وضاح شرارة... الحروب الأهلية العربية نظاما سياسيا

الدستور اللبناني أناط برئاسة الجمهورية سلطات المفوض السامي الفرنسي

وضاح شرارة

وضاح شرارة... الحروب الأهلية العربية نظاما سياسيا

بالتزامن مع انقضاء 50 سنة على بداية الحرب الأهلية الإقليمية في لبنان (13 أبريل/نيسان 1975)، وفيما تستمر حروب أهلية، إقليمية-دولية عدة، في بلدان عربية ولا تنطوي ذيولها في بلدان أخرى، يصدر للكاتب والباحث في الاجتماعيات والسياسات وضاح شرارة كتاب جديد عنوانه "الحروب الأهلية العربية المعاصرة.. نظاما سياسيا– بين عصبية الدولة ودولة العصبيات".

يوحي العنوان بأن العصبية، على معناها عند ابن خلدون، وبتحويرات وأشكال وألوان كثيرة، كانت ركنا أساسيا في تكوين الدول العربية المعاصرة، وأدى استمرارها وعملها في أبنية الدول إلى انفجار الحروب الأهلية فيها.

ويتناول الكتاب (يصدر قريبا عن "دار رياض الريس" البيروتية) بالسرد والتحليل أشكال ومسارات الحرب في بلدان ما سُمي "الربيع العربي". وفي هذه المناسبة تنشر "المجلة" حصيلة حوار مطول أجرته مع وضاح شرارة.

الميراث القديم

يعيد شرارة الرحم المولدة للحروب الأهلية إلى عدم إرساء السياسة في المشرق العربي على دولة تقر جماعاتُها بوازع يحول دون استرسالها في خلافاتها ونزاعاتها إلى حد خروجها على هذه الدولة وتقويضها. ويتمثل الوازع بأن لا تنزع هذه الجماعة أو تلك إلى السيطرة على جماعات أخرى بالاستتباع والغلبة.

وفي تشخيصه العلاقة بين الجماعات المنضوية في الدولة، يميز الباحث بين السيطرة بالاستتباع والغلبة المؤدية (على المعنى الخلدوني) إلى تقويض الدولة، وبين الهيمنة التي تتطلب توافق الجماعات على ترتيب مصالحها في وجهة تاريخية متماسكة، وعلى قيم مشتركة متقاسمة بينها، وتنظيمها الخلافات والنزاعات على نحو يفتح لها باب الحلول الجزئية واستيعابها وإدراجها في جهاز الدولة، بدل الخروج على الدولة والتعامل معها كعدو.

في لبنان شاعت فكرة صحيحة مفادها أن الدستور اللبناني أناط بمنصب رئاسة الجمهورية وبشخص الرئيس سلطات وصلاحيات المفوض السامي الفرنسي

ويرى شرارة أن جذور معاملة الدولة كعدو عميقة، متناسلة ومتحورة بطيئا وعلى مدى زمني طويل، في بُنى المجتمعات العربية التي تقوم الدولة فيها أو الحكم- أي المُلْك حسب المصطلح الخلدوني وفي الثقافة والمخيلة العربيتين الإسلاميتين- على الاستيلاء والسيطرة والغلبة. وفي هذه الحال يملك الملك أو السلطان المُلك كله، بلا انقسام ولا تقاسم.

ولفهم استمرار هذا كله في الدول العربية المعاصرة التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918) ينطلق شرارة من مسألتين:

  • الأولى أن هذه الدول أنشأتها وركبتها قوى استعمارية خارجية قاهرة. وبصرف النظر عن نوايا تلك القوى، مخططاتها ومشاريعها، فإنها تصرفت في المحصلة العامة كقوى إمبريالية غالبة وتغلب مصالحها. وخارجيتها التي تركتها غريبة عن المجتمعات المحلية التي قاومتها، حملتها على اتباع أشكال وأساليب متباينة للسيطرة عليها، منها تقريب هذه الجماعة واستبعاد تلك.

