أوليغارشيا "الحرب الأهلية" قوضت مصرف لبنان

من صموده إلى سقوطه... بين الدور الجامع والانهيار المفجع بعد التحالف مع الطوائف والمصارف

حاكم مصرف لبنان الراحل إدمون نعيم، في مكتبه المحصن بمتراس رملي خلال الحروب الأهلية اللبنانية

أوليغارشيا "الحرب الأهلية" قوضت مصرف لبنان

لا تقتصر نتائج الحرب الأهلية اللبنانية على سنتي 1975 -1976 اللتين كانتا بمثابة مقدمة أسست لما تلا من حروب وأزمات واغتيالات وأحداث مرت على بلاد الأرز. ولعل من أخطر نتائج الحرب ما انتهت اليه البلاد من انهيار مصرفي ومالي واقتصادي قبل خمس سنوات، كان مصرف لبنان، في قلب المتسببين به، خلافا لدور المصرف في بدايات الحرب وابان انهيار الليرة اللبنانية في أواخر الثمانينات.

أربعة أسماء قادت السياسات النقدية والمصرفية خلال الاحداث الدموية التي عاشها لبنان وامتدت لنحو خمس عشرة سنة بدءا من 13نيسان 1975.

أولها الرئيس اللبناني الراحل الياس سركيس الذي تولى حاكمية مصرف لبنان لمدة تسع سنوات، من عام 1967 الى حين انتخابه رئيسا للجمهورية في 8 مايو/ايار 1976. عمل خلالها على دعم سعر صرف الليرة اللبنانية بشراء كميات من الذهب بشكل مستمر الى حين اتخاذ الرئيس الاميركي ريتشارد نيكسون في عام 1971 قراره فك الارتباط بين الدولار والذهب الذي اتخذته اتفاقية "بريتون وودز".

وقد عززت سياسة سركيس الاحتياط الذهبي للبلاد فتصدر لبنان المرتبة الثانية بعد المملكة العربية السعودية في المنطقة، وانعكس هذا الامر استقرارا نقديا في عهده على الرغم من الهزات العنيفة للحرب الأهلية، وتأجج الصراع الإقليمي والدولي على أرض لبنان.

غيتي
الرئيس اللبناني الراحل إلياس سركيس

واعتبر المخزون الذهبي في وقت من الاوقات هدفا محتملا للميليشيات بعد عمليات السطو التي طالت المصارف في وسط العاصمة، ومن أشهرها سرقة البنك البريطاني للشرق الاوسط. وحال دون الأمر توازن رعب ضمني بين ميليشيات "بيروت الغربية" حيث يقع المقر الرئيس لمصرف لبنان وميليشيات "بيروت الشرقية" حيث مصادر المياه والطحين.

في 6 سبتمبر/ايلول 1978 عين الشيخ ميشال الخوري حاكما للمصرف، وشهدت ولايته خروج منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت، ومعها أموالها من المصارف اللبنانية، وتمويل شراء أسلحة ومعدات للجيش اللبناني

وقد أدى تدفق التمويل بالعملات الأجنبية للأحزاب اللبنانية ومنظمة التحرير الفلسطينية بعد انتقالها من الأردن إلى لبنان، إلى دعم الاستقرار النقدي، حيث تمحور سعر صرف الدولار حول 2.30 ليرة، وتوظيف عوائد من ارتفاع أسعار النفط غداة حرب أكتوبر/تشرين عام 1973 في المصارف اللبنانية.

وشجع بروز بيروت كمركز مالي ومصرفي اقليمي المصارف الأجنبية على التمركز فيها، وذلك بعد صدور عدد من القوانين الاصلاحية، مثل انشاء المؤسسة الوطنية لضمان الودائع، ولجنة للرقابة على المصارف، والهيئة المصرفية العليا التي تصدر العقوبات الادارية على المصارف المخالفة للقوانين والانظمة واعتماد احكام خاصة لإنشاء مصارف الاعمال والتسليف المتوسط والطويل الاجل ولإخضاع المصارف المتوقفة عن الدفع.

