شهادة ملازم في "الصاعقة" الفلسطينية عن أهوال حرب لبنان

... الفقر والسلاح والمجازر الطائفية

لينا جرادات
لينا جرادات

شهادة ملازم في "الصاعقة" الفلسطينية عن أهوال حرب لبنان

بعد 50 سنة على بداية الحرب في لبنان عام 1975، ووقفها بإرادة إقليمية-دولية جسدها "اتفاق الطائف" في عام 1989، لا تزال الجماعات اللبنانية تعيش حتى اليوم ارتجاجات استبطانها إرث تلك الحرب. وهي استدخلته وصهرته في "غرائزها" الطائفية المتأرِّثة مديدا، فصارا مركبا استأنفته محَوّرا، وبأشكال وألوان كثيرة وبمقادير متفاوتة في ميادين حياتها كلها. وبقدر ما لابس هذا المركب المتحوِّل ملابسة حميمة وقوية حياة اللبنانيين، اجتماعهم وعلاقاتهم السياسية، عمرانهم ونمط عيشهم ولغتهم، ظل هامشيا وضعيفا فهمُه، تعقّله وتفسيره والتأريخ له، والحد من فاعليته. وهذا قياسا إلى قوة حضوره العميق والمؤثر في تاريخ الحرب والجماعات واجتماعها الحيّين أو المعيشين، وفي مصائرها.

وهذه الشهادة عن حرب السنتين في لبنان (1976-1975) رواها كما عاشها من كان ملازما في منظمة "طلائع حرب التحرير الشعبية -الصاعقة". والمنظمة هذه كانت من الأدوات التي أنشأتها دمشق في إطار الصراع على السيطرة على القضية الفلسطينية بين دمشق وبين قيادة منظمة التحرير الفلسطينية. وعلى الرغم من وجود فلسطينيين في صفوف المنظمة، إلا أن الانطباع العام بين اللبنانيين كان أن أجهزة استخبارات النظام السوري في سوريا هي التي كانت تدير "الصاعقة" وهو ما لم يكن بعيدا عن الحقيقة. وتلي "الصاعقة" منظمة "فتح" الفلسطينية الأولى في قوتها ونفوذها وتأثيرها في مسار حرب لبنان. وهذا قبل أن تغزوه إسرائيل صيف 1982، وتطرد منه مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية ووحدات الجيش السوري. وقد استمرت بعد ذلك حروب لبنان أشد وطأة وعنفا طوال الثمانينات التي تصحّ تسميتها "العشرية اللبنانية السوداء".

والشهادة هذه مقتطفات من فصل كتاب يصدر لكاتب هذه السطور قريبا عن "دار رياض الريس" البيروتية بعنوان "لعنة لبنان"، لمناسبة مرور 50 سنة على بداية الحرب.

بعد أكثر من شهر على اختفائه، خطف الملازم ومجموعة من "صاعقته" 4 شبان مسيحيين من حي السريان في المصيطبة، لمبادلتهم بأخيه الذي ربما كان من مخطوفي "السبت الأسود"

وما يرويه ملازم "الصاعقة" الفلسطينية، هنا يشكل عينة من تجارب الحرب الحية في ذاكرة الناس، ووجها ميدانيا يلتصق التصاقا حميما بيوميات الحروب اللبنانية وبفئة واسعة من ممارسات مقاتليها وتاريخها الفعلي. لكن هذا الوجه مغيّب من تاريخ الحرب السياسي والاجتماعي: الخطف والتعذيب والقتل، الابتزاز والسرقة والنهب والحرق... والأرجح أن "الصاعقة" وأشباهها كانت الأطول والأقوى باعا في ذلك، على ما يروي صاحب هذه الشهادة.