      والاستعمار بخارجيته ومركزيته لا يقاسم أحدا سلطتَه، من دون مسؤوليته عن أفعاله. وهذا ما فتح الباب في الدول الناشئة    على هذا النحو إلى أن تستعيد مجتمعاتها وجماعاتها ممارسة السياسة ومزاولة الحكم، وفق ذاك الميراث المحلي القديم: المُلك القائم على العصبية والاستتباع والغلبة، وعلى احتكار العصبية الغالبة كل شيء، من دون أن تُسأل عن أي شيء.

أ.ب
مقاتل فلسطيني من حركة "فتح" يطلق النار من مدفع رشاش على القوات السورية، بالقرب من منتجع بحمدون في جبل لبنان

  • المسألة الثانية أن الدول التي أنشأتها القوى الاستعمارية مختلفة ومتباينة في وضعها وتركيبها وتاريخها، وفي نسيج مجتمعاتها، وفي بنية وأشكال العلاقات بين جماعاتها.

نماذج الدولة المشرقية

بناء على المسألة الثانية تحدث شرارة عن لبنان قبل انتقاله إلى البلدان والدول العربية الأخرى.

ففي لبنان شاعت فكرة صحيحة مفادها أن الدستور اللبناني أناط بمنصب رئاسة الجمهورية وبشخص الرئيس سلطات وصلاحيات المفوض السامي الفرنسي. والرئيس- ينتخبه لمدة 6 سنوات برلمانٌ منتخب- حُصِرَت السلطات كلها في يده من دون تقييدها، ومن دون أن يُسأل أو يتحمل أية مسؤولية عن قراراته وأفعاله. وكانت هذه هي البذرة التي ولدت نزاعات نحت نحو منطق الاستتباع والغلبة في الحياة السياسية اللبنانية المعاصرة.

تختلف الحال في سوريا والعراق عنها في لبنان. فبريطانيا وفرنسا أرستا الدولة والحكم في هذين البلدين على صيغة مختلفة نسبيا عن مفهوم المُلك، لكن الأطوار والحوادث السياسية والاجتماعية فيهما، سرعان ما حملت جماعاتهما على استعادة ذاك المفهوم واستئنافه.

ثورة الدروز بقيادة سلطان باشا الأطرش بين عامي 1924-1925، فاجأت الفرنسيين الذين لم تكن فكرتهم عن العشائر وسلوكها وقيمها واضحة

وعلى الرغم من عدم وجود جماعات مرتبطة ثقافيا واقتصاديا بفرنسا وبريطانيا في سوريا والعراق- وهذا على خلاف لبنان، حيث تربط صلة تاريخية المسيحيين الموارنة خصوصا بفرنسا- أرسى الاستعمار الفرنسي والبريطاني الحكمَ في ذينك البلدين على حلف بين العشائر القوية وبين برجوازية المدن الناشئة من التجار والوجهاء والمتعلمين. لكن هذا الحلف لم يثبت ويستمر في الحكم. ذلك لأنه نزع إلى أنشاء تكتلات عصبية في داخله وداخل أجهزة الدولة من جيش وإدارة بيروقراطية للمرافق الاجتماعية والاقتصادية العامة. فهذه كلها ميادين التوظيف وتوزيع النفوذ والتوسط بين الأهالي والسلطة المركزية. لذا استُدخلت العصبيات المتنازعة في موازين قوى الأرجحية أو الغلبة فيها لهذه العصبية أو تلك. ومادة العصبية هي الأهل والعشائر المسلحين، وجماعات كبار الملاكين.

وكانت التكتلات العسكرية الناشئة داخل الجيش في العراق وسوريا، والانقلابات العسكرية التي قامت بها، امتدادا للنزاعات القائمة في مجتمعي البلدين، ومرآة لها. وهذا ينسحب على الأردن الذي تعرض الجيش فيه لانشقاقات كثيرة، على الرغم من أنه جمع ظاهريا بين العشائر، وعلى رأسه الملك.

