خمسون عاما على الحرب الأهلية اللبنانية والانهيارات الاقتصادية مستمرة

خسارة بشرية هائلة وتكاليف بمليارات الدولارات ضخمها الفساد والطائفية ومحسوبيات أمراء الحرب

غيتي
غيتي
مقاتل في أحد شوارع بيروت، خلال الحرب الأهلية في لبنان، 1975

خمسون عاما على الحرب الأهلية اللبنانية والانهيارات الاقتصادية مستمرة

لا تزال ذاكرة اللبنانيين مثقلة بالحرب الأهلية التي اندلعت في 13 أبريل/نيسان 1975، ذاكرة مفعمة بالخوف والحزن والمآسي. استمرت الحرب حتى عام 1990، وأسفرت عن مقتل نحو 130 ألف شخص (بحسب تقرير لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة نشر عام 2006)، وتشريد أكثر من مليون آخرين. ولم تقتصر تداعياتها على الخسائر البشرية، بل شملت اقتصاد البلاد بمختلف مرافقه ومؤسساته، فدمرت البنى التحتية وأثقلت البلاد بديون هائلة، لا تزال تعيق تقدمها حتى اليوم.

قُدِّرت تكاليف إعادة الإعمار بعشرات مليارات الدولارات، وتراكمت على لبنان ديون كبيرة لتمويل الإنفاق خلال الحرب، وتكاليف إعادة الإعمار بعد الحرب والديون. كما هاجر عشرات الآلاف من اللبنانيين، وأخذوا رؤوس أموالهم معهم.

قتل البشر ودمار الحجر

كان للحرب الأهلية (1975-1976) تداعيات إقتصادية عميقة ودائمة على لبنان، البلد الذي عُرف سابقا بـ"سويسرا الشرق" بفضل قطاعه المصرفي المزدهر واقتصاده النابض بالحياة. وقد أدى الصراع الذي غذته التوترات الطائفية وعدم الاستقرار السياسي والتدخلات الأجنبية، والأزمات المصرفية والمالية المستمرة دون أي خطط واضحة لتصحيح الوضع الاقتصادي وتصويب الخطط المالية العامة، إلى تراجع حاد في مكانته الاقتصادية.

غيتي
صورة شهيرة لسيدة تصرخ طلبًا لمساعدة زوجها الجريح في منطقة الدكوانة في بيروت خلال اشتباكات الشوارع أثناء الحرب الأهلية في لبنان (1975-1976)

أحدثت الحرب دمارا ماديا واسعا، حيث تحولت مدن رئيسة مثل بيروت، المركز التجاري والثقافي السابق، إلى أنقاض. تضررت البنية التحتية الأساسية بما في ذلك الطرق، الجسور، المطار، المرافىء، ومحطات الطاقة، مما أعاق التجارة والخدمات. لا يوجد هناك رقم محدد، لكن قدرت تكاليف إعادة الإعمار بنحو 20 مليار دولار أميركي وفقا لدراسة أجراها صندوق التنمية العربي، وهو عبء تفاقم بالاعتماد على القروض الخارجية، مما أدى إلى تضخم الدين العام.

في عام 1975 كان سعر صرف العملة 2,25 ليرة لبنانية في مقابل الدولار، وأصبح 505 ليرات في نهاية عام 1989

بينما ركزت إعادة الإعمار على البنية التحتية في بيروت، أهملت المناطق الأخرى، إذ أعطت جهود إعادة الإعمار أولوية كبيرة للعاصمة، خصوصا مركز بيروت التجاري، بهدف استعادة مكانتها كمركز مالي وثقافي. حول مشروع "سوليدير" وسط بيروت إلى منطقة تجارية حديثة، لكنه تسبب في نزوح العديد من السكان الأصليين والشركات الصغيرة وأصحاب المهن وصغار الكسبة، مفضلاً مشاريع التطوير الفاخرة للنخبة. أما المناطق الريفية التي تضررت بشدة، فقد حظيت باهتمام أقل بكثير، مما أدى إلى تفاقم التفاوتات، وتعاظم الاستياء.

هروب رؤوس الأموال وخراب المصارف

قبل الحرب، كان القطاع المصرفي في لبنان قوة إقليمية مؤثرة، مستفيدا من سياسات مالية ليبيرالية وسمعة مستقرة. لكن الصراع قوض هذه الثقة، حيث نهبت الميليشيات المصارف، وانخفضت قيمة الليرة اللبنانية بشكل حاد، وتفشى التضخم المفرط. ففي عام 1975 كان سعر الصرف نحو 2,25 ليرة لبنانية في مقابل الدولار الأميركي، وأصبح 505 ليرات في نهاية عام 1989. وأضحى هروب رؤوس الأموال أمرا حتميا، حيث نقل الأثرياء والشركات أصولهم إلى الخارج، مما أدى إلى استنزاف السيولة التي كان الاقتصاد في أمس الحاجة إليها آنذاك.