جوزيف اوغورليان وميشال الخوري

في 23 سبتمبر/ايلول 1976 حل جوزيف اوغورليان النائب الاول للحاكم محل سركيس عند تسلم الاخير مهامه الرئاسية. فاستمر في قيادة الحاكمية لنحو سنتين لم يضطر خلالهما الى اتخاذ اية مبادرات نقدية ومصرفية خاصة لوفرة الاحتياطات المكونة وذلك الى حين تعيين الشيخ ميشال الخوري في 6 سبتمبر/ايلول 1978 حاكما للمصرف. وقد ساعدت الطبيعة المتروية والتوافقية للأخير في معالجة مشاكل فرضها تقاسم قوى الامر الواقع مساحة الوطن. فقد توصل الى تفاهم معها لتسهيل نقل الأوراق النقدية الجديدة التي تصل بحرا الى طرابلس، بسبب اغلاق مرفأ ومطار بيروت بفعل العمليات العسكرية، الى المركز الرئيس في بيروت ليعاد توزيعها لتلبية حاجات اللبنانيين من مختلف المناطق، مما استدعى استحداث فرع لمصرف لبنان في جونيه عام 1979، ولاحقا في محافظات اخرى لتلبية طلبات كل الفئات اللبنانية للسيولة النقدية وخدمات فروع المصارف.

حاكم مصرف لبنان الأسبق ميشال الخوري، الصورة تعود لعام 1988

والحدثان البارزان اللذان حصلا خلال ولاية الخوري وأطلقا العنان لبداية انهيار سعر صرف الليرة، كانا خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان في أغسطس/آب 1982، وسحب أموالها من المصارف اللبنانية، التي قدرها البعض بمليارات عدة من الدولارات، ورضوخ الخوري عام 1984 لضغوط رئيس الجمهورية أمين الجميل باستخدام احتياطات المصرف بالعملات الأجنبية لشراء أسلحة ومعدات لزوم تسليح الجيش اللبناني، وانعكس ذلك سلبا على سعر صرف الليرة فتعدى الـ 18 ليرة للدولار.  

الحاكم الشجاع ادمون نعيم

في 12 يناير/كانون الثاني 1985 عين الدكتور ادمون نعيم حاكما لمصرف لبنان لمدة ست سنوات، حصل خلالها تدهور على كل المستويات الأمنية والسياسية والاقتصادية. فقد اغتيل رئيس الحكومة رشيد كرامي عام 1987. وانقسمت البلاد عند انتهاء حكم رئيس الجمهورية أمين الجميل، طوال سنتين من 1988 الى 1990 بين حكومتين، الأولى بقيادة قائد الجيش العماد ميشال عون في المنطقة الشرقية (الذي سماه الجميل رئيسا للحكومة في ربع الساعة الأخير من ولايته)، والثانية برئاسة رئيس الحكومة الراحل سليم الحص في المنطقة الغربية.

ما لبثت البلاد ان انزلقت في جولات جديدة من المعارك العبثية: حرب التحرير، وحرب الإلغاء، وحرب إقليم التفاح وغيرها. مما دفع الحاكم نعيم الى اتخاذ قرار بترتيب مقر إقامة دائمة له في مبنى المصرف. وقد أفردت مجلة "Institutional Investor" في عددها الصادر في ديسمبر/كانون الأول 1990 مقالا عنه مع صورة له بين أكياس الرمل في مكتبه، عنونته "The Banker in The Bunker" أي "المصرفي في الحصن".  

نجح الحاكم ادمون نعيم في إدارة الامور بعيدا من الانفعالات الطائفية السائدة، على الرغم من الضغوط عليه، وعمل لتأمين المناسب، بالتوازن بين طلبات الحكومتين من السيولة، وفق المنطق والحكمة، مع التمسك بالقانون

وقد نجح نعيم في إدارة الامور بعيدا من التشنجات السياسية، والانفعالات الطائفية، على الرغم من الضغوط عليه، وعمل لتأمين المناسب، بالتوازن بين طلبات الحكومتين من السيولة، وفق المنطق والحكمة، مع التمسك الشديد بالقانون، مطالبا اياهما بالامتناع عن الإنفاق غير المنتج، ورفع الدعم عن المحروقات، وإعادة السيطرة على المرافئ الشرعية وإغلاق غير الشرعية منها.

معارك نعيم مع وزارات المالية والداخلية والمصارف

وقد عارض في عام 1985 طلب وزير المالية الراحل كميل شمعون تحويل 80 في المئة من فروقات القطع واعادة تقييم الذهب إلى حساب الخزينة، حيث اعتبر نعيم أنها حسابات دفترية ليست ناتجة من بيع فعلي لأصول، بل من تدهور في سعر صرف الليرة، واحيل النزاع على هيئة التشريع والاستشارات في وزارة العدل فأفتت بصوابية تفسير نعيم للأمور، مع دعوة الى تعديل النصوص القانونية ذات الصلة.