حمى السلاح

في عام 1952 وُلد صاحب هذه الشهادة من أم وأب شيعيين جنوبيين تزوجا وأقاما في الخندق الغميق، أقدم أحياء المهاجرين الشيعة الجنوبيين في بيروت، ولصيق بوسطها التجاري. وسنة 1965 أنهى تعليمه الابتدائي في مدرسة رسمية، وتابع السنة الأولى من المرحلة المتوسطة في مدرسة مسائية خاصة بمنطقة رأس النبع. لكنه ترك التعليم نهائيا بعد تلك السنة.

وقبل أن يصير ملازما في تنظيم "الصاعقة" في بداية الحرب سنة 1975، تقلّب بين أعمال كثيرة: موزع فناجين قهوة على مكاتب ومتاجر بناية طراد في وسط بيروت التجاري. بائعا في متجر ثياب داخلية نسائية... وفي مطالع السبعينات حظي بعمل ثابت: حاجبا في مكاتب صحيفة لبنانية عريقة في شارع الحمراء.

أ.ف.ب
ميليشيا "المرابطون" خلال الحرب الأهلية اللبنانية عام 1976

وما إن بدأت الحرب في 13 أبريل/نيسان 1975، حتى تفشّت بين شبان وفتيان من أمثال الراوي في أحياء بيروتية- وسواهم من تلامذة وطلاب مدارس وجامعات سبق أن استقطبتهم منظمات فلسطينية مسلحة ودربتهم على السلاح- رغبة أو "موضة" الالتحاق بمجموعات مسلحة محلية تديرها منظمات الحرب وميليشياتها الوليدة. وفي برج أبي حيدر، حيث كان يقيم الراوي، شاع بين شبان يعرفهم أن منظمة "الصاعقة" التابعة للنظام السوري، توزع قطع سلاح لمن يوالونها وينضوون فيها. لذا راح وصحبه في الحي يترددون على مكاتبها التي احتلتها في بنايات فخمة في رأس بيروت، بعدما كانت شققا سكنية ومكاتب هجرها أصحابها المسيحيون الخائفون. وسلّحت "الصاعقة" الراوي وصحبه وزودتهم ببطاقات انتساب إليها، وسرعان ما أصبح الراوي برتبة ملازم فيها.

السبت الأسود

صبيحة نهار "السبت الأسود" الشهير في 6 يناير/كانون الثاني 1975، سبقتْ حادثة خطف 4 شبان مسيحيين من حزب "الكتائب اللبنانية" والعثور على جثثهم في منطقة الفنار، زيارة زعيم الحزب إياه بيار الجميل دمشق للقاء الرئيس السوري حافظ الأسد. ثأرا للشبان الأربعة نشرت ميليشيا "الكتائب" بقيادة بشير الجميل نجل زعيم الحزب، حواجز مسلحة خطفتْ وأعدمت عشوائيا في ذاك النهار مئات من مسلمين لبنانيين وفلسطينيين يعبرون يوميا في وسط بيروت ومرفئها. وفي ذاك النهار اختفى أخو ملازم "الصاعقة" البكر مع 3 من أصحابه.

وبعد أكثر من شهر على اختفائه، خطف الملازم ومجموعة من "صاعقته" 4 شبان مسيحيين من حي السريان في المصيطبة، لمبادلتهم بأخيه الذي ربما كان من مخطوفي "السبت الأسود".

بعد ليلة نهب "سبينس" أُضيف إلى مجموعة ناهبي "الصاعقة" السابقة نحو 30 عنصرا جديدا، أُمِروا بالتوجه إلى المتجر والانتشار حوله، والإيحاء بأنهم يحمونه

