لبنان بعد 50 سنة حرب توقفت... ولم تنته

هل ينبغي الحفاظ على وحدة الدول إذا كان الثمن شلالات الدم؟

لينا جرادات
لينا جرادات

لبنان بعد 50 سنة حرب توقفت... ولم تنته

اندلعت الحرب اللبنانية عام 1975 بسبب تلاقي معطيات داخلية وخارجية، أطلقت دورة عنف أهلي دام حتى عام 1990. على المستوى الداخلي، لم يتمكن النظام اللبناني الذي كان قائما على ثنائية مسيحية– سنية في الحكم من استيعاب الصعود الشيعي السريع، الذي غيّر بأقل من نصف قرن موازين القوى بين جماعات لبنان. لم تكن الديموغرافيا الشيعية الأكبر في عشرينات القرن الماضي، يوم تأسست الجمهورية اللبنانية، وتوزعت حصص الحكم بين المكونات.

ولكن العقود اللاحقة شهدت صعودا سريعا لأجيال شيعية جديدة، أقل ميلا للاستكانة للستاتيكو المسيحي– السني من الأجيال التي سبقتها. وقد رفد التمرد الشيعي على النظام وسهّله، بروز الزعامة الكاريزمية للإمام موسى الصدر، وإنشاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وانخراط أعداد واسعة من الشباب الشيعي بأحزاب معترضة على الستاتيكو، توزعت بين قوى اليسار اللبناني، ولاحقا "حركة أمل" التابعة للصدر.

هذه الدينامية تلاقت مع استعداد زعيم الدروز كمال جنبلاط للانقضاض على النظام، على خلفية طموح شخصي لتولي رئاسة الجمهورية، أو بالحد الأدنى رئاسة الوزراء. كما تلاقى الاعتراض الشيعي، مع تململ سني من صلاحيات رئيس الجمهورية المسيحي، ومطالبة بالشراكة في الحكم، أي عمليا بتعزيز صلاحيات رئيس الحكومة السني.

هكذا، التقت جماعات الإسلام اللبناني الثلاث، على مطالبة المسيحيين بإعادة توزيع السلطة دون أن يبدي المسيحيون ميلا للتجاوب معها، لأسباب يتجاوز تحليلها هذه العجالة. شكل هذا الاستعصاء الخلفية المحلية للشقاق اللبناني.

إذا كانت البنية المجتمعية، وأزمة النظام معطى ثابتا، فلماذا تندلع الحرب بسنة لا بأخرى؟ لا بد من معطى سياسي يتحرك في توقيت محدد، كصاعق يفجر التناقضات الطائفية إلى صراع أهلي

ارتبط المعطى الخارجي للحرب بالتحولات الإقليمية، بعد أحداث "أيلول الأسود" بالأردن عام 1970، وانسحاب مصر التدريجي من الصراع العربي– الإسرائيلي بعد حرب عام 1973. وبعد "أيلول الأسود"، هُجّرت قيادة الفصائل الفلسطينية وآلاف من مقاتليها إلى لبنان، الذي صار الساحة العربية الوحيدة المفتوحة أمام الهجمات الفلسطينية على إسرائيل، بعد إقفال الجبهات الأردنية والسورية والمصرية.

وحتى قبل نكبتها بالأردن، لم تبد الفصائل الفلسطينية أي حساسية تجاه الأثمان التي حمّلتها للبنان، بعد أن حولت جنوبه إلى أرض مواجهة مباشرة مع إسرائيل. ولكن خسارة القاعدة الأردنية بعد "أيلول الأسود" جعل من لبنان ملجأ أخيرا للمواجهة مع إسرائيل، وصار الاستعداد الفلسطيني لتفهم لبنان، الضعيف أصلا، معدوما تماما.

من جهة ثانية، تحول استدراج مصر من المعسكر السوفياتي إلى المعسكر الغربي إلى أولوية أميركية في المنطقة. عنى ذلك، من ضمن ما عناه، استعدادا أميركيا لتسهيل دخول الجيش السوري إلى لبنان، بهدف ضبط المنظمات الفلسطينية التي هدد حراكها مسار السلام المصري– الإسرائيلي، وتاليا المصالح الأميركية بالإقليم.

