ألمانيا تطوي صفحة من الانضباط المالي وتطلق خطة "بازوكا"

"كبح الدين" يسقط أمام حرب أوكرانيا وتصدع حلف الأطلسي والتعريفات الجمركية

غيتي
غيتي

ألمانيا تطوي صفحة من الانضباط المالي وتطلق خطة "بازوكا"

خلال أسبوع واحد، صوت مجلس النواب الألماني الاتحادي (البوندستاغ) والمجلس الاتحادي (البوندسرات)، وهو الهيئة التشريعية التي تمثل الولايات الست عشرة لألمانيا، على تجاوز قاعدة "كبح الدين" التي تعمل تلقائيا على تقييد الإنفاق العام بتحديد الاقتراض بنسبة 0,35 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي سنويا. هذه القاعدة كانت قد اعتمدت لتضمن توازن المالية العامة على مدى دورة اقتصادية كاملة، مما يبطئ زيادة الدين العام. تستثنى من التقيد بها حالة وقوع كارثة طبيعية أو حالة طوارئ استثنائية خارجة عن سيطرة الدولة تهدد بشكل كبير المالية العامة.

وقد تدخلت المحكمة الدستورية الاتحادية في كارلسروه عام 2023 واخضعت الاستثناء لقيد إضافي يقضي بضرورة وجود رابط موضوعي بين حالة الطوارئ وتجاوز حدود الائتمان.

القاعدة السابقة المعروفة بـ"مكابح الشولدن"، اعتمدتها ألمانيا في دستورها عام 2009 في عهد أنجيلا ميركل بمبادرة من الحزب الديمقراطي المسيحي الذي ينتمي إليه المستشار المقبل فريدريش ميرتس، وذلك بعد تجاوز الدين العام الحد الأقصى البالغ 60 في المئة والمنصوص عليه في معاهدة ماستريخت نتيجة النفقات المرتفعة لألمانيا الشرقية بعد إعادة التوحيد، ولاحقا بسبب التدابير الداعمة للاقتصاد لمواجهة ارتدادات أزمة الرهونات العقارية الأميركية عام 2008، التي استدعت تدخل البنك المركزي الأوروبي بسياسة نقدية توسعية "غير تقليدية".

"كبح الدين" لم يعد مجديا؟

يعتبر اعتماد قاعدة "كبح الدين" دستوريا، تعبيرا عن العقيدة المحافظة التي ترى أن النمو الاقتصادي يعتمد في المقام الأول على الانضباط المالي، ترافقا مع الرؤية النيوليبرالية التي انتشرت في الدول الغربية منذ الثمانينات، والتي تهدف لأن يتقلص دور الدولة إلى الحد الأدنى، مما يعني ضمنيا ألا يكون حجم إنفاق الدولة كبيرا، وصولا لأن يتوازى مع إيراداتها. ونتج من ذلك انخفاض ديون ألمانيا وتسجيلها فوائض مزدوجة في المالية العامة وفي ميزان المدفوعات لسنوات لاحقة.

أجرى القادة الألمان اخيرا مراجعة لاستراتيجيتهم في ضوء السياق الجيوسياسي والاقتصادي المستجد، والمتمثل بحرب أوكرانيا وفوز الرئيس دونالد ترمب، وابتعاده عن حلف الـ"ناتو"، مما دفعهم إلى اتخاذ القرار بتعزيز الدفاع

وحافظت ألمانيا على تمسكها بقاعدتها المالية الصارمة حتى بعد تعليق الاتحاد الأوروبي ما اتفق عليه في معاهدة ماستريخت تحت تأثير انتشار جائحة "كوفيد-19". وبلغت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي 63,6 في المئة، في نهاية عام 2024، وهي أعلى قليلا من سقف ماستريخت (60 في المئة) ولكنها أقل بكثير من المتوسط ​​في منطقة اليورو (89,7 في المئة).

غير أن القادة الألمان عمدوا اخيرا إلى إجراء مراجعة لاستراتيجيتهم على ضوء السياق الجيوسياسي والاقتصادي المستجد والمتمثل بحرب أوكرانيا وفوز الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وابتعاده عن حلف الـ"ناتو"، مما دفعهم إلى اتخاذ القرار بتعزيز دفاعاتهم، وأيضا بتحديث البنية التحتية ودعم التحول في مجال الطاقة والأداء الرقمي وتعزيز القدرة التنافسية، ولا سيما مع الحرب التجارية التي يشنها ترمب حتى على الاصدقاء. وكلها أمور تتطلب نهجا جديدا لا توفره قاعدة "كبح الدين".