بقوة السلاح أخرجوا الشبان المسيحيين من بيوتهم وساقوهم مغلولي الأيدي إلى مكتب "الصاعقة" في برج أبي حيدر. اتصلوا هاتفيا بمكتب "الكتائب" المركزي وهددوا "بتصفيتهم" (قتلهم) إذا لم يستجب الحزب لمبادلتهم بأخيه وصحبه المخطوفين. بعد موجة من شتائم متبادلة، انتهت المكالمة بلا جدوى. وساق الخاطفون الشبان السريان نحو برج أبي حيدر. أوقفوهم ووجوههم إلى جدار قبالة بيت أهل الملازم، وتهيأوا  لإطلاق النار عليهم. نادى الملازم أمه لتخرج وتشاهد مقتلهم وتشفي غليلها ولوعتها على ابنها المخطوف. ولما خرجت وأبصرت الشبان الأربعة مغلولي الأيدي ومعصوبي العيون، والبنادق مصوبة في اتجاههم، نزعت منديلها عن رأسها وركضت حافية نحو المسلحين تصرخ وترفع يديها إلى السماء. ثم وقفتْ أمام الشبان السريان وصرخت بابنها ومسلحيه: "اقتلوني قبل ما تقتلوهم". وبعدما ارتمت على قدمي ابنها مرات، راجية ومهددة، استجاب رجاءها، وترك الشبان يغادرون إلى بيوتهم.

نهب متاجر "سبينس"

على رأس مجموعة خاصة تألفت من نحو  20 مسلحا من "القوة الضاربة" توجه ملازم "الصاعقة" في سيارات وشاحنات عسكرية إلى متاجر "سبينس" الكبرى الفخمة في الرملة البيضاء غرب بيروت. انطلقت المجموعة ليلة 18-17 يناير/كانون الثاني من مركز قيادة منظمتهم بمحلة صبرا البيروتية. وفي عتمة الليل خلعوا أبواب "سبينس" وشرعوا بنهب سلعه الثمينة والسهلة الحمل ونقلها إلى الشاحنات: آلات تسجيل وتلفزيونات وسواها من أدوات كهربائية، تحف وأدوات تجميل ومستحضراته، لانجيري وأصناف عطور ومشروبات روحية وثياب... وخُزِّنت في مستودعات "الصاعقة" بصبرا.

لينا جرادات

كان قد اكتمل آنذاك انقسام بيروت وضواحيها بين شرقية مسيحية وغربية مسلمة، يفصل بينهما خط تماس حربي يمتد من وسط العاصمة التجاري حتى صحراء الشويفات. وشرعت الميليشيات المسيحية في ضواحي بيروت الشرقية بحصار منطقة النبعة الشيعية، ومخيم تل الزعتر الفلسطيني، ومحلة الكرنتينا التي يقيم فيها من يسمون "عرب المسلخ" السنّة قرب مسلخ بيروت للمواشي، تمهيدا لاقتلاع سكانها والمسلحين فيها وتهجيرهم. هذا فيما كانت ميليشيات بيروت الغربية، وعلى رأسها "الصاعقة"، تعدُّ لهجوم ثأري على بلدة الدامور المسيحية الساحلية على مسافة نحو 20 كلم جنوب العاصمة.

وبعد ليلة نهب "سبينس" أُضيف إلى مجموعة ناهبي "الصاعقة" السابقة نحو 30 عنصرا جديدا، أُمِروا بالتوجه إلى المتجر والانتشار حوله، والإيحاء بأنهم يحمونه. وما إن انتشرت المجموعة حتى وصلت أخرى من "الصاعقة" تتبعها أرتال من سيارات مدنية وأفواج من الناس الراجلين في حال هياج. ومتظاهرين بمنعهم، وسمح المسلحون للناس بالدخول إلى "سبينس" ونهبه. وتزاحمت الجموع في دخولها إلى المتجر الكبير وخروجها منه حاملة المعلبات والمواد الغذائية والطناجر والصحون... أطلق المسلحون الرصاص في الهواء إرهابا.

