ليست كثيرة الاعتذارات التي تقدم بها القادة السياسيون والعسكريون اللبنانيون إلى مواطنيهم عما فعل الأولون بالأخيرين أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. وأقل بعد هي اعتذارات الرؤساء الأجانب عن ممارسات قواتهم المحتلة أو المعتدية على اللبنانيين والمستمرة بصيغ شتى إلى اليوم.
نسجل اعتذار القيادي اليساري الراحل محسن إبراهيم في 2005 عن الدور الذي قامت به أحزاب الحركة الوطنية التي فضلت السلاح والتحالف مع الفلسطينيين لفرض التغيير السياسي في لبنان. وثمة اعتذار خجول من زعيم "القوات اللبنانية" سمير جعجع عما فعله فصيله المسلح في الحرب. محمود عباس، الرئيس الفلسطيني، أبدى أسفه لتحميل لبنان أعباء القضية الفلسطينية على نحو لم يكن البلد الصغير قادرا على تحمله. وهناك بطبيعة الحال ثلة من المقاتلين السابقين الذين أبدوا ندما صادقا عن الأدوار التي أدوها خلال أعوام المحنة التي تداخل فيها "الأهلي" والخارجي، وشكلت مزيجا من مذابح القرن التاسع عشر الطائفية وصراعات الحرب الباردة مع محاولات لإدخال إصلاحات جذرية يسارية-إسلامية قابلها تشبث يميني – مسيحي بالحفاظ على صيغة الحكم الموروثة عن آباء الاستقلال في 1943.
بيد أن الاعتذارات– باستثناء ما صدر عن عدد من المقاتلين والقادة الميدانيين السابقين الذين ذهب بعضهم إلى تسمية ضحاياه بالاسم وإظهار الندم عما ارتكب بحقه- كان موجها إلى أطراف غير محددة الهوية. بل إن هناك من رأى نفسه متقدما في الاعتذار على "الطرف الآخر" الذي لم يرد على تحيته بأحسن منها.
ورغم أن بعض المعتذرين جاءت مواقفهم بعدما فقدوا قاعدتهم التمثيلية وانسحبوا إلى هوامش العمل السياسي اللبناني، فإن جل الاعتذارات كان موجها إلى "آخر" غير محدد، من "ذات" تقول إنها استخلصت العبر مما فعلت وأنها تأسف لما أوصلت البلد إليه، فيما هي مقيمة على الخطاب والممارسة عينهما من دون تغيير او تبديل.
ومن النادر أن يعتذر زعيم سياسي من طائفته أو أعضاء حزبه عما تسبب لهم به. فهؤلاء، حتى لو دفعوا ثمنا باهظا من أرواحهم وأملاكهم ومستقبلهم، فإنهم، في عين القيادات الحربية الطائفية والحزبية، مدينون لزعمائهم بالانتصارات التي حققوها لهم وبـ"كرامتهم" (تلك الكلمة السحرية في الرطانة اللبنانية) وببقائهم في وجه مؤامرات يمينية أو يسارية، فلسطينية أو سورية أو إسرائيلية، محلية أو أجنبية- وغالبا ما تحمل خليطا من كل الصفات السابقة- لاقتلاع هذه الطائفة أو تلك من أرضها التي تقيم عليها "من عهد عاد" (بحسب عبارة المعري) لمقاومة غزاة يأتون من "الثغور" اذا كان المتحدث مسلما او مستبدون يحاولون الصعود الى جبال تعانق السماء، إذا كان الخطيب مسيحيا، وإحلال غرباء مكانها ربما يكونون من الفلسطينيين أو السوريين أو الشيعة العراقيين أو المستوطنين اليهود وصولا الى المماليك... إلخ.
وفي المقابل، أدت حالات الاحتجاج داخل مناطق نفوذ الميليشيات على الدمار الذي تسببت به الحرب والانتهاكات التي مارستها القوى المذكورة بحق "الأهل" و"الجماهير"، إلى قمع دموي شاركت فيه كل الفصائل التي انخرطت في الحرب الأهلية.
الاعتذارات الشحيحة والضئيلة لم تكف لمحو الضغائن والانقسامات القديمة التي يعاد إنتاجها بالاستناد إلى لغة نضالية لا تختلف في الجوهر عما ساد منذ ستينات القرن الماضي
والمتابع لما ينشر في وسائل الإعلام اللبنانية، سيشعر أن الجماعات المعصومة والمسلحة ما زالت على متاريسها رافعة الشعارات ذاتها التي كانت ترفعها منذ أكثر من خمسين عاما. صحيح أن بعض الفاعلين الرئيسين السابقين قد اختفوا من المشهد، كاليسار والفلسطينيين والسوريين، إلا أن "الخطر الخارجي" لا زال حاضرا بقوة على شكل الاحتلال الإسرائيلي لجزء من الأراضي اللبنانية وتهديده للجماعة الشيعية التي تعيد رسم صورتها اللبنانية بعد هزيمة جناحها المسلح في مغامرة "حرب الإسناد" الرعناء، في ضوء خوفا من خسارة مكانتها التي تحصلت عليها في العقود الماضي وبثمن باهظ.
ولم يكن مفاجئا أن يعود المتحدثون باسم الشيعة إلى إثارة مسألة "الحقوق" بعد 35 عاما من المشاركة غير المنقوصة السلطة وغنائمها. ولم يكن غريبا أن تبقى راية الفيدرالية مرفوعة بين المسيحيين الذين يرون أن كل انتخابات قد تطيح بحقوقهم و"كرامتهم" لمجرد أنها تذكّر بحقيقة الاختلال الكبير في الميزان الديموغرافي لغير مصلحتهم.
بكلمات ثانية، لا زال طرفا الحرب الأهلية السابقة الأنشط والاوضح في التعبير عن مطالبهما، أي الشيعة والمسيحيون، هما الأعلى صوتا في السعب الى إدخال تعديلات على صيغ التمثيل السياسي والمشاركة في السلطة والنقاش حول هوية لبنان وتوجهه، مع تعديلات لا تخطئها العين تتعلق بمستوى النقاش العام والشخصيات المولجة به من طوائفها.
الاعتذارات الشحيحة والضئيلة لم تكف لمحو الضغائن والانقسامات القديمة التي يعاد إنتاجها بالاستناد إلى لغة نضالية لا تختلف في الجوهر عما ساد منذ ستينات القرن الماضي: المسيحيون خائفون. الشيعة مظلومون. السنة تستباح حقوقهم في الدولة... وليس من مخلّص يظهر. فالاعتذارات التي قدمت، على ندرتها، لم تأت في سياق مشروع مصالحة كبير او عدالة انتقالية او طي صفحة الماضي ضمن رؤية مستقبلية، بل جاءت في ظل الآليات التي لم تتوقف عن انتاج الحروب والاقتتال الاهلي السابق.