رويترز
وزيرة الخارجية الألمانية أناليا بيربوك، مع وزير الخارجية الأميركي مارك روبيو، في بروكسل 4 أبريل 2025

على الصعيد العقائدي، دعمت المراجعة الاستراتيجية فكرة أن الدافع لاعتماد قاعدة "كبح الدين" هو انعدام الثقة في الحكومة. ومن الواضح أن هذه القاعدة مناهضة للديمقراطية إلى حد كبير لأنها تحرم السياسة من أحد أقوى امتيازاتها وهو تعزيز مواردها المالية.

من هنا كانت مبادرة المستشار المقبل المحافظ فريدريش ميرتس بحشد ائتلاف يضم الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الاشتراكي الديمقراطي إضافة إلى حزب الخضر، للحصول على الثلثين مما يسمح سريعا بتجاوز قاعدة "كبح الدين". وهذا ما لن يكون ممكنا في "البوندستاغ" التالي الذي انتخب قبل بضعة أسابيع، حيث سيتمتع حزب "البديل من أجل ألمانيا" وحزب اليسار فيه بأقلية وازنة في إمكانها تعطيل مشروع ميرتس.

وتعهّد "المضي بالبلاد قدما" عبر تعزيز القطاعين الاقتصادي والدفاعي مع عرضه اتفاقا لتشكيل حكومته الائتلافية في مطلع الشهر المقبل.

تتضمن خطة "بازوكا" برنامجا إنفاقيا لم يسبق له مثيل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية

ومن المقرر أن يتولى ميرتس منصب المستشار في أكبر قوة اقتصادية في أوروبا، في وقت تتسبب قرارات ترمب بفوضى تجارية عالمية ومخاوف كبرى في شأن الروابط الأمنية بين ضفتي الأطلسي في المستقبل.

"بازوكا" بمئات المليارات للدفاع وتجديد البنى التحتية

بناء على ذلك، أقر "البوندستاغ" في جلسته المنعقدة في 18 مارس/آذار المنصرم خطة "بازوكا" بموافقة 513 نائبا ورفض 207 نواب لها، أي بغالبية الثلثين من الحاضرين، وتبعه "البوندسرات" (الذي يمثل الأقاليم) بعد ثلاثة ايام .

وتتضمن الخطة برنامجا إنفاقيا لم يسبق له مثيل منذ نهاية الحرب العالمية الثانية يتكون من جزءين:

 الأول، إنفاق دفاعي استثنائي غير خاضع لقاعدة "كبح الدين" يتجاوز 1 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، أي ما يزيد على 44 مليار يورو، يخصص لتعزيز القدرات الدفاعية والأمن السيبراني والحماية المدنية والاستخبارات.

رويترز
جنود احتياط من الجيش الألماني خلال تدريبات عسكرية في ضواحي العاصمة برلين، 6 مارس 2025

الثاني، إنشاء صندوق خاص بقيمة 500 مليار يورو على مدى 12 عاما تستخدم موازنته لتجديد البنية التحتية – الطرق والجسور والمدارس والمستشفيات – ويخصص 100 مليار دولار منه للولايات المتحدة و100 مليار دولار أخرى لتدابير التحول البيئي وتنويع مصادر الطاقة نحو المزيد من طاقة الرياح البرية والبحرية والطاقة الشمسية الكهروضوئية والهيدروجين الأخضر. وذلك لارضاء حزب الخضر، نظير موافقته على الانضمام إلى جبهة تعديل قاعدة "كبح الدين".

تختلف التقديرات في شأن تأثير الإنفاق السابق على حجم الدين العام، إذ تقدره وثيقة برلمانية بزيادة قدرها 12 نقطة مئوية، مما سيرفع الدين العام إلى نسبة 75 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي

وتختلف التقديرات في شأن تأثير الإنفاق السابق على حجم الدين العام، إذ تقدره وثيقة برلمانية بزيادة قدرها 12 نقطة مئوية، مما سيرفع الدين العام إلى نسبة 75 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي. أما لارس فيلد، الرئيس السابق لمجلس الخبراء الاقتصاديين في ألمانيا، فيقدر ارتفاع الدين العام إلى نسبة 90 في المئة من الناتج. وسيؤدي إنفاق الصندوق الجديد مبلغ الـ500 مليار يورو وحده إلى زيادة محتملة في الدين العام بنسبة 20 في المئة.