أبو هنوي"، هو اسم الملازم الحركي. وكان يداوم مع ملازم آخر يدعى "الجوكر"، وأُسندت إليهما مهمة تهديد رئيس تحرير إحدى الصحف البيروتية التي توالي "البعث" العراقي

وبعد وقت وصلت مجموعات مسلحة من منظمات في أحياء كثيرة، تتبعها جموع هائجة من الأهالي راجلين وفي سيارات متزاحمة. كان المشهد ضاريا: خليط بشري هائل من المسلحين والأهالي، رجالا ونساء وفتيانا وأطفالا، يتدافعون ويتحاشرون في أجنحة المتجر للوصول إلى ما يستطيعون حمله من السلع  والخروج بها مسرعين وسط زخات متلاحقة من رصاص يطلقه المسلحون في الجو. استمرت الحال ساعات على هذا المنوال. وشاركت مجموعات "الصاعقة" في النهب وإطلاق النار، قبل أن ينجلي المشهد أخيرا عن ثمانية قتلى وإشعال النار في "سبينس".

أمن المطار والصحافة

أُلحق ملازم "الصاعقة" بوحدة أمن مطار بيروت، بقيادة نقيب علق على جدار مكتبه في المطار صورة لتشي غيفارا وتشبّه به: أطلق لحيته وترك شعره يطول ويتدلى على رقبته. واعتقلت الوحدة شابين مسيحيين عادا على متن طائرة، وفي حقائبهما أجهزة اتصال لاسلكية يهربانها لـ"القوات اللبنانية". بعد ربط أرجلهما بجنازير وتعليقهما بسقف قاعة التعذيب في المطار، جاء النقيب صباح النهار التالي وأعدمهما بمسدسه ووضع عناصره الجثتين في صندوق سيارته التي قادها على مدرج ينتهي ببوابة خاصة في سياج المطار تفضي إلى الشاطئ، ورمى الجثتين في البحر.

في النهار التالي قرر النقيب إخضاع الموظفين المسيحيين في المطار للتفتيش، فنفّذ عناصره أمره واحتجزوا مجموعة منهم في مركز التعذيب. كانوا سبعة وفي حوزتهم مرتباتهم الشهرية التي قبضوها في ذاك النهار، فسلبها منهم محتجزوهم. وفي أثناء تعذيبهم ربطوا  أحدهم من عنقه بجنزير "البلانكو"، فمات مشنوقا. وحين وصل النقيب أمر بتصفية الجميع. ولما انتبه إلى أن وجه الملازم ممتقع صاح به قائلا: خيّك راح، وينو خيّك ولاه؟! مين خطفو؟! وفي الليل وضعت جثث المحتجزين في صندوق سيارة النقيب، فقادها ورمى جثثهم في البحر.

"أبو هنوي"، هذا هو اسم الملازم الحركي. وكان يداوم مع ملازم آخر يدعى "الجوكر" بمكتب "الصاعقة" في بناية يعقوبيان الضخمة في محلة كراكاس، وأُسندت إليهما مهمة تهديد رئيس تحرير إحدى الصحف البيروتية التي توالي "البعث" العراقي، وتناوئ سياسة النظام السوري في لبنان.

توجه ملازما "الصاعقة" إلى مكاتب الصحيفة في محلة بئر العبد بضاحية بيروت الجنوبية. وما إن دخلا مكتب رئيس تحريرها، حتى شهرا مسدسيهما في وجهه، وطلبا منه أن يقترب من النافذة ليرى المشهد أسفل البناية في الشارع: مجموعة من "القوة الضاربة" تمنع مرور السيارات في الشارع الذي بدا خاليا إلا من مسلحين وضاربي "آر بي جي" مصوبة مدافعهم المحمولة على أكتافهم إلى مكاتب الصحيفة.

  • ماذا تريدون، من أنتم، من بعثكم؟! سأل رئيس التحرير.
  • ما  الذي لا يعجبك في "الصاعقة" ولماذا تهاجمنا جريدتك؟! قال له أحد الملازمين، وتابع: بعد اليوم فكّر أن جريدتك لن تصدر.
  • ما بيصير إلا عَ خاطركم، تفضلوا، تفضلوا، قال رئيس التحرير مبتسما.

تصفية "الصاعقة"

كان الملازم ومجموعة من "الصاعقة" يشربون الويسكي في مكتبها الأمني في بناية يعقوبيان في كراكاس، لما أعلمه اتصال هاتفي أن هجمات عسكرية تستهدف مكاتبها ومقارها في بيروت كلها، فحملوا بنادقهم وخرجوا من المكتب إلى الشارع مخمورين.