ويرى وضاح شرارة أن قراءة مذكرات خالد العظم وأكرم الحوراني في سردهما الحوادث السياسية، والتعيينات الإدارية، وتشكيل الوزارات في سوريا، تبين أن الجيش بقيادته وكبار ضباطه، كان حضوره بارزا في دوائر التكتلات والمفاوضات والقرارات، قبل استيلائه على السلطة في أول انقلاب عسكري عام 1949. والسلطة الاستعمارية الفرنسية كانت أكثر من البريطانية ارتباكا وحيرة في تصرفها وأفعالها حيال التكتلات والشلل العصبوية داخل الجيش وفي مجتمعات لم يكن الفرنسيون على دراية واسعة بتركيبها وتركيب جماعاتها الداخلي.

فثورة الدروز بقيادة سلطان باشا الأطرش بين عامي 1924-1925، فاجأت الفرنسيين الذين لم تكن فكرتهم عن العشائر وسلوكها وقيمها واضحة. وهذا على خلاف البريطانيين الذين كان لديهم فهمهم للعشائر العراقية وتصرفاتها حين ثارت الشيعية منها على السلطات البريطانية. والأرجح أن هذا التفاوت في الفهم بين الطرفين الاستعماريين مصدره عاملان اثنان:

  • كان البريطانيون على صلة وثيقة وقديمة بالداخل العربي في الجزيرة العربية، حيث تغلب التركيبات القبلية والعشائرية. وهذا جعلهم على بينة أكثر من الفرنسيين في التعامل مع هذه الجماعات. فمستشارة المندوب السامي البريطاني في العراق السيدة غيرترود بل، استهلت عملها بوضع كتاب يحوي ثبتا بالعشائر العراقية وعلاقاتها.
  • كان نصيب الفرنسيين من التركة العثمانية هو الساحل، أي لبنان وسوريا، حيث التركيب الاجتماعي مختلف عن الداخل. ومال الفرنسيون في عملهم الاستعماري إلى اتباع أسلوب "الفرنسة": محاولتهم تغيير ثقافة الجماعات التي يحكمونها. تجلى ذلك بقوة وعنف فائضين في الجزائر التي اعتبروها أرضا فرنسية. وهذا على خلاف البريطانيين الذين مالوا إلى حكم المستعمَرين من الخارج، من دون العمل على تغيير ثقافتهم.

اجتياح اليمن الشمالي للجنوب في عام 1994، تحت ستار الوحدة والتوحيد، كان مظهرا للنزاع بين الشطر المدني في الجنوب والشطر "السلفي" في الشمال

وفي هذا السياق لخص شرارة فكرته على النحو التالي: اضطربت السياسات الاستعمارية، فلم تميز تمييزا دقيقا أو واضحا بين إنشائها أجهزة بيروقراطية محلية (هي الوجه العصري أو المحدث من الدولة المحلية الجديدة، ويفترض نزع أو كبح علاقات الولاء العصبي)، وبين إرسائها الدولة والحكم على تحالف عشائر ووجهاء مدن. لذا اتسمت الخلافات والنزاعات السياسية والاجتماعية في الدولة الجديدة بنوع من قطبية عصبية ثنائية. والثنائية العصبية هذه لم ترجح مصلحة أجهزة الدولة البيروقراطية (أي مصلحة الدولة العليا)، بل إن كل جماعة/عصبية قدمت مصلحتها هي في سعيها لتصير عصبية غالبة، ولتستدخل أجهزة الدولة وتلتهمها، وتستتبع الجماعات الأخرى. وفي هذا المسار راحت الدولة تتعرض باستمرار لرياح النزاع الأهلي والحروب الأهلية الكامنة.