الانتعاش الاقتصادي يصطدم بعدم اليقين

على الرغم من الارتفاع المتوقع في الدين العام، لا تزال تقديرات وكالات التصنيف الائتماني للاقتصاد الألماني إيجابية. فـ"ستاندرد أند بورز" ترى أن الخطة قد تؤدي إلى تعزيز التصنيف الائتماني AAA لألمانيا من خلال إنعاشها الاقتصاد الراكد، وذلك بفضل المضاعف المالي. مع ذلك، فقد ارتفعت أسعار الفائدة السيادية بعد المصادقة على البرنامج الانفاقي من 2,4 في المئة إلى نحو 2,8 في المئة، مما يعكس حالة عدم اليقين الجديد.

كيف تقيم خطة "بازوكا" لتحفيز الاقتصاد؟

ترسي الخطة تحولا بنسبة 180درجة فرضه الواقع في عقيدة الحزب الديمقراطي المسيحي التي أرساها السياسي الألماني الراحل فولفغانغ شويبله، والذي اعتبر في وقت من الأوقات الأكثر شعبية بعد ميركل، وهي تقوم على تجسيد التقشف المالي أو ما يعرف بـالـ"بلاك زيرو" (Black Zero).

أ.ب.
عامل في مصنع للصلب في مدينة ديسبورغ الألمانية، 20 مارس 2025

كما تكشف عن تحول نحو استراتيجيا جديدة مستوحاة من النهج "الكينزي"، الذي يقوم على فكرة تحفيز الاقتصاد من خلال الإنفاق العام، ولكنها، مع ذلك، تظل مقيدة بالتقاليد الليبيرالية الألمانية التي تدعو إلى الاستقرار المالي والحد الأدنى من تدخل الدولة. من هنا، فإن نجاح الخطة سيكون مرهونا بتحقيقها التوازن بين النمو والانضباط المالي، في سياق متزايد من عدم اليقين.

تخصيص 8,33 مليارات يورو فقط سنويا للسياسة الصناعية الخضراء على مدى 12 عاما، لن يمكن ألمانيا من التحول فعليا إلى الاقتصاد الأخضر على المدى الطويل

وهي تتضمن استفادة من عِبَر التاريخ. فإنكلترا أخفقت في التعبئة الفاعلة ضد ألمانيا النازية في ثلاثينات القرن العشرين، لأنها أعطت الأولوية للانضباط المالي على القدرة الدفاعية، بعكس الولايات المتحدة، حيث مول المواطنون سندات الحرب وأقدم الاحتياطي الفيديرالي على شراء كميات كبيرة من الديون الأميركية القصيرة الأجل. وتتمحور الخطة بشكل رئيس حول الإنفاق العسكري، وبصورة متواضعة جدا حول استثمارات البنية التحتية والمناخ، أما بالنسبة الى بقية الاقتصاد والمجتمع، فيبدو أن التقشف سيظل ساريا.

القدرة التنافسية للشركات الألمانية على المحك

لذا، يرى البعض أنه من الوهم توقع انتعاش اقتصادي قوي في ألمانيا يعتمد على الإنفاق العام الذي تقرر. لا بل العكس، يتوقع أن تغذي السياسة المالية التوسعية دورة الأجور والتضخم، مما سيؤثر سلبا على القدرة التنافسية للشركات الالمانية في الأسواق العالمية، التي تشهد أصلا تراجعا في تصدير بعض القطاعات كالسيارات والهندسة الميكانيكية والمواد الكيميائية، نتيجة ارتفاع المنافسة وقيود التعريفات الجمركية حديثا.