ركبوا سياراتهم- كلها حصيلة عمليات سطو قاموا بها منذ بدايات الحرب- وتوجهوا إلى محلة المصيطبة. لكن اشتباكات عنيفة أرغمتهم على ترك السيارات في شوارع حي السريان.

فتح الحزب "التقدمي الاشتراكي" الدرزي بزعامة وليد جنبلاط مكتبا له في الحمراء، قريبا من البناية التي فيها شقة الملازم المصادرة. فتوطدت صلته ببعض محازبي "الاشتراكي"

ولما وصلوا إلى أطراف حي اللجا لجأوا إلى مقر "جبهة التحرير العربية" التابعة للعراق والمعادية لسوريا. كانت صلة قرابة وصداقة متينة تجمع بين ملازم "الصاعقة" ومسؤول "الجبهة" الذي أخبره أن عناصر "الصاعقة" اللبنانيين في المصيطبة وسواه من أحياء بيروت، استسلموا وسلموا أسلحتهم. ومن لم ينضم منهم إلى الميليشيات التي هاجمتهم واستسلموا لها، تعهدوا أن يلتزموا بيوتهم. أما سوريو "الصاعقة" فمستمرون في القتال والمقاومة أكثر من فلسطينييها الذين تتولى منظمة "فتح" الفلسطينية تدبير استسلامهم.

انضم ملازم "الصاعقة" ورفاقه إلى "جبهة التحرير العربية"، وراحوا يشاركون عناصرها في هجمات شبه مسرحية على بعض مكاتب "الصاعقة" في أحياء بيروت، فيستسلم عناصرها وينضمون إلى "جبهة التحرير".

ملهى "الرفولوشن"

بعد دخول "قوات الردع العربية" (السورية) إلى لبنان في أكتوبر/تشرين الأول 1976، شرعت منظمة "الصاعقة" الأمنية والعسكرية في إعادة بناء مجموعاتها برعاية مباشرة من أجهزة الاستخبارات السورية في بيروت. كثيرون من عناصرها السابقين الذين سارعوا إلى الالتحاق بها مجددا، حققتْ معهم تحقيقا شكليا وأعادت تسليحهم وفتح مقارّ لهم في الأحياء.

أ.ف.ب
جنود من الكتيبة السورية التابعة لقوات الردع العربية في لبنان، المعروفة آنذاك باسم "الخوذ الخضراء"، يجلسون على دبابة روسية الصنع في بيروت في 15 نوفمبر 1976

وعاد ملازم "الصاعقة" إلى منظمته، لكنه لم يستعد نشاطه الفاعل فيها. وبعد مداومته على الحضور إلى مكتبها ببناية في الحمراء، صادر في البناية نفسها شقة سكن فيها، ثم تزوج وعزف عن النشاط الأمني والعسكري المباشر، وحافظ على صلاته بعناصر "الصاعقة" النافذين، فيسهر ويعربد معهم في مرابع بيروت الليلية.  في واحدة من سهراته في ملهى "الرفولوشن" قرب "دولتشي فيتا" في الروشة، وبعد ما شرب واثنان من أصدقائه زجاجة كاملة من الويسكي، شهروا مسدساتهم وراحوا يطلقون النار على سقف الملهى. ثم أخرجوا منه عازفي الموسيقى والراقصة وأرغموهم على أداء وصلة من العزف والرقص على الرصيف، فيما كانوا يطلقون النار في الهواء ويرقصون ابتهاجا.

