قبل عامين من هذا الأسبوع (15 أبريل/نيسان)، اندلع في السودان نزاع لم يتوقع أحد أن يتصاعد بهذه السرعة أو أن يستمر طيلة هذه المدة. فما بدأ كصراع عنيف على السلطة تحوّل إلى واحدة من أسوأ الأزمات الإنسانية وأكثرها تجاهلا في عصرنا الحالي، وأغرق السودان في دوامة من الدمار، عنوانها النزوح الجماعي والجوع والعنف وتفشي الأمراض.
الأرقام صادمة بالفعل؛ إذ يحتاج أكثر من 30 مليون شخص إلى مساعدات إنسانية عاجلة. ويبلغ عدد النازحين أكثر من 15 مليون شخص، من بينهم نحو 11.3 مليون نازح داخل السودان، فيما فرَّ نحو 3.9 مليون شخص إلى الدول المجاورة، ما يجعلها أكبر أزمة نزوح في العالم. بالإضافة إلى ذلك، يعاني أكثر من 20 مليون شخص نقصا حادا في خدمات الرعاية الصحية.
خلف هذه الأرقام ملايين القصص الإنسانية: آباء وأمهات يخشون على حياة أطفالهم الذين يعانون من سوء التغذية الشديد، وعائلات محاصرة في مناطق لا تتوفر فيها الأغذية أو المياه النظيفة أو الرعاية الطبية. نساء ورجال وأطفال يفقدون حياتهم بسبب خطورة الوصول إلى المراكز الصحية، وجيل كامل من الأطفال يُحرم من تلقي اللقاحات الروتينية.
عندما زرت السودان في سبتمبر/أيلول الماضي، التقيت بسويدا، وهي طفلة ذكية تبلغ من العمر تسعة أعوام، هربت من مدينتها لتعيش في مخيم للنازحين في بورتسودان، حيث تدعم منظمة الصحة العالمية خدمات الرعاية الصحية الأولية. تركت سويدا وراءها كل شيء تعرفه، وأخبرتني بأنها لم تذهب إلى المدرسة منذ عامين كاملين.
وفي بورتسودان أيضا، تحدث زملاؤنا في منظمة الصحة العالمية مع أشوى، التي كانت تحمل طفلها الأصغر بينما يتلقى العلاج من سوء التغذية الحاد في أحد مراكز الاستقرار المدعومة من المنظمة. وقالت: “عندما توقف طفلي عن تناول الطعام والشراب والحركة، وبدأت تظهر انتفاخات في ذراعيه، أدركت أن حياته في خطر شديد. كنت أخشى أن أفقده، إلى أن وصلنا إلى هذا المستشفى، حيث يتلقى حليبا خاصا وأدوية. الآن بات قادرا على الحركة، واستأنف الرضاعة الطبيعية، بل إنه يبتسم أحيانا. لولا الرعاية التي يقدمها هذا المركز لكنت فقدته".
لم تكن استجابة منظمة الصحة العالمية لهذه الأزمة ممكنة لولا المساهمات السخية من شركاء مثل صندوق الأمم المتحدة المركزي للاستجابة للطوارئ، والوكالة اليابانية للتعاون الدولي، ومركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية
ومع ذلك، نادرا ما تصل مثل هذه القصص إلى العناوين الرئيسة، وهذا الصمت قاتل، إذ يولّد اللامبالاة التي تؤدي إلى خسائر بشرية إضافية.
لقد دمّرت الحرب النظام الصحي في السودان، خصوصا في المناطق التي يصعب الوصول إليها. ففي الولايات التي جرى تقييمها، تعمل 62 في المئة فقط من المرافق الصحية بشكل جزئي، في حين أن 32 في المئة منها خارج الخدمة تماما، مع غياب بيانات واضحة من مناطق أخرى معزولة مثل دارفور وكردفان. لم يعد المرضى قادرين على الحصول على أبسط أشكال العلاج، في ظل استمرار القتال والهجمات المتكررة على المرافق الصحية والعاملين في القطاع الصحي.
يشهد ثلثا ولايات السودان تفشي أكثر من ثلاثة أمراض في الوقت نفسه، من بينها الكوليرا والحصبة والملاريا وحمى الضنك والدفتيريا. وقد تسببت الكوليرا وحدها في وفاة أكثر من 1500 شخص.
كما ينتشر سوء التغذية على نطاق واسع بين الأطفال والنساء الحوامل والمرضعات، وقد أُعلنت المجاعة رسميا في خمس مناطق، مع توقعات بامتدادها إلى 17 منطقة أخرى، مما يعرّض عشرات الآلاف من الأرواح لخطر داهم.