مصر: "الوفد" والإسلاميون والجيش

يرى شرارة أن تمحور السياسة والحياة السياسية على الانقسام العصبي اتخذ منحى مختلفا في الدولة المصرية المعاصرة عنه في سوريا والعراق ولبنان. فبعد ثورة 1919 المصرية، أخذت الحياة السياسية والاجتماعية تتمحور على منازعة ثنائية قطبية بين حزب "الوفد" المدني وبين الإخوان المسلمين، وكلاهما مع الجيش والبيروقراطية الإدارية تشكيلات جديدة أو محدثة. لكن تلك المنازعة الثنائية والقطبية أخذت تراوح وتستمر على حالها من دون أن تُحسم حتى عام 1952.

وفي هذه الحال- أي عندما يراوح الصراع بين قوتين كبريين بلا حسم- تظهر قوة ثالثة، يسميها التشخيص الماركسي بونابرتية، ويمثلها الجيش. وهكذا يطل برأسه قائد عسكري بطل ومخلص، فيستولي على السلطة قائلا: يجب أن يتوقف النزاع على السلطة في الدولة وأن لا يكون أصلا، لأن الحكم يتعالى على الصراع والمجتمع والطبقات والجماعات. وهذا ما حدث في مصر عندما انقلبَ "الضباط الأحرار" على النظام الملكي الدستوري في عام 1952، فاستولوا على السلطة المصرية وجمعوها كلها في يدهم بقيادة جمال عبدالناصر، وعطلوا الحياة السياسية والأحزاب والرأي والصحافة.

النزاع العصبي على السلطة

تتعدد وتتلون أشكال استدخال النزاع العصبي على السلطة في الدول العربية المعاصرة، حسب شرارة. ففي السودان وانقلاباته العسكرية كانت الثنائية القطبية بين الجيش والإسلاميين حاضرة وأساسية، وقد استدخل كل منهما الآخر في فترات محددة، إلى جانب المزاوجة بين أجهزة الدولة وبين جماعات مناطقية وقبلية وشعوب وقوميات.

وفيما لم تدخل القوة الإسلامية "الإخوانية" إلى الجيش ولا إلى الجسم البيروقراطي في سوريا، حيث اكتفت بانتشارها في المجتمع الأهلي وبين الجماعات التقليدية، فإن النزاع على الجيش كان قويا في العراق بين المرجعية الشيعية المناهضة للاتجاهات العصرية والمدنية، وبين حزبي "البعث" و"الشيوعي". وهذا إضافة إلى الانقسام الأهلي السني-الشيعي.

ويرى شرارة أن اجتياح اليمن الشمالي للجنوب في عام 1994، تحت ستار الوحدة والتوحيد، كان مظهرا للنزاع بين الشطر المدني في الجنوب والشطر "السلفي" في الشمال. ففي الجنوب هناك قوى مدنية موروثة في المدن الساحلية (عدن وسلطنات أيام الاستعمار البريطاني والثورة عليه)، ومن ثم في النظام الاشتراكي الجنوبي. وهذا ما غلب التعبير السياسي والحزبي في انقسامات الجنوب، على خلاف الشمال الإمامي السلفي الزيدي المغلق، والإخواني في الكتلة السنية الشمالية، التي يمثلها "حزب الإصلاح" الذي كان عبد المجيد الزنداني أحد كبار مؤسسيه.

التنظيمات العثمانية والطائفية

أما الطائفية فيعيد وضاح شرارة دخولها مجال النزاعات والاستقطابات العصبية إلى التنظيمات/الإصلاحات العثمانية في عام 1839، ومن ثم ارتباطها بنشوء أنوية الدول الوطنية المعاصرة في إطار إمبراطوري. وتحتل تركيا الصدارة في هذه المسألة. وكان البند الأساسي في التنظيمات هو الدعوة إلى منح الرعايا في بلدان الفتوح الإمبراطورية حقوق المواطنين.

