ليس جديدا الحديث عن ضم الضفة الغربية لإسرائيل. ولكنه يبدو مختلفا هذه المرة، إذ يأتي بعد صدمة هائلة تلقتها إسرائيل في هجوم 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، وغيرَّت بعض أهم المفاهيم السياسية والأمنية فيها. يتجدد هذا الحديث الآن في الوقت الذي تقوم فيه القوات الإسرائيلية بأكبر وأوسع عملية عسكرية في الضفة منذ 1967. بدا، في بداية هذه العملية، أن نطاقها لن يختلف كثيرا عن أكبر عملية سابقة عام 2002 خلال ما عُرف بالانتفاضة الفلسطينية الثانية، وكذلك أهدافها التي تمثلت في إخماد تلك الانتفاضة عبر استهداف روافدها الأساسية في بعض المخيمات، وخاصة في شمال الضفة.
ولكن سرعان ما تبين أن حجم العملية يتجاوز السعي إلى ضرب الخلايا المسلحة الموجودة في الضفة، وخاصة في شمالها، وبصفة أخص في مدينتي جنين وطولكرم ومخيماتهما. فالعملية العسكرية الراهنة، إذن، أوسع وأكبر من سابقاتها. كما يبدو أن هدفها ليس محدودا بالقضاء على تلك الخلايا، وأنها تمضي في اتجاه إعادة احتلال مناطق غادرتها قوات الاحتلال بموجب اتفاق أوسلو 1993، وانتقلت إدارتها إلى السلطة الوطنية الفلسطينية، وإعادة رسم جغرافيا المنطقة (أ) التي تديرها هذه السلطة بشكل كامل، وخاصة المخيمات التي يصار إلى إزالة بعضها مثل مخيم جنين وتحويله إلى حي من أحياء المدينة التي يُسمى باسمها. كما تدل ملامح العملية الإسرائيلية على أنها تشمل الفصل بين مدن الضفة بشكل كامل وليس جزئيا، وربما أيضا استمرار الحواجز العسكرية التي زيد عددها في أنحاء الضفة إلى ما يقرب من ألف حاجز. ولذا يأتي حديث الضم هذه المرة مقترنا بوقائع جديدة على الأرض تدفع مراقبين إلى الاعتقاد بأن احتمال تحققه أكبر من أية مرة سابقة.
غير أن ما لم يختلف، رغم كل هذه الاختلافات، هو الخلاف بين الأحزاب والتيارات السياسية والفكرية الإسرائيلية على مبدأ ضم الضفة، وهل يفيد أم يضر؟ لا يوجد توافق في إسرائيل على أن ضم الضفة الغربية في مصلحتها، بل يوجد من يروي أنه يلحق ضررا مستقبليا بها، ومن لا يتخذون موقفا واضحا أو لم يكوّنوا مواقفهم بعد.
ضم الضفة الغربية ليس مطروحا الآن، وما الحديث المتزايد عنه إلا تعبير عن قوة نفوذ التيار العقائدي في الحكومة أكثر منه في المجتمع الإسرائيلي
ويجوز القول إن هذا خلاف بين تيارين عريضين في إسرائيل ينطلق أحدهما من مواقف عقائدية، ويعتمد الثاني على رؤى استراتيجية. وتفيد التقديرات المستندة على بيانات إحصائية وقراءات لأنماط التفاعلات السياسية والفكرية أن نسبة أنصار ضم الضفة الغربية في حدود 10 في المئة من الإسرائيليين اليهود. وهي تمثل حوالي ثلث نسبة الكتلة الصلبة المؤيدة لليمين الإسرائيلي بشقيه المتطرف والتقليدي. ومن الطبيعي أن يكون أنصار اليمين المتطرف هم الأكثر تأييدا لضم الضفة الغربية. أما أنصار اليمين التقليدي فيفضل معظمهم إحكام السيطرة على الضفة وليس ضمها. وهذا هو موقف الاتجاه الغالب في حزب "الليكود" وزعيمه بنيامين نتنياهو. فبخلاف ما قد يبدو للوهلة الأولى، أو ما قد يظنه البعض، لا يريد نتنياهو ضم الضفة الغربية، وإلا ما فوَّت الفرصة التي تلوح له الآن ولاستثمر الإشارة التي جعلتها إدارة ترامب خضراء أمامه لكي يفعل ما يراه مناسبا في الأراضي الفلسطينية المحتلة كلها، وليس في قطاع غزة فقط.
ينتمي نتنياهو إلى التيار اليميني الذي يتعامل مع هذه الأراضي، ومع قضية فلسطين، من منظور استراتيجي وليس عقائديا. ولكنه مضطر إلى مجاراة حلفائه العقائديين لكي يستمر الائتلاف الحكومي الذي يقوده دون أن يصل ذلك إلى قبول ضم الضفة.
