوت شعبيا يعكس صرخة الشعب الموجوع. لم تكترث الحكومة البريطانية للآلاف من أبناء وبنات السودان الذين احتشدوا غاضبين أمام مقر المؤتمر في لندن، رافعين أصواتهم بالرفض والاحتجاج. احتجوا على حضور دول ما تزال– حتى اللحظة– تموّل وتسند حملة الإرهاب الدموي التي تشنها ميليشيا "الدعم السريع" على أهلهم العزل في بلادهم.

وتتزامن الهجمات التي تشنها "قوات الدعم السريع" على الفاشر والمخيمات المحيطة بها، مع القصف المتواصل على المناطق المدنية، ومنع الإغاثة الإنسانية والغذاء والدواء من الوصول إلى أكثر من مليونين من المواطنين المدنيين المحاصرين لقرابة العام.

font change