توجد منظمة الصحة العالمية في السودان بالتعاون مع شركائها، وتعمل على ضمان حصول السكان على الرعاية الصحية اللازمة. وعلى الرغم من القيود الشديدة المفروضة على الوصول إلى المحتاجين واستمرار الهجمات على القطاع الصحي، تواصل المنظمة تسليم الإمدادات الطبية الحيوية، ودعم المستشفيات والمراكز الصحية، وتنفيذ حملات التطعيم.
ومنذ اندلاع النزاع، وبدعم من منظمة الصحة العالمية، تلقى أكثر من مليون مريض العلاج في المستشفيات والمراكز الصحية والعيادات المتنقلة. كما جرى تطعيم نحو 11.5 مليون طفل ضد شلل الأطفال والحصبة، فيما حصل 12.8 مليون شخص على لقاح الكوليرا. وتدعم المنظمة كذلك مراكز الاستقرار الصحي، حيث تلقى خلال العامين الماضيين 75 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد الوخيم المصحوب بمضاعفات طبية، العلاج اللازم.
لم تكن استجابة منظمة الصحة العالمية لهذه الأزمة ممكنة لولا المساهمات السخية من شركاء مثل صندوق الأمم المتحدة المركزي للاستجابة للطوارئ، والوكالة اليابانية للتعاون الدولي، ومركز الملك سلمان للإغاثة والأعمال الإنسانية، والاتحاد الأوروبي، وفرنسا، وألمانيا، وإيطاليا، والولايات المتحدة الأميركية، وغيرهم. غير أن استمرار الدعم يُعدّ أمرا حاسما لعام 2025، إذ تبلغ قيمة خطة الاستجابة الخاصة بمنظمة الصحة العالمية 135 مليون دولار أميركي، لم يُموّل منها حتى الآن سوى 21 في المئة.
لم يعد بإمكاننا الادّعاء بأننا لا نعلم ما يحدث. فالحقائق جلية، والقصص مروّعة. ما نفتقر إليه هو مزيد من التحرك الفعلي. نحن بحاجة إلى وصول إنساني مستدام وغير معوّق إلى الفئات الأكثر احتياجا
تؤكّد المنظمة تصميمها على مواصلة دعم الشعب السوداني، لكنها بحاجة إلى الوصول إلى المدنيين، وتوفير الحماية لهم وللعاملين في المجالين الإنساني والطبي. وقد تحققت المنظمة، منذ اندلاع النزاع، من وقوع 156 هجوما استهدفت المرافق الصحية وسيارات الإسعاف والكوادر الطبية والمرضى، مما أسفر عن مقتل 318 شخصا وإصابة 273 آخرين. لا يجوز بأي حال من الأحوال استهداف العاملين الصحيين أو المنشآت الطبية، فهي محمية بموجب القانون الدولي الإنساني، لكن هذه الالتزامات جرى تجاهلها بشكل صارخ.
لم تعد أزمة السودان مأساة وطنية فحسب، بل أصبحت أيضا تهديدا إقليميا متفاقما. فالنزاع يهدد بزعزعة استقرار البلدان المجاورة، ويزيد من مخاطر انتشار النزوح والأمراض وتفاقم حالة انعدام الأمن في المنطقة.
وبعد أسبوع من زيارتي للسودان، زرت تشاد التي تستضيف أكثر من 750 ألف لاجئ سوداني. التقيت بعائلات مشَت أياما كاملة لعبور الحدود بحثا عن الأمان. قال لي بعضهم إن منازلهم أُحرقت، ومحاصيلهم دُمّرت، ومواشيهم سُرقت. لقد غادروا أوطانهم ووصلوا بلا شيء. وعندما سألتهم عمّا يحتاجون إليه أكثر من أي شيء آخر، جاءت الإجابة المؤلمة والمتكررة: "الطعام. نحن جياع".
لم يعد بإمكاننا الادّعاء بأننا لا نعلم ما يحدث. فالحقائق جلية، والقصص مروّعة. ما نفتقر إليه هو مزيد من التحرك الفعلي. نحن بحاجة إلى وصول إنساني مستدام وغير معوّق إلى الفئات الأكثر احتياجا، وإلى تمويل كاف لتوفير المساعدات الحيوية، وقبل كل ذلك، إلى التزام رفيع المستوى بإنهاء هذه الحرب.