في ذكراها الخمسين... فنانون لبنانيون شباب يستحضرون أشباح الحرب الأهلية

إرث ثقيل ما زالت تدفع ثمنه الأجيال

Lina Jaradat
Lina Jaradat
لبنان

في ذكراها الخمسين... فنانون لبنانيون شباب يستحضرون أشباح الحرب الأهلية

لم يكن عمر المخرجة اللبنانية ميريام الحاج تجاوز 7 سنوات حين اتفق متحاربو بلدها لبنان على إنهاء حرب أهلية دمرته على مدى 15 عاما، وقتل وجرح وفقد خلالها مئات الآلاف، وشرّد مليون إنسان، أي ثلث السكان. اشتركت أحزاب داخلية وقوى خارجية إقليمية وعالمية في الحرب، وتعددت جولاتها وشملت كل أنحاء البلاد، وشرذمت المدن والقرى الى مربعات صغيرة، انتشر فيها المسلحون. أحد الخطوط الحادة التي قسمت العاصمة اللبنانية آنذاك، بين منطقتين، شرقية وغربية، كان يقع بالقرب من المتحف الوطني، الذي ناله الدمار وأقفلت أبوابه وحجبت بعض مقتنياته داخل أقبية، تحت طبقات اسمنتية.

وكما في غالبية العائلات اللبنانية، بمختلف أطيافها وخلفياتها، اشترك أفراد من محيط ميريام الحاج العائلي والسكني في المعارك. لكن، ومع اقتراب الذكرى الـ50، لاندلاع تلك الحرب، في 13 أبريل/ نيسان 1975، وقفت الحاج، في يناير/ كانون الثاني الماضي، في مبنى مجاور للمتحف،على مسرح "المركز الفرنسي"، أمام جمهور حاشد، جاء لمشاهدة العرض اللبناني الأول لفيلمها الوثائقي: "متل قصص الحب"، لتعلن رفضها الانغماس في العقلية والأوهام التي سقط فيها الجيل الذي سبقها: "كنت في بعض المرات أنظر الى عيونهم وأجدها سارحة الى أماكن بعيدة وداكنة وقبيحة وكنت أخاف أن تبتلعني أنا أيضا".

في النقاش الذي تلا الفيلم، الذي صوّرته على مدى 7 سنوات، كررت الحاج، مواقفها عن معارضتها لسياسات الأحزاب التي أدت الى خراب البلاد، وأملها بتحرير الذات اللبنانية من الخوف، لكي تواجه المنظومة القاسية، عبر لفظ أوهامها وأخطائها الخاصة، كما فعلت الشخصيات الثلاث الرئيسية في فيلمها، وكما فعلت هي، التي عدّت شخصية رابعة تطلّ بصوتها من وراء الكاميرا على الأحداث، حاملة سرديتها الشخصية، واشتباكها مع قضايا وطنها.

أساليب منوعة للبقاء

جسّد "متل قصص الحب"، الذي عرض في مهرجانات سينمائية عربية ودولية عريقة مثل برلين والقاهرة ومراكش، رحلة مواجهة لجيل من الفنانين والناشطين اللبنانيين، ممن كبروا خلال سني الحرب أو ولدوا بعدها، وشهدوا حقبا من الأزمات الأمنية والاقتصادية المتكررة، في ظل حكومات ومؤسسات وأجهزة سيطرت عليها الأحزاب ذاتها التي صنعت الحرب. ومع تراكم عوامل الاحباط، انفجرت طاقة هذا الجيل، في شوارع بيروت، ثم على امتداد لبنان، في عام 2019، تحت مسمّى "الانتفاضة الشعبية"، التي سرعان ما جذبت فئات عمرية وأطيافا منوّعة من الشعب، وجهت جميعها رسائل صارخة ضد المنظومة الحاكمة: "نحن الثورة الشعبية... وأنتم الحرب الأهلية"، كان أحد الهتافات الرائجة خلال تلك الانتفاضة التي استمرت، واقعيا على الأرض، لسنتين، غير أن مطالبها وبعض أثرها، كما الظروف التي أدت لتحفيزها، لم تنته الى اليوم.