يوجد، إلى جانب التاريخ الهيكلي أو البنيوي حسب ترسيمة مقولات ابن خلدون (الملك، العصبية، الاستتباع، الغلبة، العمران الحضري والبدوي)، تأريخ آخر داخلي جزئي، غير صامت تماما، لكن تغلب عليه المراوحة

أيد المسيحيون في الإمبراطورية العثمانية الإصلاحات التي منحتهم حق المساواة بالمسلمين واستفادوا منها، فيما تصدى لها السلك الديني والقضاة والمشايخ المسلمون وجماعات أهلية مسلمة وهؤلاء تعودُوا على كون المسيحيين رعايا السلطان، "أهل ذمة"، يدفعون الجزية، ولا يتجندون. وهكذا جسدت التنظيمات/الإصلاحات (أي الحق في المواطنة والمساواة) وجها عميقا من وجوه نزاعات قطبية على الحكم ومراجعه وتركيبه في المجتمعات العربية المشرقية.

وفي تركيا كان العصريون وعلى رأسهم الجيش، و"السلفيون" وعلى رأسهم جهاز المشايخ وعلماء الدين والقضاة، كانا قطبي النزاع. ويجسد الصراع بين حزب "العدالة والتنمية" الإسلامي والجيش النسخة الراهنة من هذا الاستقطاب في المجتمع والدولة التركيين.

أ.ف.ب
مقاتل مؤيد للفلسطينيين امام ملصق للرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر على جدار فندق هوليداي إن في بيروت في 24 مارس 1976

نموذج "حزب الله" اللبناني

المثال الجديد الأبرز والأشد وضوحا في تحويل السياسة إلى عملية استبطان عصبي تتماسك به الجماعة من داخلها، قبل أن تتجه إلى مواجهة الجماعات الأخرى لاستتباعها بالغلبة، هو "حزب الله" في لبنان، حسب وضاح شرارة.

فبرفعها شعار "المحرومين" عنوانا أساسيا لعملها في المجتمع الشيعي اللبناني المتنوع الفئات الاجتماعية قبل الحرب الأهلية الإقليمية بلبنان، مهدت "حركة المحرومين" (أمل) لـ"حزب الله" طريق سيطرته على الجماعة الشيعية اللبنانية. لقد صاغت "أمل المحرومين" الشيعية ميزان القوة داخل الجماعة صوغا جديدا، رجح كفة الفئات المحرومة أو الهامشية. وسرعان ما أدى السلاح والتسلح في بدايات الحروب بلبنان إلى نشوء إقطاعات عامية عسكرية داخل "حركة أمل"، منها "أمل الإسلامية" التي انشقت عن الحركة وشكلت واحدة من المجموعات التي كونت "حزب الله".

أ ف ب
أنصار "حزب الله" يلوحون بأعلام تحمل صور قادتهم الراحلين

وتابع "حزب الله" ما كانت بدأته "أمل" وعمقه: الحرب على مراكز القوة داخل الجماعة واستتباعها، أي على الزعامات التقليدية، أحزاب ما سُمي "الحركة الوطنية" من بعثيين وشيوعيين، وصولا إلى الأثرياء المهاجرين الشيعة، وإلى "أمل" نفسها. وجرى امتصاص هذه القوى باستعمال وسائل كثيرة لا تخلو من العنف الذي كان في طليعتها في حالات عدة. وبعد إنجازه هذه العملية، أي التحكم بالقوة والسلطة داخل الجماعة العصبية الواحدة، توجه "حزب الله" إلى الصراع مع الجماعات الأخرى لاستتباعها بالغلبة، والاستيلاء على أجهزة الدولة واستدخالها.

