مهرجان أفلام السعودية: سينما الهوية

ما الذي يُروى حين نقرر أن نُرى؟

saudi film festival
saudi film festival
من مهرجان الفيلم السعودي

مهرجان أفلام السعودية: سينما الهوية

منذ انطلاق "مهرجان أفلام السعودية" في 2008، بدا خطوة مهمة نحو تأسيس مشهد سينمائي سعودي وعربي تحركه الرغبة أكثر مما تدعمه البنية. مهرجان صغير بأحلام كبيرة، وبتوقيت ظهر في حينه سابقا لسياقه الثقافي والاجتماعي. لكنه على امتداد أحد عشر إصدارا، ومنذ تأسيسه كمبادرة لعرض الأفلام المحلية، راكم حضورا جعل منه اليوم خطابا عن معنى أن تكون للسينما السعودية ذاكرة، ولرؤيتها مرجعية تتشكل تدريجيا.

في دورته الحادية عشرة، وبتنظيم من "جمعية السينما" وبالشراكة مع مركز الملك عبد العزيز الثقافي "إثراء"، وبدعم من "هيئة الأفلام"، تنطلق الدورة هذا العام من 17 إلى 23 أبريل/ نيسان تحت شعار "قصص تُرى وتُروى". يحاول المهرجان أن يرسم ملامح سردية موسعة عن الذات السعودية، وعلاقتها بصورة الآخر، وزاوية رؤيتها لذاتها وهي تتشكل وتتحول. هذا الشعار الذي يقدم نفسه كجملة بلاغية، يظهر من جانب آخر كبنية ثقافية تتداخل فيها مفاهيم السرد والأداء والتلقي والهوية. وهنا أيضا يظهر الدور المزدوج للمهرجان هذا العام، فهو استعراض لما تراكم، وفي الوقت نفسه بحث عما لم يشاهَد بعد.

برنامج حافل

بعد إعلان برنامج المهرجان، نستطيع القول إن الدورة الجديدة تحمل ملامح توسع واضح: 68 فيلما سعوديا وخليجيا ودوليا، و131 برنامجا وفعالية مصاحبة، شراكات مع مهرجانات دولية من فرنسا واليابان، سوق إنتاج نشط، ومعامل تطوير سيناريو، إلى جانب تكريم الشخصية الفنية، وبرنامج خاص عن السينما اليابانية من خلال مختارات من أفلام روائية قصيرة لمخرجين متنوعين مثل: يوهي أوسابي، تومومي موراغش، كوجي يامامورا، وفيلمان طويلان للمخرجَين كين أوتشيلي، وماساكازو كانيكو.

يحاول المهرجان أن يرسم ملامح سردية موسعة عن الذات السعودية، وعلاقتها بصورة الآخر، وزاوية رؤيتها لذاتها وهي تتشكل وتتحول

هذا الزخم التنظيمي لا يمكن فصله عن السياق الأوسع الذي يعيشه النشاط السينمائي السعودي، من حيث النمو المؤسسي والدعم الإنتاجي، لكنه أيضا يطرح أسئلة جوهرية عن طبيعة هذه التراكمات: هل نحن أمام مشهد يتكاثر عدديا؟ أم خطاب فني يتشكل نوعيا؟

منذ 2015، حين عاد المهرجان بعد توقف سبع سنوات، بات واضحا أن هناك رغبة في جعله منصة مركزية لعرض أفلام التجربة الأولى وصياغة تصور متكامل عن شكل السينما المقبلة، وعن سمات المؤلف والمخرج والممثل والمنتج السعودي.

ولاء باحفظ الله

تتنافس في مسابقة الأفلام الروائية الطويلة لهذا العام ثمانية أفلام تمثل طيفا متنوعا من التجارب السعودية والعربية وتشرف على تقييمها لجنة تحكيم دولية مكونة من:

إسماعيل فروخي (رئيس اللجنة): مخرج وكاتب سيناريو مغربي نال جوائز من مهرجان كان السينمائي، ويُعرف بمعالجته موضوعات الهوية والهجرة.

ولاء باحفظ الله: صانعة أفلام سعودية ومديرة تنفيذية، لها مساهمات إنتاجية مؤثرة واهتمام خاص بالسرد الاجتماعي وقضايا المرأة.

لورا يو ماركس: باحثة وأستاذة جامعية بكندا، تُعرف بكتابتها عن الفلسفة والوسائط البصرية.

