لأن الفن مؤثر في ظاهره بات ضرورة إنسانية لا يمكن الاستغناء عنها. إنه اللغة التي يفهمها الجميع دون الحاجة إلى قاموس، والوسيلة التي يُعبَّر بها عن أعقد المشاعر وأكثرها تداخلا دون نطق كلمة واحدة. في لحظة ما قد تلامسنا لوحة أكثر مما تفعل قصيدة، أو مقال؛ لأن الفن يخاطب الجزء الأعمق فينا: تلك المساحة التي لا تُدرك بالمنطق، بل تُحسّ بالبصيرة؛ لهذا لا يُمكن اعتبار الفن ترفا للنخبة أو وزينة للجدران، بل هو ضرورة توازي حاجتنا إلى الحلم، والطعام، والحُب.
ومن منطلق هذه الضرورة حضرت مدفوعا بدواعي الحُب "أسبوع الرياض للفن" وشاهدت داخله ما يلغي ضجيج حياة المجتمع اليومية. قدم لي الفن لحظتها مساحات من المعارض، والمنحوتات، والتجارب البصرية بلغت معها الدهشة وتيقنت بوجوب أن يكون الفن جزءا لا يتجزأ من ثقافتنا وحياتنا.
أكدت لي هيئة الفنون البصرية السعودية من خلال "أسبوع فن الرياض" أن العاصمة السعودية تستحق لقب أكبر صالة فنية مفتوحة في العالم؛ نتيجة لما بذلته طوال السنوات الماضية من جهود لتكريس مكانتها كعاصمة عالمية تُجيد التوازن بين الحداثة والجذور، والإلهام المحلي والتأثير العالمي.
من حي جاكس الصناعي في محافظة الدرعية النابض بالحياة إلى مجمع الموسى الذي يعبق بالتجريب والتنوع، عشت أسبوعا مع أعمال فنية تمنيت فعلا أن لو امتلكتها. احتشدت كلها أمامي في مشهد بصري مُعبّر عن المشترك الإنساني، بمختلف مدارسه لإبلاغ رسالة فنية واحدة: لا تزال القدرة على التعبير والحلم حية في وجدان الإنسان، ما دام الفن هو وسيلته التعبيرية.
أمام رواق من الزجاج المهشم وقفت متأملا عملا بصريا للفنان الجزائري الفرنسي قادر عطية، عكس عندي مفهوم الكسر الإنساني بطريقة غير تقليدية. جسّد من خلاله أساليب تكسير الهوية الإنسانية التي تتعرض يوميا لأزمات سياسية ودينية واجتماعية. فعند النظر إلى قطع المرايا المتناثرة على مساحات شاسعة سينعكس أمامك وعلى الفور توهجا فنيا يشبه أملا منسيا في ذاكرة العالم، كما لو أن الفنان أراد إعلامنا أن كل انكسار يحمل في داخلنا بداية جديدة وجمالا مختلفا.
وبخطوة أخرى وجدتني ماثلا أمام عمل استثنائي للفنان المصري أحمد ماطر استخدم فيه رصاص ألعاب الأطفال، المفترض به أن يكون أداة للتسلية واللعب، ليقوم بتحويله من القتل والعنف إلى لوحة للسلام، ورمز لبراءة الطفولة، صانعا برصاص الذاكرة عبارات مؤثرة: (حلم وحرية وسلام) كلمات لا يمكن فصلها عن " النوستالجيا" التي تعيدنا إلى ذكريات الطفولة، حيث يجب أن يكون العالم أكثر براءة وأقل عنفا. في عمله الفني حول المواد القاسية إلى أشكال ناعمة ذات رسائل إنسانية تتجاوز التوقعات ليواجه قسوة العالم بابتسامة البراءة.
وفي زاوية أخرى من المعرض وقف أمامي عمل النحات المصري خالد زكي الذي وثق فيه الإنسان عبر منحوتات نحاسية عبّر فيها عن تقلباته وحركاته التي تعبر عن أعماقه ومشاعره. شعرت لحظتها كما لو أن منحوتاته تلك تقول لنا: أجسادنا هي أول أعمالنا الفنية، وحركاتنا اليومية هي المعرض الذي لا يُغلق أبدا.
لفت انتباهي في هذا المعرض الحضور الفاعل للمؤسسات الثقافية الرائدة مثل "فن جميل" الداعم الخيري للفنانين وجماعات الإبداع، والصندوق الثقافي، والمجموعة السعودية للأبحاث والإعلام
وفي تفاعل متوازن بين التقليدي والحديث استطاع جميع الفنانين المشاركين أن يعكسوا لنا ما يعصف بالإنسان في زمننا الحالي من صراعات وتحولات، وفي ذات الوقت قدموا لنا دعوة صامتة للإيمان بقوة التعبير الفني. فمن الزجاج المهشم، إلى الرصاص، ومن أسماء الله الحسنى، إلى اللوحات الإيمانية التي وثقت لنا الأماكن المقدسة بأسلوب فني اعتمد على تكنولوجيا "X-ray" إلى تماثيل النحاس، إلى أعمال كثيرة رسخت مفهوم الفن باعتباره أداة للاستشفاء والتعبير، ووسيلة لفهم أعمق لوجودنا في ظل فوضى عالمنا المعاصر.
لفت انتباهي في هذا المعرض الحضور الفاعل للمؤسسات الثقافية الرائدة مثل "فن جميل" الداعم الخيري للفنانين وجماعات الإبداع، والصندوق الثقافي، والمجموعة السعودية للأبحاث والإعلام (SRMG) التي سجلت حضورا كبيرا ومهما من خلال عرض تطور الفن التجريدي السعودي والحفاوة برواده، معبرة بذلك عن قيمة التراث والهوية، موثقة ذاكرة تحولات مشهد الفنون وتحدياته الدؤوبة للتجديد والارتقاء بالفن والفنانين.
ومن المؤسسات الثقافية الكبرى المشاركة مركز "إثراء" الذي وضع زواره أمام الذاكرة الثقافية للمملكة بأكثر من 50 عملا فنيا متنوعا جمع فيه بين البصري والتقني والرقمي في مزيجٍ فريد أكد حجم التطور الحاصل في مشهد الفنون السعودية جاء أبرزها العمل الفني "حلويات النفط" للسعودية مها ملوح. كما استطاع جناح إثراء أن يجمع فنانين سعوديين منهم: محمد الفرج، ومعاذ العوفي، وسلطان بن فهد، بعالميين كالأميركي غريغوري موهوني الذي قدم عمله الفني التعبيري نهايات العالم 1993، والكوري دو هو سو، والإيطالي مايكل أنجلو بيستو ليتو، والفلسطيني حازم حرب الذي قدم عملا تعبيريا مطابقا لهمّه الفني الدائم المُسلّط على الهوية، والمكان، والذاكرة الفلسطينية. وكذلك المصري معتز نصر، واللبنانية جومانا مدلج.
أستطع القول إن ما شاهدته من العروض والصور كان بحق لحظة إنسانية فارقة ذكرتني بأن العالم وعلى الرغم من جبروته فإنه لا يزال يحمل مساحات للجمال والأمل والتفاؤل. منحني أسبوع الفن هذا تذكيرا قويا بأن الفن يحمل في طياته القدرة على منح السكينة للروح البشرية، كما أنه فسحة من الجمال. ليته يتكرر، وليته يخصص في نسخته القادمة منطقة لفناني المناطق الحدودية في المملكة والعالم، كونهم يمثلون جانبا فنيا فريدا، ويحملون قضايا وهموما دولية مشتركة تجمع بين ثقافتين وشعورين وأكثر من رسالة إنسانية...