أمام حجم الكارثة أصبحت اللغة التقليدية عاجزة وتافهة، لذا كان عليّ الذهاب إلى ما بعد اللغة، وما بعد الكارثة، وربما إلى ما بعد التاريخ

فرانسوا يزبك

كما أن انفجارا من نوع آخر، بالمعنى الحقيقي، لا المجازي للكلمة، كان على موعد مع المدينة المنكوبة، بعد وقت ليس ببعيد من انتفاضتها. في 4 أغسطس/ آب 2020، اشتعل 2750 طنا من مادة متفجرة مخزنة في مرفئها، الأمر الذي سبب انفجارا مدمرا قتل 218 شخصا وجرح 7 آلاف ودمر أبنية وشوارع وأدى الى هجرة جماعية لجيل من الشباب اللبناني، منهم فنانون، الى الخارج، ودفع بعضهم إلى اختيار لغة حادة للتعبير عن حجم المآسي المتراكمة. تراوحت هذه اللغة بين التسجيلية الواقعية المباشرة من جهة، والسوريالية التجريبية من جهة أخرى، وبينهما حفّز هذا الحدث الصادم ولادة أساليب فنية متعددة، لم تكن رائجة من قبل.

Lina Jaradat
ميريام الحاج

"أمام حجم الكارثة أصبحت اللغة التقليدية عاجزة وتافهة، لذا كان عليّ الذهاب إلى ما بعد اللغة، وما بعد الكارثة، وربما إلى ما بعد التاريخ. كان عليّ تخيّل بيروت في حقبة ما بعد البشرية"، يشرح المخرج الشاب فرانسوا يزبك الذي اختار كلمة "نيكروز" عنوانا لأحدث أفلامه، وهو مصطلح كلينيكي يعني "عضوا فاسدا ميتا يهدد الكائن الحي".

بينما يحدد مخرج آخر، من الجيل ذاته، هو جان كلود بولس أن "الذهاب إلى العالم السفلي المهمّش بحثا عن قصص لمؤثرين لفظهم الإطار اللبناني التقليدي خارج الأضواء، بهدف حشد قوتهم الابداعية في تجمعات فنية وفاعلة" هو أسلوبه في مواجهة الضغوطات، والذي عبّر عنه أخيرا في مشروعه السينمائي الجماعي "خارج الإطار".

وفي مكان خاص ومواز، تحمل المصوّرة، ومبتكرة اللوحات ثلاثية الأبعاد، ياسمينة هلال، أداة حارقة وشرائط نيغاتيف بين يديها، لتحرق الماضي، مستحضرة أشباحه، في الوقت ذاته، في سلسلتها الفنية الأحدث "بشوف حالي فيكي". تقول: "عرفت مبكرا أن الصورة ليست مثالية، وأن الفنّ، مثل حياتنا، يجسّد أمرا يُتلاعب به".

بين الأمل والإحباط، العزلة والحشود، الهجرة والبقاء، التمرد والاستسلام، القمع والبحث عن لغة بديلة... يتوزع إنجاز الفنانين الأربعة الذين تحدثت اليهم "المجلة" في ذكرى نصف قرن على الحرب الأهلية التي يسارع اللبنانيون حين تُذكر إلى القول "تنذكر ما تنعاد"، على ما تقول أيضا إحدى أغنيات فيروز.

صدمات تحت الجلد

تتوقف أحداث "متل قصص الحب" فجأة عند شاشة سوداء. يستمر الجمود لثوان. ثم يسمع الجمهور دويّ انفجار مباغت يتضخم صوته المحصور بين جدران القاعة المغلقة. يتململ البعض في صالة العرض، ويضع البعض الآخر يده على قلبه، وبحركة لا ارادية، يخفي مشاهدون رؤوسهم تحت مساند المقاعد. إنه حدث "انفجار بيروت"، يمرّ داخل شريط الأحداث، ليجبّ ما قبله من قصص تابعها المشاهد، ويرخي بثقله على الجزء المتبقي من الفيلم. نقطة سوداء بين حدثين.