رويترز
سيارات فولسفاغن، التي يتتجهز للتصدير إلى اوروبا والولايات المتحدة، في عربات قطار المتجهة إلى ميناء أمدن، 2 أبريل 2025

يشكل التمويل الإضافي الذي رصدته الخطة للاستثمار في التكنولوجيا النظيفة خطوة في الاتجاه الصحيح، لكن تخصيص 8,33 مليارات يورو فقط سنويا للسياسة الصناعية الخضراء على مدى 12 عاما، لن يمكن ألمانيا من التحول فعليا إلى الاقتصاد الأخضر على المدى الطويل. وتتضمن الخطة، تحيزا ماليا واضحا في اتجاه إعادة تخصيص كبير للموارد والإنتاج نحو القطاع العسكري على حساب العطاءات الاجتماعية أو توسيع دائرتها، مما يرجح أن يعزز الدعم لحزب "البديل من أجل ألمانيا" اليميني المتطرف.

هل جاءت الخطة بعد فوات الأوان؟

يرى بعض الخبراء أن الخطة جاءت متاخرة، فهي تتضمن اقتراض مبلغ 500 مليار يورو بأسعار فائدة تبلغ حاليا 3 في المئة في حين كان بالامكان اقتراضه مجانا تقريبا قبل خمس سنوات عندما كانت أسعار الفائدة سلبية. وكشفوا، كما يرى فلوريان ماينل، أستاذ القانون الدستوري والعلوم السياسية في جامعة غوتنغن، أن "دستورية التقشف" هي المشكلة الحقيقية للألمان وليست الهجرة، كما عمل المرشحون على إقناع الناس بها حتى آخر يوم قبل الانتخابات. والتقشف هو نوع من التطرف السياسي وهو الذي أدى إلى خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، أكثر تجلياته تطرفا الجمع بين السياسات المالية والنقدية الصارمة. فالتمويل النقدي، الذي يُنظر إليه على نطاق واسع باعتباره وصفة للتضخم والحكم غير المسؤول، ساعد في الواقع العديد من الدول على التعامل مع النفقات الضخمة غير المتوقعة إبان الحروب والأزمات المالية وانتشار الاوبئة.

الولايات المتحدة لم تعد الشريك الموثوق به الذي كانت عليه منذ الحرب العالمية الثانية، لذا لا بد لألمانيا أن تأخذ المبادرة وتتولى دورا قياديا أكبر فلا بديل لهذا الأمر، وإبقاء نظام كبح الديون لن يكون مناسباً

توماس بيبريشر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة غوته، فرانكفورت

لم تذكر الخطة، في رأي كاترينا بيستور، أستاذة القانون في جامعة كولومبيا، ما إذا كان البنك المركزي الأوروبي مستعدا لدعم تمويل الديون الحكومية للاستثمار في الدفاع وغير ذلك من الاحتياجات الحرجة، بدلا من زيادة الضرائب، ولو حصرا، على الطبقات الميسورة.

تحول تاريخي اقتصادي وجيوسياسي وعسكري

لكن الخطة تبقى محطة تحول تاريخية ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، بل أيضا، وربما الأهم، على الصعيدين الجيوسياسي والعسكري. إذ يبدو أن قرار برلين هو بعدم الاستمرار في الاتكال على حلف الأطلسي وبالانفاق على إعادة التسلح، مما يعني نهاية حقبة امتدت لـ80 عاما وبداية حقبة جديدة يتم فيها إنشاء بنية أمنية أوروبية ديغولية لمرحلة ما بعد حلف شمال الأطلسي.

.أ.ف.ب
المنطقة الصناعية في فرانكفورت، غرب ألمانيا 7 أبريل 2025

وفي هذا، أوضح المستشار المقبل فريدريش ميرتس أمام النواب، أنه يجب تعزيز القدرات الدفاعية بشكل جذري، وهو ما يشكل خطوة نحو إنشاء مجتمع دفاعي أوروبي جديد. وهذا الأمر أكده زعيم الحزب الاشتراكي الديمقراطي لارس كلينغبايل بالقول "إن ما تقرر يتعلق بإعطاء اتجاه جديد لتاريخ ألمانيا وتجديد إيجابي لها ولأوروبا".

كذلك ذكر توماس بيبريشر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة غوته في فرانكفورت "أن الولايات المتحدة لم تعد الشريك الموثوق به الذي كانت عليه منذ الحرب العالمية الثانية، لذا لا بد لألمانيا أن تأخذ المبادرة وتتولى دورا قياديا أكبر فلا بديل لهذا الأمر، وإبقاء نظام كبح الديون لن يكون مناسباً".

font change