لم يكن عمر المخرجة اللبنانية ميريام الحاج تجاوز 7 سنوات حين اتفق متحاربو بلدها لبنان على إنهاء حرب أهلية دمرته على مدى 15 عاما، وقتل وجرح وفقد خلالها مئات الآلاف، وشرّد مليون إنسان، أي ثلث السكان. اشتركت أحزاب داخلية وقوى خارجية إقليمية وعالمية في الحرب، وتعددت جولاتها وشملت كل أنحاء البلاد، وشرذمت المدن والقرى الى مربعات صغيرة، انتشر فيها المسلحون. أحد الخطوط الحادة التي قسمت العاصمة اللبنانية آنذاك، بين منطقتين، شرقية وغربية، كان يقع بالقرب من المتحف الوطني، الذي ناله الدمار وأقفلت أبوابه وحجبت بعض مقتنياته داخل أقبية، تحت طبقات اسمنتية.
وكما في غالبية العائلات اللبنانية، بمختلف أطيافها وخلفياتها، اشترك أفراد من محيط ميريام الحاج العائلي والسكني في المعارك. لكن، ومع اقتراب الذكرى الـ50، لاندلاع تلك الحرب، في 13 أبريل/ نيسان 1975، وقفت الحاج، في يناير/ كانون الثاني الماضي، في مبنى مجاور للمتحف،على مسرح "المركز الفرنسي"، أمام جمهور حاشد، جاء لمشاهدة العرض اللبناني الأول لفيلمها الوثائقي: "متل قصص الحب"، لتعلن رفضها الانغماس في العقلية والأوهام التي سقط فيها الجيل الذي سبقها: "كنت في بعض المرات أنظر الى عيونهم وأجدها سارحة الى أماكن بعيدة وداكنة وقبيحة وكنت أخاف أن تبتلعني أنا أيضا".
في النقاش الذي تلا الفيلم، الذي صوّرته على مدى 7 سنوات، كررت الحاج، مواقفها عن معارضتها لسياسات الأحزاب التي أدت الى خراب البلاد، وأملها بتحرير الذات اللبنانية من الخوف، لكي تواجه المنظومة القاسية، عبر لفظ أوهامها وأخطائها الخاصة، كما فعلت الشخصيات الثلاث الرئيسية في فيلمها، وكما فعلت هي، التي عدّت شخصية رابعة تطلّ بصوتها من وراء الكاميرا على الأحداث، حاملة سرديتها الشخصية، واشتباكها مع قضايا وطنها.
أساليب منوعة للبقاء
جسّد "متل قصص الحب"، الذي عرض في مهرجانات سينمائية عربية ودولية عريقة مثل برلين والقاهرة ومراكش، رحلة مواجهة لجيل من الفنانين والناشطين اللبنانيين، ممن كبروا خلال سني الحرب أو ولدوا بعدها، وشهدوا حقبا من الأزمات الأمنية والاقتصادية المتكررة، في ظل حكومات ومؤسسات وأجهزة سيطرت عليها الأحزاب ذاتها التي صنعت الحرب. ومع تراكم عوامل الاحباط، انفجرت طاقة هذا الجيل، في شوارع بيروت، ثم على امتداد لبنان، في عام 2019، تحت مسمّى "الانتفاضة الشعبية"، التي سرعان ما جذبت فئات عمرية وأطيافا منوّعة من الشعب، وجهت جميعها رسائل صارخة ضد المنظومة الحاكمة: "نحن الثورة الشعبية... وأنتم الحرب الأهلية"، كان أحد الهتافات الرائجة خلال تلك الانتفاضة التي استمرت، واقعيا على الأرض، لسنتين، غير أن مطالبها وبعض أثرها، كما الظروف التي أدت لتحفيزها، لم تنته الى اليوم.