Lina Jaradat
جان كلود بولس

ما قبل: ثورة شعبية، تظاهرات صاخبة، أمل باسقاط الحكومة ورؤساء الأحزاب والطوائف في الشارع.

ما بعد: مكانس يدوية لتنظيف الشوارع من ركام واجهات المباني المهدمة، أقراص مهدئة يتعاطاها الناشطون والحالمون بالتغيير لكي يتمكنوا من الاستمرار في الحياة، أسماء ضحايا جدد، تضاف الى السجلات التي لا تنتهي لضحايا المدينة، رسمت، هذه المرة، على بالونات بيضاء، وأطلقت للسماء، على وقع موسيقى ابتهالات دينية مسيحية واسلامية، من فوق رؤوس الأهالي الذين فقدوا أبناءهم وأهلهم وأصدقاءهم في الانفجار.

تصوّر الحاج ذلك كله، وتجسده عبر الشرخ النفسي والوجداني، الذي أصاب شخصيات فيلمها، بعد حدث اعتبر الأقسى في سلسلة الصراعات التي عاشوها. شخصياتها توزعت على ناشطتين سياسيتين، جمانة حداد وبيرلا معلولي، إعلامية وموسيقية، ومحارب قديم برجل واحدة وبتحوّلات عديدة، هو جورج مفرّج، الملقب بـ"أبو الليل".

على مدى سنوات، وعلى غرار "قصص الحب" السامة التي تنتهي بفشل، ثم يبزغ بعدها أمل جديد، تصارع الشخصيات أوهامها، تتطهر تارة، تنهار تارة أخرى، تستسلم،  ثم تلعن استقواء الشر في لحظة انكشاف الخديعة: "ليس هذا الوطن الذي حلمت به وقاتلت من أجله. لقد خدعونا، رموا بنا إلى المعارك، وتكسبوا على ظهورنا"، يقول المحارب، الذي تصوّره المخرجة، في احدى لقطات الفيلم، على عكازه، تائها على الأسفلت، يمشي في دوائر على عتبة بيته، كمن فقد البوصلة.

في الوقت ذاته، تتعرض بيرلا لخطر يهدد حياتها من قبل مجموعات اقتحمت الحي الذي تسكنه، معترضة على نشاطها السياسي الاجتماعي، فتقرر، بعد شهور مرهقة من اليوميات الاحتجاجية على الأرض، أن تعتصم عند حافة سطح المبنى، وتغني عبر مكبّر صوت: "اللعنة على من لعن أرضي".

عرفت مبكرا أن الصورة ليست مثالية، وأن الفنّ، مثل حياتنا، يجسّد أمرا يُتلاعب به

ياسمينة هلال

وفي حين لا تتخلى حدّاد عن الأمل، من دون أن تبدو راغبة في خوض معترك الترشح للانتخابات مرة أخرى، حيث منيت بالفشل في عملية اعتبرتها مدبرة ضدها وضد مشروعها التغييري، تحسم المخرجة، من جهتها، زاد الرحلة بالقول: "لم أستطع إنقاذ أحد من خلال مشاركتي في الثورة، ولا أنقذت أهلي من تلك النظرة الرمادية، لكنني أنقذت نفسي. الفيلم حرّرني من الخوف، وتعلّمت أنه قد يحدث التغيير حين نتوقف عن ملاحقته".