المراوحة والتكرار

عن موضع الحركات الاجتماعية والسياسية المدنية المتنوعة، دورها وفاعليتها، في المجتمعات العربية المعاصرة- أي جماعات ما يسمى حراكات المجتمع المدني، كالنساء والفئات المهنية والشباب، وسوى ذلك من فئات اجتماعية- يرى وضاح شرارة أن هناك، إلى جانب التاريخ الهيكلي أو البنيوي حسب ترسيمة مقولات ابن خلدون (الملك، العصبية، الاستتباع، الغلبة، العمران الحضري والبدوي)، تأريخ آخر داخلي جزئي، غير صامت تماما، لكن تغلب عليه المراوحة. والأمثلة على ذلك حركة 14 مارس/آذار 2005 وانتفاضة 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019، المجهضتين في لبنان.

أما الحراكات العريضة في بلدان ما سُمي "الربيع العربي"، وهي بدأت مدنية وسلمية في عام 2011، فسرعان ما حولتها الأنظمة، الجيش والإسلاميون، عنيفة ودموية. أي أعادتها إلى حظيرة الحروب الأهلية التي تبتلع الحركات الاجتماعية والسياسية وتعيد إدخالها في الترسيمة الخلدونية للسياسة. وقد يكون ما يجري في السودان المثال الأسطع على ذلك، بعدما سبقه المثال السوري.

يظن وضاح شرارة أن قوة العامل الفلسطيني في الانقسام أو الشقاق الأهلي الذي أدى إلى الحروب الأهلية الإقليمية بلبنان عام 1975، نفخت فيه شدة التعبئة والشحن العنيفين اللذين لابسا المعضلة الفلسطينية وحضورها في الحياة السياسية اللبنانية

وهذا ما يترك الحركات الاجتماعية والسياسية المدنية بلا أثر سياسي فعلي في البلدان العربية. وهكذا يتكرس الطابع التكراري للحوادث التي تتسم بالمراوحة وانعدام التراكم، على الرغم من أن تلك الحركات تنشأ وتتوسع في خلايا النسيج الاجتماعي والعلاقات الاجتماعية، فتطال المرأة، وعلاقات النساء بالرجال، والجماعات المهنية، وسوى ذلك من الفئات الاجتماعية، وحقوقها ومطالباتها، لكن خارج الترسيمة الخلدونية.

أما الحراك الجزائري المدني في العامين 2019-2020 فقد خُنِقَ دون عنف ودم. وضم تياره العصري جماعات واسعة مختلفة، فغلب خلافه مع السلطة على خلافه مع الجماعة الأهلية السلفية المتدينة، التي صادف أنها على خلاف مع السلطة أيضا. وهذا على خلاف ما حصل للحراك العراقي، حيث السلطة في يد "الإطار التنسيقي" الشيعي، وجوبه الحراك بعنف دموي واغتيالات.

وفي هذا السياق يرى شرارة أن حركات "الربيع العربي" في موجتيه (2011 و2019) دليل على حيوية المجتمعات. لكن هذه الحيوية لم تتمكن من توليد شكل جديد للعلاقات السياسية. وربما تكون قد أعطتها شكلا ما، لكنها عجزت عن حمايته وترسيخه، وعن إغنائه بروافد من قلب السلطات، وتمتلك خبرات في صوغ أطر سياسية مشتركة.

التذرر ومقاومته

يرى الباحث أن بؤرة هذا الوضع في مراوحته وتكراره، كامنة في أن الأبنية الاجتماعية والسياسية العربية تناهض التذرر الاجتماعي. وكلمة التذرر مصدرها الكاتب السوري ياسين الحافظ (1930-1978). وقد تكون قوانين الأحوال الشخصية المتعلقة بالإرث، والزواج، والبكارة، والاختلاط، ووصاية الرجل والأب... العنصر الرئيس في مناهضة التذرر الذي يقاومه منطق الجماعات العصبي في المجتمع وفي أنصبة الدولة، ويتبنى الدعوة إلى الوحدة والاندماج، وعدم الخلاف وعدم مشروعيته والاعتراف به. وهذا ما يشكل ركن أخلاق السياسة وقواعد سلوكها في المجال العربي الإسلامي.