أ.ف.ب.
بائع خضر وفاكهة أمام متجر للزهور في أحد شوارع وسط بيروت قبل الحرب، أكتوبر 1973

ساهمت طبيعة الاقتصاد اللبناني في تعزيز الجمود السياسي الذي عاشه لبنان لفترة طويلة، من دون تطور أو تغيير في البنية الاقتصادية، إذ استند هذا الاقتصاد إلى الخدمات التي مثلت نحو 70 في المئة من الدخل القومي، وهي من أعلى النسب في العالم. وجوهر هذا القطاع هو العمل المصرفي، ولعل أكثر ما ميز السوق المالية في لبنان، أن ثلثي نشاطها كان في أيدي المصارف، الأجنبية والمختلطة، أما الثلث الباقي فقد افتقد التنوع، إذ لم يكن هناك مصارف متخصصة باستثناء مصرف التسليف الزراعي والصناعي. وأكدت الإحصاءات أن خطر المصارف الأجنبية في لبنان ينبع من إقدامها على سحب قسم مهم من القروض، التي كان يمكن الاقتصاد اللبناني أن يستفيد منها، واستثمارها في الخارج.

كذلك، اعتمد اقتصاد لبنان قبل الحرب اعتمادا كبيرا على التجارة والسياحة والخدمات، وجميعها انهار خلال الصراع الدموي. وعطلت الحرب سلاسل التوريد، وتضاءل دور البلاد كمركز تجاري بين الشرق والغرب. وتبخرت السياحة التي كانت مصدرا رئيسا للدخل، وكان القطاع السياحي الحلقة الأضعف، إذ استنزفت الصدمات المتتالية التي تعرض لها، لا سيما الأمنية منها، ما حققه خلال فترات التعافي. وواجهت الفنادق والمطاعم والصناعات ذات الصلة دمارا شبه كامل.

الهجرة الجماعية وخسارة الأدمغة

تشير التقديرات إلى أن أكثر من مليون شخص، أي نحو ثلث السكان، فروا من البلاد. وشمل ذلك جزءا كبيرا من القوى العاملة المتعلمة والماهرة، مما أدى إلى هجرة حادة للأدمغة. أعاق فقدان رأس المال البشري الانتعاش الاقتصادي والابتكار لعقود، حيث لم يعد العديد من المهنيين الذين غادروا البلاد.

لعبت الجاليات اللبنانية الكبيرة في الخارج دورا حاسما في إعادة الإعمار. وقد وفّرت التحويلات المالية، شريان حياة للأسر، وغذّت الاستثمار الخاص في الإسكان والمشاريع الصغيرة

لعبت الجاليات اللبنانية الكبيرة في الخارج دورا حاسما في إعادة الإعمار. وقد وفّرت التحويلات المالية، التي قدّرت بنحو مليارين إلى 3 مليارات دولار سنويا في التسعينات، شريان حياة للأسر، وغذّت الاستثمار الخاص في الإسكان والمشاريع الصغيرة. إلا أن الاعتماد على التمويل الخارجي حجب الحاجة إلى نمو محلي مستدام، وأخّر الإصلاحات الهيكلية، حيث اعتمدت الحكومة على ثروات المغتربين بدلا من بناء اقتصاد محلي قوي.

كما أدت الهجرة إلى افتقار لبنان للقوى العاملة الماهرة اللازمة لإعادة إعمار فاعلة. فبينما عاد بعض المهنيين، بقي كثيرون في الخارج، مما فرض الاعتماد على الخبرات الأجنبية وتضخم التكاليف. إضافة إلى ذلك، خلّفت صدمة الحرب من نزوح وفقر وخسائر، سكانا يكافحون للعيش، مع ارتفاع معدلات البطالة والاضطرابات الاجتماعية التي زادت الواقع تعقيدا.

الاعتماد على الاقتراض وارتفاع الديون

تم تمويل إعادة الإعمار بعد الحرب إلى حد كبير من خلال الاقتراض بدلا من الإيرادات المحلية، كنتيجة مباشرة لاستنزاف رأس المال والقاعدة الضريبية بسبب الحرب. أصدرت الحكومة سندات خزينة مرتفعة الفائدة وسعت إلى الحصول على قروض من الدول الغربية ودول الخليج.

أ.ف.ب.
فلسطيني أمام مبنى مدمر في بيروت، 21 يوليو 1982، في وقت كان الجيش الإسرائيلي قد غزا جنوب لبنان ضمن عملية "سلامة الجليل" وفرض حصارا على بيروت.