إحباط؟ ليس تماما. تلك الليلة التي عرض فيها الفيلم، ميزتها حادثتان حصلتا بشكل مواز. في الخارج: احتفالات لبنانيين في "ساحة الشهداء" (ساحة الثورة)، في وسط بيروت، بتكليف رئيس الحكومة اللبناني الجديد نوّاف سلام بمنصبه، وانعقاد الأمل عليه بإمكانية تغيير مقبل. وفي الداخل: خطأ تقني أثناء عرض الفيلم أدى إلى إعادة عرض مشهد الشاشة السوداء مع صوت الانفجار مرة ثانية. يعلق أحد الحضور: "هذه مآسي عششت تحت الجلد. حتى في استعادتها كل مرة عبر الإعلام والسينما لا نتوقف عن الفزع. ولو أعيد المشهد عشر مرات كنا لنقفز فزعين رغم معرفتنا بأنه سيأتي حكما". تقول الحاج: "على الأقل، رئيس الحكومة الجديد، كان من مطالب ثورتنا. لم نهزم تماما".

في أحد مشاهد الفيلم توجه نقدا حادا إلى جيل الحرب الأهلية: "أردت أن أقول لجورج إن من خذلك هي الأحزاب، التي وهبتها سني عمرك وحاربت تحت راياتها، وهي ذاتها التي سرقت ثورتنا".

Lina Jaradat
لبنان

خارج الإطار

على مسافة 80 كيلومترا من مبنى المتحف الوطني، وفي عاصمة الشمال اللبناني طرابلس، حوّل متحمسون لتاريخ المدينة العريق ولفنّ عمارتها، مبنى أثريا أعتق من المتحف، إلى مركز ثقافي حمل اسم "مرسح" في حروف معكوسة، تشير إلى طريقة لفظ خاصة بسكان تلك المنطقة، المتعطشين لوفود الفن التي تحط رحالها في مدينتهم آتية من العاصمة الأشد زخما واضطرابا.

يجلس جان كلود بولس مع شريكه الفني بشير أسمر، على حافة شاشة العرض الصغيرة، ويحضّران جمهور "مرسح"، لمشاهدة ستة أفلام قصيرة نفذّاها، عن يوميات ستة فنانين يمكن وصفهم بـ"فناني الأندرغراوند"، أي من هم خارج أطر الفن التجاري الذي تنشره وسائل الإعلام التقليدية وتشتبك "شرعيته" ورواجه في كثير من المرات مع دوائر السلطة والمال في البلد: "على الرغم من تشعب مواهبهم، إلا أنهم متشابهون في تمرّدهم على المنظومة التقليدية التي تحكمها شللية نافذة، كما أن جلّهم ولد مع نهاية الحرب الأهلية، وأنا منهم".

قبل 50 شهرا ونيّف من تلك الليلة، كان بشير وجان كلود متكئين على حافة أخرى، في بيتهما القريب من المرفأ، حين حدث الانفجار. جرح الأول وكسرت جمجمة المخرج، ما استدعى بقاؤه في قسم العناية الفائقة في المستشفى لأيّام طويلة: "لم يتسنّ لأحد أن يفكر بنظّارتي التي ابتلعها الركام. في المستشفى، كنت أصور كل شيء أريد أن أتبينّه، عبر عدسة هاتفي، ثم أكبّر الصورة، لكي أرى"، يقول لـ "المجلة".

"ضاع بفعل الانفجار أرشيف كامل لمشروعات فنية عملنا عليها لسنوات، ومشاريع لم تكن ظهرت بعد، لكنني خرجت أكثر إصرارا على أن أكمل ما بدأته قبل سنوات: ابتكار مشاريع فنية يكون سرد الحكايات في عمقها. الحكي لديه قوة تطهرية من ثقل الماضي وقسوة الواقع وهواجس المستقبل... أن تستمر بالسرد هو فعل مقاومة ضد من يريد أن يلفك بالعزلة"، يشرح بولس الذي ولد في مرحلة رفعت شعار "عفا الله عما مضى"، الذي ابتكره المتحاربون لإخفاء الكثير من حكايات جيلهم القاسية.