أما الحركات الاجتماعية والسياسية المدنية على تعدد أشكالها، فهي مرغمة على الاعتراف بالتذرر الاجتماعي من دون إرادتها ومن دون أن تتبناه وتدعو إليه. هذا على الرغم من وجوده في داخلها وتشكيله عنصرا تكوينيا في نشأتها، لكنها تلجمه وتنكر مشروعيته، فيما يقوم عليه شطر من برنامجها. وهذا ما يشكل العامل الأبرز في عجز الحركات المدنية وغياب أو ضآلة أثرها السياسي.

أ.ف.ب
الحافلة التي أشعلت الحرب الأهلية اللبنانية في 13 أبريل 1975، والتي تعرف بـ "بوسطة عين الرمانة"

وقد يكون باعث الحركات المدنية على إنكار مشروعية التذرر الذي تصدر عنه أصلا، هو أن مجتمعاتنا تصِم كل خروج على الإجماع بشبهة الانشقاق والتآمر. وهذا ما تُوصَم به كل مطالبة بمشروعية الاختلاف في الرأي والاعتراف بالنزاع للعمل على لجمه وتسويته الجزئية والمؤقتة، بدل تعميقه وتجذيره. وكلما تعمق إنكار الخلاف وتزايدت الدعوة إلى الوحدة والاندماج، اقتربت الحرب الأهلية.

من الأمثلة القريبة زمنا على هذه الحال ما حدث في الساحل السوري. ففيما كان القتل قائما هناك على الهوية الطائفية، تزايد الكلام على أن كثرة من المهددين بالقتل حماهم منه جيرانهم الذين ينتمون إلى الهوية الطائفية للقتلة. وهذه الحجة يسوقها كثيرون لقول إنه لا طائفية في سوريا، والمقاتل التي ارتُكبت في الساحل السوري ليست طائفية، وإن السوريين جميعا إخوة.

فلسطين والكيانية اللبنانية

يظن وضاح شرارة أن قوة العامل الفلسطيني في الانقسام أو الشقاق الأهلي الذي أدى إلى الحروب الأهلية الإقليمية بلبنان عام 1975، نفخت فيه شدة التعبئة والشحن العنيفين اللذين لابسا المعضلة الفلسطينية وحضورها في الحياة السياسية اللبنانية. وقد استمد الشحن قوته الفاعلة من تراكبه أو استدخاله في الخلافات والنزاعات الداخلية التي اتخذت شكل التكتيل العصبي الطائفي.

في المصطلح السياسي الأهلي العربي وصلت القوة الإسرائيلية إلى "عقر الدار" وقلب السكن الأهلي والعلاقات الأهلية. وهذا يعني أن التصديع بلغ ذروته

فما سُميت "الحركة الوطنية والتقدمية في لبنان" قبل بدء الحرب، ساهمت بقوة في ذلك الشحن، واستثمرت فيه، ودفعته قدما. وهي رشحت نفسها لحكم لبنان وطلبته، ولو من طريق الحرب الأهلية. وفي مقابل طلبها هذا كان هناك ما يمكن تسميته "الثقافة الكيانية اللبنانية". وهذه لم تخل من سمات وملامح وتوجهات سياسية انتحارية، أدت بدورها إلى اندفاع جماعات تلك الثقافة نحو الحرب الأهلية.

ففي مواجهة الوجود الفلسطيني في لبنان ولمجابهته، ضخمت الجماعات الكيانية اللبنانية مقولة الكيان وفرادته المزعومة، ونفخت فيها تعبئة وشحنا مضاعفين، حتى حولتها مسألة وجودية شبه مقدسة. وهكذا صارت الجماعات الكيانية تُصاب بمس يعرضها للدوار والتيه، كلما طرأت مشكلة ما صغيرة أو كبيرة، واستجد مطلب ما في الحياة السياسية اللبنانية. وقد جابهت "الحركة الوطنية اللبنانية" هذه الكيانية بأخرى مضادة لها، فسمت الكيانيين "انعزاليين" ووصمتهم بالعمالة والخيانة... ودخل لبنان في الحروب الأهلية الإقليمية المديدة.

