في 13 أبريل/ نيسان 2025، طوى القدر صفحة قامة أدبية وفكرية شامخة، هو البيروفي الحائز نوبل للآداب ماريو بارغاس يوسا. لم يكن الراحل مجرد روائي عابر، بل كان صوتا مدويا أثرى سماء الفكر والثقافة العالميين، وبذكاء حاد وموهبة فذة، أعاد تشكيل ملامح الأدب اللاتيني، محولا إياه إلى جسر متين يربط بين عوالم الإنسان الخاصة وهمومه الكونية. يوسا، عراب الرواية البيروفية الذي استقر في ذاكرة التاريخ، ترك بصمات عميقة لا تُمحى على امتداد القرنين العشرين والحادي والعشرين. لقد كان في محراب الأدب، مهندسا بارعا للسرد، يزاوج بمهارة نادرة بين جرأة التجريب التقني وعمق الواقعية النقدية. ففي رحاب رواياته الخالدة، كـ"حرب نهاية العالم" و"حديث في الكاتدرائية"، تتجلى قدرته الاستثنائية على نسج عوالم روائية آسرة، تستكشف بدقة وتعقيد خبايا المجتمع ودهاليز النفس البشرية. وبأسلوبه المتعدد الأصوات، الذي يتسم بالتداخل الزمني والحوارات الممتدة، كان يوسا يمنح قارئه متعة أدبية رفيعة المستوى، مصحوبة بتحدٍ فكري يوقظ الذهن.
البدايات
في 28 مارس/ آذار 1936، أبصر خورخي ماريو بيدرو بارغاس يوسا النور في مدينة أريكيبا الجنوبية في بيرو، لعائلة تنتمي إلى الطبقة المتوسطة. وقد طبعت طفولته المبكرة تجربة انفصال والديه، بمزيج من الشوق والتحدي. عاش بعض سنواته الأولى في بوليفيا، حيث انتقلت عائلته، قبل أن يعود إلى بيرو ليتلقى تعليما صارما في أكاديمية ليونسيو برادو العسكرية. هذه التجربة القاسية، التي وصفها لاحقا بأنها شكلت مادة خاما لروايته الأولى "المدينة والكلاب" (1963)، حققت نجاحا مدويا وحصدت العديد من الجوائز المرموقة.
التحق بجامعة سان ماركوس الوطنية في ليما، حيث نهل من علوم القانون والآداب، وبدأ وعيه يتشكل بتأثير الأفكار السياسية اليسارية في شبابه. وقاده شغفه العميق بالقراءة والكتابة إلى باريس في ستينات القرن العشرين، حيث عمل صحافيا وكاتبا ناشئا، منغمسا في الأجواء الأدبية الأوروبية واللاتينية الزاخرة. وفي باريس، ترسخت علاقته بكتاب "الطفرة الأدبية" في أميركا اللاتينية، أمثال غبريال غارسيا ماركيز وخوليو كورتازار، ليصبح جزءا لا يتجزأ من هذه الحركة الأدبية المؤثرة الجريئة التي أعادت صياغة مفهوم الرواية اللاتينية، فمزجت ببراعة آسرة بين صلابة الواقع وخصوبة الخيال، وجرأة التجريب في تقنيات السرد وعمق الغوص في تعقيدات المجتمعات اللاتينية.
في رحاب رواياته الباذخة، كـ"البيت الأخضر" (1966) و"حديث في الكاتدرائية" (1969)، تجلت قدرته الفائقة على نسج حكايات متشابكة الخيوط، تكشف النقاب عن براثن الفساد، وطغيان الظلم، وصراعات السلطة المتأصلة في تربة بيرو وخارجها. ففي "البيت الأخضر"، استكشف التناقضات الحادة بين مختلف الثقافات البيروفية، بينما في "حديث في الكاتدرائية"، رسم بفرشاة فنان متمكن لوحة قاتمة تجسد عبث السياسة ونفاقها المتجذر في ظل حكم الديكتاتورية. أما تحفته الروائية "حرب نهاية العالم" (1981)، فتعد من أمهات أعماله، حيث أعاد صوغ أحداث ثورة كانودوس في البرازيل، أواخر القرن التاسع عشر، بأسلوب يجمع بين دقة المؤرخ وجمالية الأسطورة. تناولت الرواية بجرأة قضايا التعصب والعنف والمقاومة، وكشفت عن طموحه الذي تجاوز حدود بيرو الضيقة ليلامس قضايا إنسانية ذات بعد عالمي. وفي "حفلة التيس" (2000)، قدم تأملات عميقة حول طبيعة الديكتاتورية من خلال شخصية رافائيل تروخيو في جمهورية الدومينيكان، وبرع في تصوير التأثير المدمر للسلطة المطلقة على الفرد والمجتمع برمته.