"سأقتل كل عصافير الدوري" للعمانية هدى حمد: أقفاص مفتوحة

متوالية قصصية تجمع بين السرد والبوح

هدى حمد

"سأقتل كل عصافير الدوري" للعمانية هدى حمد: أقفاص مفتوحة

لعل المراوغة بين القصة والاعتراف، العنوان البارز لنصوص الكاتبة العمانية هدى حمد (من مواليد 1981)، إذ لا حدود واضحة بين الحقيقة والخيال، بين السرد الأدبي والبوح الشفيف، فكل قصة هنا تشبه مرآة مشروخة تعكس أكثر من وجه، وأكثر من احتمال. إنها فعل استعادة، فعل مقاومة، وفعل كتابة لا ينتهي.

في مجموعتها القصصية الجديدة، "سأقتل كل عصافير الدوري"، الصادرة عن "منشورات تكوين" في الكويت، تشيّد هدى حمد عالما من الألم العميق، والبوح الجريء، والتمرد الصامت، فهي لا تسرد فحسب، بل تخلق كونا موازيا، حيث الكلمات أقفاص مفتوحة، والنساء عصافير لن يتمكن أحد من إسكاتها.

بأسلوب بارع ولغة مكثفة، تفتح الكاتبة نقاشا حول قضايا المرأة في المجتمعات العربية، مما يجعل نصوصها إضافة مهمة إلى الأدب النسوي، الخليجي والعربي المعاصر.

كل قصة جناح مقصوص

تأتي نصوص الكتاب في إطار "المتوالية القصصية"، يتصل بعضها ببعض في سلسلة سردية مشتركة، فتخلق تجربة تقترب من روح الكتابة الروائية، لكنها تحتفظ بخصوصية القصة القصيرة. هذه المتوالية ليست حكايات متفرقة، بل هي نسيج متشابك من الاعترافات والمواجع، تتحول معها الكتابة وسيلة نجاة، والسرد محاكمة خفية لجراح الماضي.

بطلة الكتاب ليست مجرد راوية، بل شاهدة على سنوات من القهر، تحتفظ بكل تفصيل، بكل نظرة كسرت قلبها، بكل همسة جعلتها تشعر أنها أقل شأنا، أنها غير مرئية، أنها مجرد ظل لامرأة كان يمكن أن تكون. وها هي تقلب الطاولة، وتجعل جلادها يستمع، بلا مقاومة، بلا حق في الدفاع، بلا مهرب من القصص التي تتحول قفصا يسوره، كما سوّرها الألم يوما.

نسيج متشابك من الاعترافات والمواجع، تتحول معها الكتابة وسيلة نجاة، والسرد محاكمة خفية لجراح الماضي

سردها يؤكد أن العصافير ليست زينة للسماء، بل أرواح مكبلة، وكل قصة هي جناح مقصوص، وحلم لم يكتمل، وصرخة مكتومة داخل صدور النساء اللاتي لم يسمح لهن بالصراخ. فنساء هذا الكتاب لا يعشن حياتهن، بل يواجهنها، يسحقن تحت ثقل التقاليد، تختصر أحلامهن في ما هو "مقبول" و"متاح"، ولكن في كل واحدة منهن جمر مشتعل تحت رماد صامت، والذاكرة ليست ماضيا ينسى، بل سلاح يستخدم. البطلة تتذكر كل شيء، تحمله معها كحجر ثقيل، لكنه أيضا قوتها، طريقتها في استعادة ذاتها المسلوبة.

غلاف "سأقتل كل عصافير الدوري"

تصوغ هدى حمد عالمها بأسلوب بسيط، وبلغة شعرية مشحونة لكنها حادة كالسيف. نصوصها مرايا، تنعكس فيها وجوه كل النساء اللواتي عرفناهن، واللواتي لم نعرفهن بعد، مما يجعل القارئ في مواجهة حقيقية مع الألم، لكنه الألم الجميل الذي يجعلنا أكثر وعيا وإنسانية وقدرة على رؤية ما وراء الكلمات.