"إن ذي لوب" كان أحد المشاريع المبكرة التي نشط فيها بولس في الشارع أثناء التحركات الشعبية التي حملت اسم "طلعت ريحتكم" في 2015، على إثر تفاقم إهمال السلطات المعنية لتصريف النفايات المتراكمة: "علّمتنا تلك الأزمة كيف نهتم بالبيئة وأن ممارسات إعادة التدوير بوسعها أن تنتج أعمالا فنية". بعدها بعامين أطلق مبادرة أخرى هي "حكواتية" استقطبت أجيالا مختلفة، وسمحت لأفراد أن يسردوا مآزقهم وحكاياتهم في فضاءات عامة وسط مجموعات متعاطفة. وكان ذلك بمثابة "ميني ثورة" وتدريب على استحقاق مقبل: "انتفاضة تشرين". إذ أنه، في 2019 كان من الطبيعي للثنائي، المحب لتجارب "السرد التطهري"، أن يجد مكانا فاعلا في الساحات الثائرة، حيث أطلقا سلسلة فيديوهات مصورة بعنوان "ثورة ميديا"، انتقدت التلاعب والانتقائية اللذين ميزا الاعلام التقليدي في تغطية يوميات هذا التحرك، ولبّيا مفهوم "الشاشة البديلة".

هدد الانفجار كل ما آمن به بولس، ابن الثلاثين عاما ونيف، عن أهمية السينما والتوثيق، كعمل نضالي اجتماعي، لكنه، رغم ذلك، لم يستسلم: "لم أغادر، ولم أندم على ما قدمته، إذ فعلت بسلاح متواضع هو الكاميرا، كل ما يسعني فعله، لكنني انتقلت من البحث في الساحات إلى التنقيب تحتها".

أن تستمر بالسرد هو فعل مقاومة ضد من يريد أن يلفك بالعزلة

جان كلود بولس

في مشروعه الوثائقي الأحدث "أنفريمد" (خارج الإطار) نتابع أحداث 24 ساعة مستقطعة من حياة فنانين من الجيل الشاب، هم المصورة تمارا سعدة، الممثل والراقص بشارة عطا الله، الكاتبة والمؤثرة دونا خليفة، مصمم الكولاج سركيس جولفيان، رسامة "الكوميكس" كارلا حبيب، وفنانة الوسائط المتعددة ياسمينة هلال.

Lina Jaradat
ياسمينة هلال

الحضن العائلي

شهدت جدّة الفنانة ياسمينة هلال العصر الذهبي للبنان قبل حروبه كافة. حقبة "سويسرا الشرق" تلك، التي أطلقت نوستالجيا في المخيّلة العامة لسني ما بعد الحرب، "ما عاد أحد يأبه لها اليوم... فالأحداث الأليمة مستمرة، والحنين بات يتبع في كل دورة زمنية من 5 سنوات، الدورة التي سبقتها، وليس فترة ستينات القرن الماضي. التدمير لم يتوقف".

عاشت الجدة، المهتمة بالفنون والأناقة والجمال، في بيتها الواسع في منطقة "الرملة البيضاء" على ساحل بيروت. في سني طفولتها، كانت ياسمينة مدللة جدتها: "تمشّط شعري، تلبسني أحلى الفساتين وتقول لي باستمرار إنها ترى ذاتها من خلالي، وهي التي أهدتني أول كاميرا في حياتي"، تقول لـ "المجلة".

وحين كبرت أكثر، ألبستها فستانا من زمن خطوبتها، في "العصر الذهبي"، أهداه لها الجد من قماش المصنع الذي امتلكه في طرابلس، في المدينة ذاتها، حيث عرضت الحفيدة أعمالها في مركز "مرسح": "عودتي إلى هذا المكان عاطفية، إنه صلتي بالحضن العائلي".