سياسة إسرائيل.. التصديع والمحو

في تشخيصه العوامل الفاعلة في المعضلات والأزمات التاريخية المعاصرة التي تعيشها الدول والمجتمعات العربية المشرقية، يغلب وضاح شرارة تركيبها الداخلي، بعناصره التكوينية الأساسية، كالهوية والدم والنسب، على تأثير القوى والحوادث الخارجية في تلك المعضلات والأزمات. فتركيب الدول والمجتمعات الداخلي– بحسبه- هو الذي يجمع ويبلور ويستدخل علاقتها بالعالم الخارجي وحوادثه. ودليله على هذا أن القوة الاستعمارية الغربية، منذ بداياتها الإمبريالية، كان وقعها على الرأي العام العربي المشرقي يذكي ويؤجج الخلافات العصبية. وهذا ما استمر على الوتيرة نفسها بعد نشوء إسرائيل الاستيطانية والاستعمارية.

وتندرج في الاستدخال قوة الوقع التاريخي والعاطفي للمعضلة الفلسطينية وأثقال الاحتلال الإسرائيلي والعدوانية الإسرائيلية. أما التداخل الحميم بين القضية الفلسطينية والمصلحة الفلسطينية وبين الأوضاع الداخلية في الدول الوطنية العربية المجاورة لإسرائيل، فيغذي باستمرار علاقات الدم والنسب والعلاقات العصبية والمصالح السياسية لدى جماعات وفئات داخل الكيانات السياسية الوطنية المشرقية، ويعرضها للارتجاج من داخلها.

أ.ف.ب

ويرى شرارة أن الحرب الأخيرة على غزة ولبنان وسوريا بينت بوضوح أن إسرائيل تبني سياساتها واستراتيجياتها الخارجية على فهمها البنى السياسية والاجتماعية في هذه البلدان. وهذا ما تظهره العقيدة العسكرية الإسرائيلية الجديدة المنسوبة لرئيس أركان الجيش الإسرائيلي إيال زامير، والمسماة دفاعية وهي في الحقيقة هجومية، وتقوم على 3 أطواق:

  • قوة الجيش الإسرائيلي وقدرته على تحصين الداخل في وجه الخارج العربي المشرقي.
  • تأمين الحدود الإسرائيلية المباشرة مثل غلاف غزة وجنوب الليطاني في لبنان.
  • والطوق الثالث هجومي عدواني وتدميري لكيانات الدول المحيطة بإسرائيل: السلطة الفلسطينية ولبنان وسوريا والأردن ومصر. وفي ضوء ما حصل في غزة ولبنان تستهدف إسرائيل تصديع الكيانات السياسية لهذه الدول (وبعضها متصدع أصلا) لمنعها من بناء سياسات عسكرية دفاعية.

وفي المصطلح السياسي الأهلي العربي وصلت القوة الإسرائيلية إلى "عقر الدار" وقلب السكن الأهلي والعلاقات الأهلية. وهذا يعني أن التصديع بلغ ذروته. فعندما تدعو إسرائيل الدروز السوريين، وربما اللبنانيين، إلى أن يصيروا من أعمدة الأمن الإسرائيلي، فإن المستهدف في التصديع ليس النظامين السوري واللبناني، بل الدولتان والكيانان السياسيان.

أما الفلسطينيون فتعلن إسرائيل عزمها على محو هويتهم محوا كاملا، ليس الهوية المعنوية فحسب، بل المادية السكانية. أي الشعب الفلسطيني. وهذا كي لا يبقى شيء اسمه فلسطين وشعب فلسطيني وأرض فلسطينية.

font change

مقالات ذات صلة