فهد البتيري وإبراهيم الحجاج في فيلم "إسعاف" (2025)

وتشمل قائمة الأفلام المتنافسة في هذه المسابقة:

الفيلم الكوميدي "إسعاف" للمخرج كولين تيغ، من بطولة الممثل ابراهيم الحجاج، كما يعرض فيلم الإثارة النفسية "ثقوب" للمخرج عبد المحسن الضبعان، وفيلم "سلمى وقمر" للمخرجة السعودية عهد كامل، وفيلم "هوبال" الفائز بجائزة تصويت الجمهور في الدورة الرابعة من مهرجان البحر الأحمر للمخرج السعودي عبد العزيز الشلاحي، والفيلم الحائز جائزة أفضل سيناريو في المهرجان نفسه، "أناشيد آدم"، للمخرج العراقي عدي رشيد، وفيلم "رفعت الجلسة" للمخرج الكويتي محمد المجيبل، وفيلم "فخر السويدي" الذي عرض في مهرجان القاهرة السينمائي في دورته المنقضية للمخرجين هشام فتحي (مصر)، وعبدالله بامجبور وأسامة صالح (السعودية)، وفيلم "سوار" للمخرج  السعودي أسامة الخريجي.

هذا الزخم التنظيمي لا يمكن فصله عن السياق الأوسع الذي يعيشه النشاط السينمائي السعودي، من حيث النمو المؤسسي والدعم الإنتاجي

ومن ضمن المسابقات الرسمية، يستعرض المهرجان هذا العام سبعة أفلام وثائقية تتنوع بين التأمل الشخصي والرصد الاجتماعي والبحث البصري، وتشرف على تقييمها لجنة تحكيم تضم:

ماريان خوري: مخرجة ومنتجة مصرية معروفة، ومديرة فنية لمهرجان الجونة، ومؤسسة سينما "زاوية".

فيصل العتيبي: مخرج ومنتج سعودي وله دور بارز في المشهد المحلي في السينما الوثائقية.

سيلفي باليو: مخرجة ومصورة فرنسية تهتم بالسرد الحميمي والتجريبي، وشاركت في مهرجانات عالمية مثل كان ولوكارنو.

أمل سامي في فيلم "هوبال" (2024)

أما في مسابقة الأفلام الروائية القصيرة، والتي تشهد هذا العام مشاركة 21 فيلمًا متنوعًا في اللغة والأسلوب، فتتولى التحكيم لجنة مكوّنة من:

جين أوشياي: مخرج ياباني.

ليالي بدر: كاتبة ومخرجة ومستشارة محتوى أردنية.

مصعب العمري: مخرج وصانع محتوى سعودي.

تُظهر هذه التشكيلات توجهًا واضحًا نحو مزيج من الخبرات المحلية والعربية والعالمية، وتجعل من لجان التحكيم مرآة تعكس ما يسعى إليه المهرجان: الجمع بين الجذور والانفتاح.

 Eamonn M. McCormack/Getty Images
إبراهيم الحساوي خلال جلسة تصوير فيلم "هجّان" في مهرجان البحر الأحمر السينمائي 2023 بجدة

سينما الهوية

وسط كل هذا الاتساع الملفت للدورة، تبرز الحاجة لاحقاً إلى قراءة موازية لما يُعرض وينظَّم ويُحتفى به. فالمهرجان، في لحظته المؤسسية المكتملة من خلال ما أعلن عن أجندته، يتجاوز التساؤلات حول هوية السينما السعودية التي تتكررعلى مدى السنوات الماضية، ويقدم هذا العام  شعار "سينما الهوية" باستعراض تجارب متباينة في الشكل والمضمون، تتقاطع جميعها عند سؤال الوجود الفردي ضمن منظومات اجتماعية متحوّلة.

تعتبر هذه الأعمال إطارا مفتوحا لاستكشاف السينما حين تتعامل مع الهشاشة الإنسانية بوصفها مرآة لتكوّن الهوية. فتتحول العائلة والمكان، والغياب والجسد، إلى أدوات حفر داخلي

فالأفلام المختارة من فلسطين ولبنان والمغرب والأردن وفرنسا والمملكة المتحدة تقدم رؤى حميمة ومضطربة عن العلاقة بالذات والآخر، عن اللغة والذاكرة، والانفصال والانتماء.