أ.ف.ب
جنديان لبنانيان يقفان أمام ملصق عن الحرب الأهلية في لبنان بين عامي 1975 و1990، في الذكرى الثالثة والثلاثين لاندلاعها، بيروت في 13 أبريل 2008

وهكذا دخل جيش الأسد إلى لبنان مصحوبا بموافقتين أميركية وإسرائيلية ضمنيتين عبر اتفاقية "الخطوط الحمراء" الشهيرة، ما أضاف إلى الصراع اللبناني– اللبناني، واللبناني– الفلسطيني، الصراعين اللبناني- السوري، والفلسطيني– السوري، ليصبح كبح جماح الحرب مستحيلا تماما بعدها.

تجادل اللبنانيون طويلا حول مسببات الحرب. التأريخ المسلم (أو اليساري) يميل عموما للتركيز على أزمة النظام اللبناني، ومسألة حصص الطوائف، أو التناقضات الطبقية المفترضة. وفي المقابل، تميل وجهة النظر المسيحية، لرمي المسؤولية على الخارج، ولا سيما العاملين الفلسطيني والسوري. والحال أن هذا واحد من النقاشات اللبنانية العبثية، لأن المعطيين الداخلي والخارجي تلاقحا لإنتاج الحرب.

البغضاء الطائفية حقيقية بلبنان، وكذلك أزمة النظام، وحصص الجماعات فيه. ولكن هذا كان صحيحا في الستينات أيضا؛ لماذا اندلعت الحرب في عام 1975 لا قبله، لو كانت المسألة مسألة معطيات داخلية وحسب؟ بمعنى آخر: إذا كانت البنية المجتمعية، وأزمة النظام معطى ثابتا، فلماذا تندلع الحرب بسنة لا بأخرى؟ لا بد من معطى سياسي يتحرك في توقيت محدد، كصاعق يفجر التناقضات الطائفية إلى صراع أهلي. استطرادا: التناقضات المرتبطة بالهوية، موجودة بكل دول العالم التي فيها تعدد طائفي، دون أن تكون كلها غارقة في الحروب الأهلية. يعني هذا ببساطة أن معادلة خلافات بين الطوائف، تساوي حكما حروبا بينها غير صحيحة. وبالحالة اللبنانية، كان لا بد من الصاعق الفلسطيني، ثم التدخل السوري، لتحويل الخلافات بين الجماعات إلى حرب أهلية.

في العراق وسوريا، كما في لبنان، بطل جماعة هو شيطان جماعة أخرى، والعكس

يبقى، مع ذلك، أن شعار "حروب الآخرين على أرضنا" تبسيطي. ذلك أن اللبنانيين كرهوا بعضهم بعضا، قبل تدخل "الآخرين"، وواظبوا على حقدهم بعد رحيل جيوشهم. والوعي الذي ينفي الاستعصاء الداخلي، ليرمي كل المشكلة على الآخرين سطحي. بالحقيقة، توسيع حدود لبنان عام 1920 أضاف إلى الفالق الماروني– الدرزي، الذي أدمى تاريخ جبل لبنان بالقرن التاسع عشر، الفالقين المسيحي– المسلم، والسني– الشيعي. لبنان الحالي مبني على اجتماع هذه الفوالق وتاريخه الرجراج، كما حربه الأهلية يرتبط مباشرة بها.

أزعم أن الحرب اللبنانية، أقفلت على زغل، لأن اللبنانيين لم يكونوا تعبوا كلهم منها يوم سكتت المدافع. كان في الميليشيات المختلفة طاقة شبابية قادرة على متابعة الجولة لعقد بعد ذلك على الأقل. ثم إن الحرب انتهت بتعديل موازين القوى بين الطوائف، ولكنها لم تحل إشكالية العلاقة بينها. فكّر بمسألة السلاح غير الشرعي على سبيل المثال: انقسم اللبنانييون على أساس طائفي بالستينات والسبعينات بين مؤيد ومعارض لحرية العمل الفدائي في بلادهم، تماما كما هم منقسمون اليوم بين مؤيد ومعارض لسلاح "حزب الله"، ودائما طبعا على أساس طائفي.