التصالح مع الذات

تعتمد الكاتبة على شخصية الراوية التي تشارك قصصها مع رجل من ماضيها، كان تسبب في أذى لها خلال طفولتها. لكن بدلا من الانتقام المباشر، تختار أن تحاصره بالحكايات، ليصبح أسير الكلمات التي تفضح الألم والتجارب التي مرت بها. كل قصة تفتح نافذة على حياة نساء يعشن تحت وطأة التقاليد، والخذلان، وأحيانا العنف، لتنسج صورة متكاملة عن معاناة المرأة في محيطها الاجتماعي.

تتناول نصوص المجموعة موضوعات إشكالية عديدة، مثل القهر الاجتماعي الذي تتعرض له المرأة، العلاقات العائلية المتوترة وتأثيرها على الفرد، الحب والانكسارات العاطفية، ذكريات الطفولة وأثرها على الشخصية المستقبلية، البحث عن الحرية والتصالح مع الذات. وتوظف هدى حمد الطبيعة كرمز، وتستخدم عناصر مثل العصافير لتعكس حالات الهروب أو الأسر النفسي الذي تعيشه شخصياتها، في حين تتميز لغتها بالشعرية والرمزية، فهي لا تقدم قصصا مباشرة، بل تترك مساحة للقارئ ليعيد التأويل والاستكشاف.

هدى حمد

تقول على لسان إحدى الشخصيات: "في المصنع المهجور، ينعدم إحساسنا بالزمن تماما، نذوب، إلا أن وصول أسراب من عصافير الدوري بشكل متواتر لشجر الغاف المحيط بنا، كان علامة جديرة بالانتباه، إذ سرعان ما يعقب عودتها صوت جدي وهو يرفع آذان المغرب. تلك العصافير الضئيلة، التي يختلط لونها بين البني والأبيض والرمادي، تملأ السماء بشقشقاتها الجنائزية، فتعلن انتهاء اليوم من دون مفاوضة، أو مساومة، هكذا تتمكن تلك الأجنحة بالغة الرهافة من جلب الظلمة البائسة دافعة الشمس إلى أفول حزين".

توظف هدى حمد الطبيعة كرمز، وتستخدم عناصر مثل العصافير لتعكس حالات الهروب أو الأسر النفسي الذي تعيشه شخصياتها

العصافير هنا كائنات حقيقية، ترفرف داخل القفص، تصطدم بجدرانه، تتحول إلى رموز للنساء العالقات بين التقاليد والحرية، بين الذكرى والنسيان، بين الرغبة في الصراخ والخوف من العواقب. إنهن يملكن أجنحة، لكن أي سماء ستسمح لهن بالتحليق: "في أيام كثيرة لم أعد أحصيها، تحتد أمي ويعلو صوتها الغاضب عندما أتأخر"، "الغروب علامة كافية للعودة إلى البيت"، فأحبس نشيجي تحت بطانيتي البنية وأفكر ينبغي قتل كل عصافير الدوري بدم بارد".

لا تكتفي الكاتبة إذن بتقديم شخصياتها، بل تمنحها فرصة للحديث عن نفسها، لتفسير هشاشتها، ولقول ما لم تستطع قوله من قبل، بينما لغتها حية، عميقة، وموشومة بالشعر، حيث كل جملة في هذه المجموعة تنبض كأنها كائن حي، مكتوبة بروح متمردة، بكلمات تقطر وجعا وجمالا في آن واحد.

حفل توقيع ومناقشة المجموعة القصصية "سأقتل كل عصافير الدوري" للكاتبة العمانية هدى حمد في مكتبة "تنمية"