ولذا يجوز القول إن ضم الضفة الغربية ليس مطروحا الآن، وما الحديث المتزايد عنه إلا تعبير عن قوة نفوذ التيار العقائدي في الحكومة أكثر منه في المجتمع الإسرائيلي. وهذا الخلاف بين العقائديين والاستراتيجيين مفهوم، ونجد مثله في بلدان أخرى في العالم، ولكن على قضايا تختلف من بلد إلى غيره. تجادل الأحزاب والتيارات العقائدية في إسرائيل بأن الضفة الغربية، التي يُطلق عليها "يهودا والسامرة"، وردت في التوراة، حيث كانت هناك مملكتان إحداهما في يهودا (جنوب الضفة الآن) والثانية في السامرة (شمال الضفة حاليا). أما الأحزاب والتيارات التي تنظر إلى الموضوع من منظور استراتيجي فترى أن ضم الضفة لا يفيد إسرائيل بل يضرها في المستقبل، لأنه يقود إلى وجود أغلبية فلسطينية فيها. وإذ يصعب في عالم اليوم إقامة نظام فصل عنصري كامل يحرم سكان الضفة من الحقوق السياسية مثل ذلك الذي كان موجودا في جنوب أفريقيا لفترة طويلة قبل القضاء عليه في مطلع تسعينات القرن الماضي، يصبح ضم فلسطينيي الضفة الغربية إلى إسرائيل خطرا على طابعها اليهودي. فقد بلغ عددهم في منتصف عام 2023 حوالي 3.5 مليون نسمة وفقا لآخر بيان أصدره الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في 31 يوليو/تموز من ذلك العام بمناسبة اليوم العالمي للسكان. وبلغت نسبة من تقل أعمارهم عن 14 سنة حوالي 37 في المئة منهم. وعندما يضاف هذا العدد إلى الفلسطينيين الموجودين داخل إسرائيل الآن، وهو مليونان ومئة ألف، يكون الناتج مقلقا لأن عدد اليهود في إسرائيل الآن حوالي 7 ملايين ونصف المليون حسب دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية. ويزداد القلق فى حالة ضم قطاع غزة أيضا.
الموقف الغالب في أوساط أصحاب الرؤية الاستراتيجية يؤيد إحكام السيطرة بشكل كامل على الضفة الغربية، وتقليص دور السلطة الوطنية الفلسطينية إلى أدنى حد ممكن
ولكنّ أصحاب هذه الرؤية الاستراتيجية ينقسمون إلى اتجاهين يعطي أصغرها الأولوية لتحقيق السلام عبر إقامة دولة فلسطينية في الضفة وغزة، فيما يرى أكبرهما أن السيطرة الأمنية على الضفة وغزة هي الحل لأمن إسرائيل. وربما يؤيد معظمهم أو كثير منهم ضم جزء من قطاع غزة إذا اقتضت ذلك ضرورات السعي إلى تحقيق أهداف الحرب عليه.
غير أن الموقف الغالب في أوساط أصحاب الرؤية الاستراتيجية يؤيد إحكام السيطرة بشكل كامل على الضفة الغربية، وتقليص دور السلطة الوطنية الفلسطينية إلى أدنى حد ممكن، وهو ما تتوافر شواهد عدة على أنه يحدث الآن من خلال خطتين كبيرتين. تهدف الخطة الأولى إلى تفكيك عدد من مخيمات الضفة الثمانية عشر، ودمجها في المدن التي توجد بها أو في جوارها، من أجل تغيير البيئة المجتمعية التي تنشط في ظلها خلايا فلسطينية مسلحة، وكذلك لتسهيل مهمة الجيش الإسرائيلي في القضاء على أية محاولات لتنظيم هذه الخلايا، فضلا عن ضرب رمزية اللجوء واللاجئين في الثقافة الوطنية الفلسطينية.
أما الخطة الثانية فتهدف إلى تقسيم الضفة نصفين شمالي وجنوبي، بواسطة شق طريقين جديدين في القدس. ويتيح تنفيذ هذه الخطة أيضا ربط المستوطنات وتوسيعها، وتقويض ما بقي من تواصل جغرافي بين المدن والبلدات الفلسطينية.
وفي كل الأحوال، ما زال أصحاب الرؤية الاستراتيجية أقوى سياسيا وشعبيا، وإن كان نفوذ العقائديين في الحكومة الحالية يوحي بقدرتهم على إقرار ضم الضفة، وهو ما لا يوجد سند قوي له حتى الآن.