ذلك منهل يتكرر في سيرة الفنانين الشباب الذين حملوا إرثا ثقيلا على أكتافهم من دون أن يكون لهم دور في ما عاشوه: "الحرب اللبنانية، ثم الضغوطات الأمنية، ثم مواجهة انتفاضة جيلنا وقمعها، ثم انفجار المرفأ، والانهيار الاقتصادي، وتبخّر المدخرات، وحروب إسرائيل... نحن نتعامل طوال الوقت مع أشباح الماضي وشياطين الحاضر".

زادت تجربة مرض بدني، عانت منه هلال في سني المراهقة، من ذلك الضغط، فاندفعت بعد شفائها إلى التمسك بالحياة، عبر استلهام الإرث العائلي، وتثمين مشاعر الأسرة، بوصفها "طاقة حب صافية في محيط يضج بالطاقة السلبية".

ومثلما ألبستها جدتها الفستان وجهت دعوة إلى مجموعة من الصديقات والمعارف لكي يرتدين ملابس من خزائن جداتهن وأمهاتهن، وأخضعتهن لجلسات تصوير فنيّة، مستفيدة من خبرات في مجالات عمل سابقة، خاضتها كمصورة لصالح مجلات موضة شهيرة: "ثم قمت بعد ذلك بطبع الصور على أشرطة نيغاتيف حمضتها وتلاعبت بها بتقنيات القص واللصق والحرق والنقع مواد معينة، لتكون النتيجة لوحات عرضت في لبنان والخليج وأوروبا واقتنتها صالات عرض".

في أعمال هلال يطلّ الموت من خزائن الحياة، وتتحاور الفنانة مع "أشباح تزورني دوما بملابس بيضاء نقيّة".

تلك الأشباح التي تحلق فوق مباني بيروت هي التي أخذها معه فنان شاب آخر، ولد أيضا بعد انتهاء الحرب الأهلية اللبنانية، هو المخرج فرانسوا يزبك، إلى "منفاه"، في أقاصي شمال الأرض، فنلندا، مع حزمة صور كثيرة لمبان مهجورة من لبنان، ولأجساد ممددة تنتظر كاميرا تغوص تحت جلدها، ولأحشاء مكوّمة، مع أصوات هامسة وزاعقة، وجيب عدسة كاميرا، صوّرت قمرا مكتملا من غابة الأرز في أعلى الجبال، وقصيدة تتحدث عن "الوجه الآخر للتكوين" كتبها شاعر لبناني شهير، من عائلة الفنان هو أنسي الحاج.

Lina Jaradat
فرانسوا يزبك

انقراض "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع"

في بيته، داخل حي كاليّو في العاصمة الفنلندية هلسنكي، أنجز المخرج فرانسوا يزبك فيلمه "نيغروز" مستفيدا من أجواء العزلة بعيدا عن بيروت. وهو، حين قرر أن يرتحل الى "منفى" اختياري، كما "فعل جلّ أبناء جيلي"، لم تنته العلاقة الإشكالية التي تربطه ببيروت، المتداخل تاريخها مع التواريخ الشخصية والإبداعية لعائلته.

ليس من السهل الاقتراب من بيروت. عليك أن تخترع لغة خاصة لكي تتمكن من محاورتها

فرانسوا يزبك

ينحدر يزبك من عائلة تقدّر الشعر وتمتهنه. فأنسي الحاج، شقيق جدته، هو أحد شعراء الحداثة في ستينات القرن الماضي، وكان له إسهامات فكرية وثقافية كبيرة على مستوى لبنان والعالم العربي، كما ترجمت أشعاره الى لغات متعددة، وارتبط اسمه أيضا بمنجز الإدارة التحريرية في مطبوعات واسعة الانتشار. ولا يتوقف التأثير عند الشاعر المعروف، فجدة يزبك ووالده، كانا يكتبان الشعر أيضا، وقد فارقا الحياة في سنة واحدة.