وفي أواخر التسعينات، ووفقا لتقرير نشرته صحيفة "وول ستريت جورنال" وصل لبنان الى "واحد من أعلى نسب الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في العالم، حيث يرتفع إلى أكثر من 150 في المئة مع تحمل المزيد من الديون لسد فجوات الموازنة". موّل هذا النهج القائم على الديون مشاريع البنية التحتية، مثل الطرق السريعة ومطار بيروت، لكنه أوجد هيكلا ماليا هشا، مما أخر الإصلاحات الضرورية، ومهد الطريق للأزمات الاقتصادية التي أعقبت ذلك بعقود.

التحول إلى اقتصاد حرب

أدى الصراع الطويل إلى نشوء اقتصاد حرب اتسم بالتهريب والأسواق السوداء والتجارة غير المشروعة، وسيطرت الميليشيات على قطاعات اقتصادية رئيسة، مثل توزيع الوقود والغذاء، مستفيدة في كثير من الأحيان من نقص المواد الغذائية وارتفاع الأسعار. أدى ذلك إلى ترسيخ الفساد وتقويض النشاط الاقتصادي المشروع، وهي آثار استمرت لفترة طويلة بعد انتهاء الحرب باتفاق الطائف عام 1989.

الحرب الأهلية كلّفت لبنان خسائر اقتصادية لا تزال تعصف برزق المواطن حتى اليوم وتعيق نمو اقتصاد الدولة، ناهيك عن الجروح النفسيّة والاجتماعية الغائرة في الجسد اللبناني

في عام 1990، انكمش الناتج المحلي الإجمالي للبنان بشكل كبير عن ذروته قبل الحرب، ويشير البنك الدولي إلى أن نصيب الفرد من الناتج الإجمالي كان نحو 1200 دولار في عام 1975، بينما قارب 400 دولار أميركي في عام 1989.

غيتي
مقاتلون من تنظيم حركة الناصريين المستقلين "المرابطون" فوق دبابة في أحد شوارع بيروت خلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1976)

ترك اقتصاد الحرب غير المشروع بصمة دائمة، وتغلغل الفساد في عمليات إعادة الإعمار، حيث أدت الرشاوى وسوء الإدارة إلى تضخيم التكاليف وتقويض جودة المشاريع. على سبيل المثل، ظل قطاع الكهرباء، الذي دمره الحرب، معطلا رغم الاستثمارات التي بلغت عشرات مليارات الدولارات، وذلك بسبب التدخل السياسي والمصالح الخاصة.

الانقسامات الطائفية وعدم الاستقرار السياسي

عمّقت الحرب الانقسامات الطائفية، التي امتدت إلى فترة ما بعد الحرب، وعقّدت عملية إعادة الإعمار. أنهى اتفاق الطائف الصراع بإعادة توزيع السلطة السياسية بين الجماعات المتنازعة، لكنه كرّس نظام حكم هشا قائما على الطائفية. وكثيرا ما أصبحت مشاريع إعادة الإعمار ساحات صراع للمحسوبية السياسية، حيث خُصّصت الموارد بناء على الولاءات الطائفية بدلا من الأولويات الوطنية. أدى هذا النقص في الكفاءة إلى إبطاء التقدم وتعزيز الفساد، حيث حوّل أمراء الحرب، الذين تحولوا إلى قادة سياسيين، الأموال لتحقيق مكاسب شخصية.

باختصار، حوّلت الحرب الأهلية اللبنانية لبنان من وطن مزدهر إلى وطن يعاني من عدم الاستقرار الاقتصادي والديون والتبعية. ولا تزال تداعياتها ملموسة حتى اليوم، إذ يعاني لبنان من أزمات مالية مستمرة ناجمة عن أضرار الحرب طويلة الأمد. فالحرب الأهلية كلّفت لبنان خسائر اقتصادية لا تزال تعصف برزق المواطن وتعيق اقتصاد الدولة، ناهيك عن الجروح النفسية والاجتماعية الغائرة في الجسد اللبناني الماثلة بقوة في مختلف مظاهر الحياة والسلوك اليومي.

غيتي
مركبات عسكرية تابعة للجيش البريطاني في بيروت، عام 1983.

في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، حقق لبنان تقدما ملحوظا، بنية تحتية جديدة، وقطاعا سياحيا منتعشا، وعملة مستقرة مرتبطة بالدولار الأميركي. مع ذلك، فإن اعتماد إعادة الإعمار الكبير على الديون، وإهمال الإصلاحات الهيكلية، والفشل في معالجة التوترات الطائفية، جعل الانتعاش سطحيا، وثبت أن النموذج الاقتصادي غير مستدام، كما يتضح من تخلف لبنان عن سداد ديونه في عام 2020، وهي أزمة متجذرة في الحرب وتداعياتها غير المتوقعة.

فهل يمكن لبنان أن يتجاوز إرث الحرب يوما ما، أم ستظل تداعياتها تعيق تقدمه، وهل تكون الإرادة اللبنانية مفتاحا لتجاوز هذا الإرث؟

font change