"في غرفة الانتظار" فيلم لمعتصم طه

تتضمن هذه البرمجة أعمالا ليست طازجة لكنها تعكس مضمون الشعار مثل: "حبّيبتي" إخراج أنطوان ستيله، "في قاعة الانتظار" إخراج معتصم طه، "شِيخة" إخراج زهرة راجي وأيوب اليوسفي، "إذا غرقت الشمس في بحر الغمام" (لبنان، وسام شرف)، و"احتفظ" إخراج لويس روز، وغيرها من الأفلام القصيرة التي تنتمي إلى خطابات متفرعة حول معنى الهوية.

وتعتبر هذه الأعمال إطارا مفتوحا لاستكشاف السينما حين تتعامل مع الهشاشة الإنسانية بوصفها مرآة لتكوّن الهوية. فتتحول العائلة والمكان، والغياب والجسد، إلى أدوات حفر داخلي، تضع الفرد في مواجهة سرديات موروثة، أو أحمال غير مرئية. في هذا المعنى، لا تُستخدم الهوية كعلامة إثبات، بل كمجال متوتر بين الرغبة في التعريف، والخوف من التقييد.

عزام أحمد في فيلم "أغاني آدم" (2024)

ابراهيم الحساوي مكرما

تكريم الفنان إبراهيم الحساوي هذا العام، هو أيضا فعل رمزي بامتياز، ليس لأن الحساوي أحد أهم ممثلي المشهد الدرامي في المملكة فحسب، بل لأنه يختصر في تجربته الشخصية التحولات التي مر بها في حالات التمثيل، فالحساوي كان حريصا على أن يكون جزءا من كل طور تمر به التجربة الفنية السعودية، فمن مسرح القرية إلى المؤسسة التلفزيونية التقليدية، إلى تشجيعه ومشاركته في التجارب الأولى في الأفلام القصيرة مثل فيلمي "عايش" للمخرج عبدالله العياف و"بسطة" للمخرجة هند الفهاد، إلى كونه "جوكر" الأفلام الروائية الطويلة وخيارا أساسيا لمخرجين سعوديين وعرب في السنوات الأخيرة، مثل: "الشجرة النائمة" للمخرج البحريني محمد راشد أبوعلي، و"قبل أن ننسى" للمخرج الاماراتي نواف الجناحي، و"هجان" للمخرج المصري شوقي أبو بكر، و"هوبال" للمخرج السعودي عبد العزيز الشلاحي.

يمثل الحساوي تعبيرا ثقافيا عن كل تلك التحولات، إذ يعكسها ببساطة وعمق معا، وتكريمه لا يمثل حالة فردية، بل تكريم لمسار وجيل ظل يعمل بصمت وهدوء

يمثل الحساوي إذن تعبيرا ثقافيا عن كل تلك التحولات، إذ يعكسها ببساطة وعمق معا، وتكريمه لا يمثل حالة فردية، فكما حدث في السنة الماضية مع اختيار الفنان عبد المحسن النمر، هو تكريم لمسار وجيل  ظل يعمل بصمت وهدوء. بالتزامن مع تكريم إبراهيم الحساوي، يصدر كتاب بالتعاون مع "مؤسسة جسور" ومن إعداد جعفر عمران عن مسيرته وشهادات عنه بعنوان "من مسرح القرية إلى الشاشة العالمية".

إبراهيم الحساوي في فيلم "صفر مسافة" (2020)

كما سيتم توقيع مؤلفات أخرى لكل من عبد المحسن المطيري وأمين صالح ومحمد البشير وحسن الحجيلي وبلال البدر.

إضافة إلى ذلك، تطرح الدورة الجديدة توسعا واضحا في فكرة المهرجان كمصنع للمعنى. السوق، الورش، اللقاءات، الشراكات الدولية، كلها أنشطة مصاحبة تعيد تشكيل ملامح الفيلم قبل أن يولد. 

"سائقي وأنا"، فيلم للمخرجة السعودية عهد كامل

فمن خلال هذه البنية المتشابكة، يتحول المهرجان من كونه منصة لما هو منجز، إلى منزل عائلي ومساحة راسخة لإنتاج ما هو مقبل. وهذا التطور التراكمي هو ما يمنح المهرجان الاهمية المتزايدة.

بالتالي، فالسؤال الحقيقي لهذه الدورة ليس: ماذا سنشاهد؟ بل: ما الذي نجرؤ على أن نرويه؟

font change