الشعر، الموت، العزلة، الصمت، التأملات حول الفناء، التأثر بعالم المخرج الأميركي ديفيد لينش الذي يأخذ المشاهدين في أفلامه الى دوامات وحلقات تبدأ من أماكن وتعود إليها، من دون أن يخرج الموضوع من فك المتاهة... عوامل ساهمت في تشكيل شخصية يزبك السينمائية.

حاز عمله على  تقدير الجمهور والنقاد والمهرجانات، من بوغاتا الى أمستردام مرورا ببيروت وباريس: "أردت أن أصور بيروت، الجرح الكبير. المدينة التي عشت فيها، وسط مشهدين متناقضين حد التنافر: نخترع لحظات صاخبة، لكننا نتحرك في الآن ذاته، في شوارع لا يزال أثر الخراب، الذي يذكّر بالموت، ماثلا فيها كديكور قائم، يحيط بنا. الخراب ليس فقط ذكرى أو صورة، بل له طاقة إشعاعية تنفذ طوال الوقت إلى جلدنا، وتعزز الصدمات المتمددة ما تحته".

صوّر "نيكروز" رحلة خلاصية لـ "شبحين" يريدان العودة إلى "جسد المدينة" التي لفظتهما، لكنهما أخفقا، وعادا للتحليق إلى الفضاء. يتابع المشاهد، في الفيلم، ارتحالا بطيئا ودقيقا من عالم الشخصيات الجواني، يبدأ من لحظة الخلق، ثم من جروح في الأعضاء الداخلية، ثم لقطات مقرّبة ونابضة، لا تخلو من الحسّية، تمرّ على أجساد ممددة، قبل أن نحلّق فوق مباني المدينة المهجورة، وشوارعها الخالية إلا من الظلال والأنوار الخافتة. يواجه المشاهد أيضا حرائق تشتعل بأسى وسكينة في ما تبقى من انهيارات أهراءات القمح في مرفأ بيروت المتفجر بعد سنتين من الحادثة. ثم تتسع الرؤى لتصل إلى مرتفعات جبال لبنان، وسفوحه وسهوله الخالية. تتكرر الرحلة بعد ذلك، على طريقة لينش لكن المشاهد تهبط في المرة الثانية، الى ما تحت الماء، قبل أن تنتهي في الفضاء. يتوحد غبار الكون مع غبار المدينة التي لكثرة ما أنهكت، تلاشت وباتت مسرحا للأطياف.

هل أنقذت بيرون أم أتلفت للأبد في تأملات يزبك السينمائية السوريالية التي لا تخلو من شاعرية سوداء؟

يقول لـ "المجلة": "ليس من السهل الاقتراب من بيروت. عليك أن تخترع لغة خاصة لكي تتمكن من محاورتها، ودراستي السينما، كما استلهامي الشعر والفن الكلاسيكي، وخبرتي في مجال تصميم الأصوات الموسيقية وتوليف الصور... كل ذلك مكنني من إنجاز هذا الفيلم، لأعبر عن ضغوطات جيل ترعرع في زمن مموّه بالسلم، إلا أنه مليء بطاقات سلبية ومشتتة". ويضيف: "اختبر جيلي العنصرية وخطوط الحرب الباردة والخوف من الآخر والأثر القاسي لثقل الماضي الدامي، في الوقت ذاته الذي كنا نغني ونرقص في المدينة".

في 1975، عشية انطلاق الحرب الأهلية، أصدر الشاعر أنسي الحاج كتابه "الرسولة بشعرها الطويل حتى الينابيع". كان عنوانا لافتا نشر في مدينة سيجفف البارود قريبا، غالبية "ينابيعها" ويقص المتحاربون، منتشين بأوهامهم، شعرها الطويل، فتسقط في بئر "داكن وعميق" مثل عيون الشخصيات التي ظهرت أو استترت في ثنايا فيلم الحاج.

"اسمعوا لا تغلقوا الأبواب، الموج يحمل الرسالة إلى الريح". يتسرب صوت القصيدة في فيلم "نيكروز" من بين الركام.

font change