مبارزة على درج

وفتح الحزب "التقدمي الاشتراكي" الدرزي بزعامة وليد جنبلاط مكتبا له في الحمراء، قريبا من البناية التي فيها شقة الملازم المصادرة. فتوطدت صلته ببعض محازبي "الاشتراكي"، وكان معظمهم من الكرد و"عرب المسلخ" السنة. وفيما كان يسهر مع "اشتراكيين" ويخمرون في شقته، انضم إليهم عماد باظو الكردي السوري، وكان "مكوكن" (متناولا كمية من الكوكايين) و"مسطل". بعد وقت قصير قال للملازم إنه يريد محادثته على انفراد، فخرجا معا إلى سفرة الدرج، وعلى وسط الملازم مسدسه "التوغاريف" الذي غافله عماد وانتشله، ثم وضع فوهته في صدغه، قائلا إنه سيأخذ المسدس في مقابل نظارتيه اللتين سرقهما الملازم من سيارته.

كان تناول أقراص "النوبارين" و"الموطولون" المخدرة وإدمانها شائعين بين أمثال الملازم في تلك الأيام

فيما هو يتراجع إلى الخلف ويهبط درجات السلم، قال له الملازم: "ما بيصير يا عماد، بلا هـالمزح، عويناتك مش معي". لم يتوقف عماد، وراح يتوعد مهددا، فدخل الملازم مسرعا إلى شقته، وتناول بندقيته "البومب أكشن 6 طلقات" من تحت "الكنباية"، ثم ركض في إثره صارخا شاتما. وما إن سمع شتائمه في الأسفل، حتى أطلق النار في اتجاهه من الأعلى، فبادله عماد بإطلاق النار من المسدس. وحين وصل الملازم إلى مدخل البناية سمع عماد يصرخ فيما يصعد ومجموعة شبان إلى سيارة متوقفة في الشارع.

ظل الملازم ساهرا وحده في شقته. وحين حاول أن ينام تلبسته الهواجس، فالتجأ إلى مكتب "حركة أمل" الذي كان يعرف مسؤوله في شارع الحمراء، فذهبا معا إلى بيت أخت عماد باظو في القنطاري. ويقول: "حين فتحت لهما الباب وسألناها عنه، قالت إنه أتى وغادر قبل دقائق وأخبرها أنه أصيب في فخذه في معركة في الأسواق التجارية، ثم توجه ورفاقه ليتعالج في مستشفى الجامعة الأميركية".

أ.ف.ب
عناصر من الميليشيات يرافقون قافلة شاحنات في بيروت في 2 مايو 1976

مخدرات... قتل وانتحار

كان تناول أقراص "النوبارين" و"الموطولون" المخدرة وإدمانها شائعين بين أمثال الملازم في تلك الأيام. وتناول مرة قرصين من "النوبارين" في شقته المصادرة، ونزل إلى مكتب "الصاعقة" في الطابق الثالث من البناية، فالتقى خضر داود الذي كان مدمنا أكثر منه بأشواط. تحدى واحدهما الآخر: من منهما لديه شجاعة القفز من الشرفة إلى الأرض؟ فجأة تناول الملازم شرشفا عن سرير ينام فيه حارس المكتب، وربط الشرشف حول عنقه مقلدا سوبرمان، وقفز عن الشرفة، فإذا به في مؤخرة شاحنة عابرة تحمل رملا، فانكسرت صابونة إحدى رجليه. وبعد عمليتين جراحيتين ومدة طويلة من العلاجات الفيزيائية، لم يبرأ من عرج خفيف دائم يلازمه.

صديق آخر للملازم من مدمني "النوبارين" تناول مرة في سهرتهما بشقة الملازم 6 أقراص "نوبارين". وفي آخر السهرة عاد إلى بيته في المصيطبة، فتشاجر ووالدة زوجته وأطلق عليها النار  من مسدسه، فأصابها في رجليها و"كرسحها". ولما راحت زوجته تدفعه مولولة صارخة، عاجلها برصاصات في بطنها- كانت في الشهر الثامن من حملها- فلفظت أنفاسها ومات جنينها في رحمها. وسرعان ما خرج خضر عمار إلى الشارع وفي يديه مسدسان اثنان، فوضع فوهتيهما في صدغيه وأطلق النار منهما، فتفجر رأسه.

font change

مقالات ذات صلة