رويترز
المبنى الرئيسي لمصرف لبنان، شارع الحمراء، بيروت 4 ابريل 2025

ورفض نعيم تحويل أموال لطباعة جوازات السفر لصالح وزارة الداخلية، لاكتشافه ان التكلفة مضخمة وتنطوي على فساد، استنادا الى استقصاء سري قام به حول الموضوع، ما دفع في حينه وزير الداخلية الياس الخازن الى إرسال عناصر من الدرك لاقتياد الحاكم من مكتبه بالقوة. وقد أفشل نعيم محاولة الخطف بمقاومته، بمساندة عدد من موظفي المصرف وحراسه الذين هبوا لنجدته، مما مكنه من الافلات والاحتماء في غرف خزنة المصرف. كذلك رفض نعيم ضغوط السلطة لتمويل الخزينة خارج قيود قانون النقد والتسليف، التي تتطلب وجود ظروف استثنائية او حالات الضرورة القصوى. فعمدت الحكومة الى دفع المجلس النيابي إلى إصدار قانون يلزم المصرف تمويل الخزينة، وبرنامج آخر لتقسيط ديون التجار. وكان رد نعيم فرض شروط قاسية في خصوص التنفيذ، من نوع عدم اضراره باستقرار النقد، واشترط تقسيط كل قرض الى اجزاء عدة، لا يدفع اي جزء قبل تقديم المستندات المثبتة لإنفاق القسط الذي سبقه وفقا للأصول. ورفض طلبات التمويل بالعملات الاجنبية الا لحاجات الكهرباء.

مواجهة مضاربة المصارف ضد الليرة

وخاض مصرف لبنان بقيادة نعيم معركة قاسية مع المصارف التي أطلقت مع تأزم الاحوال الاقتصادية موجات قاسية ومكثفة من عمليات المضاربة ضد سعر صرف الليرة، فتعدى سعرها 840 ليرة للدولار الواحد في نهاية عام 1990، واستخدمت أموال المودعين لهذا الغرض.

اغضبت تعاميم نعيم المصارف فخاصمت جمعيتها مصرف لبنان طاعنة في التعاميم التي تطالبها بتكوين الاحتياطات الالزامية الاضافية بالليرة امام مجلس الشورى، وضاربت ضد الليرة اللبنانية

وقد عمل نعيم بوسائل عدة للجم المضاربة ضد النقد الوطني، فضغط لفتح باب الإكتتاب بسندات الخزينة للجمهور لسحب جزء من السيولة بالليرة من المصارف، كما فرض على الاخيرة اكتتاب كل مصرف بـ20 في المئة من ودائعه بسندات الخزينة بالليرة. وطالب كل مصرف بتكوين احتياطات الزامية اضافية بالليرة بعد بلوغ ودائعه حجما معينا وبعد تاريخ معين.

للهروب من تعاميم مصرف لبنان وشروطه، عمدت المصارف الى تكوين مراكز بالليرة في الخارج، فما كان من نعيم الا ان أصدر حظرا عليها بتلقي ودائع أو تقديم تسليفات أو فتح حسابات بالليرة للمصارف والمؤسسات المالية والصيرفية غير المقيمة ومنحها التسليفات بالليرة لغير المقيمين. ودعاها إلى تصفية كل التسليفات القائمة بالليرة لغير المقيمين. وكانت الحجة عدم وجود سبب لحمل الليرة وتراكمها في الخارج إلا لاعمال المضاربة من هناك.

وقد أغضبت تعاميم نعيم المصارف فخاصمت جمعيتها مصرف لبنان طاعنة في التعاميم التي تطالبها بتكوين الاحتياطات الالزامية الاضافية بالليرة امام مجلس الشورى. ولم يقيض للأخير بت المخاصمة لأن تسوية حصلت لاحقا مع الحاكم ميشال الخوري الذي خلف نعيم لاحقا (مجددا في منصب الحاكمية) تضمنت الرجوع عنها وعودة المصارف الى الاكتتاب بسندات الخزينة.