لا يهم أن مثقفين مسيحيين يساريين انحازوا في الماضي إلى السلاح الفلسطيني، بحكم قناعاتهم العقائدية، كما لا يهم أن مثقفين وناشطين شيعة اليوم، يرفضون سلاح "حزب الله". كل هؤلاء يبقون استثناء على قاعدة مفادها أن الانقسام المجتمعي أساسا، في الماضي كما اليوم، طائفي. يعني هذا أن المعطى الداخلي بالشقاق اللبناني الذي ذكرته بمطلع المقال لم يتغير. ولا انكشاف لبنان أمام المعطى الخارجي تغير طبعا، بدليل الدور الذي حبسته فيه إيران منذ عقود كمنصة صواريخ متقدمة تحركها دفاعا عن نظامها متى دعت الحاجة، وبدليل أن تفلت لبنان من قبضة إيران، سيعني انتقاله من وصاية محور إقليمي إلى محور إقليمي آخر، طالما أن الحياد الذي تنشده شرائح واسعة من اللبنانيين لا يزال حلما.

وبانتظار حل الإشكاليتين، عنيت علاقة الطوائف ببعضها، واستسهالها، استدراج التدخل الخارجي إلى الساحة الداخلية، أو استسهاله هو استخدامها. وتبقى الحرب الأهلية اللبنانية مستمرة، وإن كانت حاليا باردة نسبيا.

الواجهة الجنوبية لمبنى "البيضة" الذي دمر خلال الحرب الأهلية اللبنانية، ويظهر خلفه مسجد محمد الأمين في وسط بيروت

أزعم أن خلاصات تجارب لبنان صالحة للتفكير بحروب جواره. نعلم أن الحربين الأهليتين العراقية والسورية، تبعتا الحرب اللبنانية بعد سنوات. فوالق الصراع بالبلدين تحركا كما بلبنان على أساس الهوية، فتواجه العرب والكرد، والسنة والشيعة بالعراق، كما تواجه العرب والكرد، والسنة والعلويون، بسوريا.

 وانقسمت جماعات العراق وسوريا، كما انقسم اللبنانييون وينقسمون، حول المسائل الأساسية الخاصة بدولهم: تمتع صدام حسين بشرعية شعبية أكيدة عند سنة العراق، ولكن ليس عند أكراده أو شيعته. الأمر صحيح بالنسبة لحافظ الأسد، وبعده ابنه بشار بسوريا، الذي طغى على مواليه اللون العلوي، بينما طغى على معارضيه اللون السني. في العراق وسوريا، كما في لبنان، بطل جماعة هو شيطان جماعة أخرى، والعكس.

إن كان ثمن الحفاظ على وحدة لبنان وسوريا والعراق هو شلالات الدم الدورية، فهل ينبغي دفعه؟ هل ينبغي الحفاظ على وحدة هذه الدول؟

لماذا لا يوجد في بلداننا شخصية جامعة يلتقي الكل على مرجعيتها؟ الجواب أن الإجماعات بيننا ضعيفة على الأمور الأساسية، التي تحتاج المجتمعات للاتفاق عليها كي يصير الصراع السياسي تنافسا طبيعيا، بين أفكار وأحزاب وبرامج، لا مسألة حياة أو موت بين مكونات.

والحال أن تاريخ الحروب الأهلية المتنقلة بطول المشرق وعرضه، يطرح سؤالا مركزيا لم يعد بالإمكان تفاديه هو التالي: إن كان ثمن الحفاظ على وحدة لبنان وسوريا والعراق هو شلالات الدم الدورية، فهل ينبغي دفعه؟ هل ينبغي الحفاظ على وحدة هذه الدول؟

ومن جهة ثانية: إن كان من وضع حدود هذه الدول، عنيت القوى الغربية، يعارض إلى الساعة تغييرها، أفلا يمكن على الأقل تغيير الأنظمة بما يضمن للجماعات القلقة، والتي تصير مخيفة عندما تخاف، حدا معقولا من الحكم الذاتي الكفيل بإنهاء الصراع الطويل على السلطة والنفوذ بالمركز؟

عندي أن إعادة النظر ببعض مسلمات الفكر السياسي بالمشرق حان، كي لا تتناسل حمامات الدم فيه إلى ما لا نهاية.

font change

مقالات ذات صلة