.أ.ف.ب
من اليمين، رئيس مجلس النواب اللبناني السابق حسين الحسيني، وزير الخارجية السعودي السابق الأميرسعود الفيصل ووزير الخارجية الجزائري أحمد الغسالي، في مؤتمر صحافي في الطائف 30 سبتمبر 1989

وفي السنوات الاخيرة من ولاية نعيم ضربت الأزمة عددا من المصارف، فتوقفت أربعة منها عن الدفع وجرت تصفيتها أصولا واختار أحدها التصفية الذاتية، اما الباقية فحصلت على التمويل المناسب من مصرف لبنان مقابل أصول وضمانات عقارية قدمت اليه.

ظهور أوليغارشيا مصرفية-سياسية

في 30 سبتمبر/ايلول 1989 توصل اللبنانيون المجتمعون في الطائف برعاية سعودية الى اتفاق انهى الحرب الاهلية، واعتمد اصلاحات دستورية للمستقبل. بعدها بسنة وبضعة أشهر، أعيد تعيين الشيخ ميشال الخوري في يناير/كانون الثاني 1991 حاكما لمصرف لبنان لغاية أغسطس/آب 1993 حيث قدم استقالته نتيجة ارتفاع في سعر صرف الدولار لامس الثلاثة آلاف ليرة، اثر اعلان مصرف لبنان التوقف عن التدخل في سوق القطع، مما أطلق تظاهرات الغضب وحرق الاطارات. ثم خلفه رياض سلامه في المنصب لنحو 30 سنة، شهدت البلاد في سنواتها الاخيرة أكبر انهيار نقدي ومصرفي في تاريخ البلاد حيث لامس سعر صرف الدولار المئة ألف ليرة.

في كتابه "الانقلاب على الطائف"، وصف البير منصور من موقعه كنائب ووزير في مرحلة بعد الطائف "بأن الحكم الفعلي بعد الاتفاق أصبح بيد المصارف بالكامل، فكانت تنهب البلد وتأكل حقوق الناس بالتعاون المطلق مع السلطة".

أهم ركيزة استندت اليها الأوليغارشيا المصرفية السياسية الجديدة، بغطاء كامل من أمراء الحرب الأهلية أنفسهم لتدعيم سلطتها، كانت استقطاب المصرفيين الى قيادة مصرف لبنان

وأهم ركيزة استندت اليها الأوليغارشيا المصرفية السياسية الجديدة، بغطاء كامل من أمراء الحرب الأهلية (1975-1976) أنفسهم لتدعيم سلطتها، كانت استقطاب المصرفيين الى قيادة مصرف لبنان. وافتتح الامر بإعادة استقطاب ميشال الخوري الى سدة الحاكمية مرة ثانية سبق له فيهما تقلد منصبين عاليين في مصرفين لبنانيين بتناقض لما تشير اليه بوضوح الاسباب الموجبة لقانون النقد والتسليف من ضرورة استبعاد رجال السلطة والمال عن التأثير على ادارة مصرف لبنان.  

 المصارف أكثر خطورة من الجيوش

وتفاقمت الامور اكثر بعد الخوري مع تسلم رياض سلامة سدة الحاكمية، الذي تحالف مع المصارف وزعماء الطوائف والسلطة و"حزب الله"، مما ادى في النهاية الى الانهيار الكارثي عام 2019، الذي يجرجر اللبنانيون تبعاته الى اليوم، وكان وقعه مفجعا بمستوى الحرب الأهلية وما تلاها، وذكرت صحيفة "لوموند" الفرنسية في أحد عناوينها في نوفمبر/تشرين الثاني 2019 ان مصرف لبنان اعتمد في أيام سلامة "سياسة خاصة أسهمت في ارتفاع ثروة النخبة الحاكمة في البلاد".  

أ.ف.ب.
الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة، بيروت 20 ديسمبر 2021

قبل أكثر من مئتي عام حذر الرئيس الاميركي توماس جيفرسون في خطاب له عام 1802 من سيطرة المصارف على المؤسسة المصدرة للنقد. فذكّر "ان المصارف أكثر خطورة على حريات الشعب الاميركي من جيوش بأكملها، فهي ستحرم الناس من ممتلكاتهم أولا من خلال التضخم، ثم من خلال الركود، حتى اليوم الذي يستيقظ فيه الأطفال بلا مأوى ولا سقف على الأرض التي تملكها آباؤهم".

font change

مقالات ذات صلة