استراتيجيا العنونة

تعتمد هدى حمد استراتيجيا مغايرة في عنونة كتابها أولا والعناوين الداخلية للقصص ثانيا. ثمة طرح متقن وربط جلي بين العناوين جميعها، فهي تنسج ذات الروح المتمردة التي يحملها العنوان الرئيس، حيث تتسم بكثافة لغوية وقدرة على تلخيص الفكرة المركزية للقصة في عبارة واحدة، مما يجعلها مفاتيح لفهم العمق النفسي والتوترات التي تعيشها الشخصيات. من خلال هذه العناوين، نجد أنفسنا أمام لوحات متفرقة تتداخل لتشكل صورة واحدة، جدارية عن معاناة المرأة العمانية في محيطها الاجتماعي. فيما يشكل عنوان المجموعة الرئيس، "سأقتل كل عصافير الدوري"، بوابة أولى إلى عالم مليء بالمفارقات والألم المستتر خلف لغة تجمع بين الصدمة والشاعرية. فالعنوان في حد ذاته ينطوي على جرأة في التعبير ورغبة في كسر التوقعات، فهو يتحدى الصورة النمطية للعصافير كرمز للحرية والجمال، ليحولها رمزا للضيق أو القيد الذي ترغب الساردة في التخلص منه. هذه القوة في التركيب تثير فضول القارئ وتدفعه للتساؤل عن طبيعة القصص التي تختبئ وراء هذا العنوان/ الإعلان/ البوح الصادم.

غلافا روايتين لهدى حمد

أما عناوين القصص فتكاد تكون متآلفة مع العنوان الرئيس، نذكر منها، "أخرج العصفور المحترق من فمي" يحمل رمزية عالية، إذ يصور الألم النفسي والضيق الداخلي على هيئة طائر محترق عالق في الفم، مما يعكس صراعا داخليا شديدا ورغبة في التحرر من المعاناة، بينما عنوان "ما تخبره العصافير في التعريشات" يوحي بأجواء سحرية وحنين، فتروي العصافير حكاياتها في ظلال التعريشات، مما يجسد لحظات تأمل ومشاركة غير مباشرة للهموم والأسرار، كما يجسد "غابة تحيط ببيت" ثنائية الأمان والخطر، حيث يحاط البيت بالرمزية الطبيعية المهيبة، مما يضفي شعورا بالعزلة ضمن مساحة مألوفة ولكنها محاطة بالغموض، ويعكس "ورق جدران بيت زهرة" حالة من الحنين والتفاصيل الصغيرة التي تحمل معاني أعمق، حيث يصبح ورق الجدران رمزا للذكريات والأحداث التي مرت في ذلك المكان. ويوحي "فستان الشيفون" بالأنوثة والرقة، إلا أن النص يكشف غالبا عن مفارقات ترتبط بمظاهر الجمال والهشاشة، وكيف يمكن أن تكون تلك المظاهر مخادعة أحيانا.

هذه اللغة القوية، المغموسة بألم التجربة الذاتية، تمنح السرد كثافة وجدانية وتجعله قريبا من الشعر دون أن يفقد طابعه القصصي

هذه العناوين وغيرها، تنم عن قدرة الكاتبة على جعل العنوان نافذة إلى عالم القصص، حيث يمتزج الظاهر بالخيال، والتجربة الشخصية بالأسطورة​.

خصوصية التجربة القصصية

إلى جانب عنايتها بالعناوين، تنحو هدى حمد نحو المزيد من الخصوصية في طرح المواضيع الإشكالية وزاوية تناولها، إذ تكمن جماليات قصصها في القدرة على الدمج بين السردي والشعري، الواقع والحلم، مما يجعل نصوصها تحلق في فضاء يقترب من الكتابة/ السيرة الشخصية ولكنه لا يفقد بريق العمل الأدبي المتكامل.

في عوالم نصوصها تلتقي الحقيقة بالخيال، وتنسج من خلال لغة مشحونة بالعواطف قصصا تحمل في طياتها أصوات النساء اللواتي يناضلن ضد قيود المجتمع والعادات والتقاليد. هذه اللغة القوية، المغموسة بألم التجربة الذاتية، تمنح السرد كثافة وجدانية وتجعله قريبا من الشعر دون أن يفقد طابعه القصصي.

هدى حمد

وفي خضم الفوضى السردية ضمن خريطة الأدب في العالم العربي، تبرز هدى حمد كصوت مختلف في الأدب العماني والخليجي المعاصر، إذ تستلهم حكاياتها من البيئة المحلية، لكنها تضفي عليها أبعادا إنسانية تتجاوز الحدود الجغرافية.

إنها تكتب عن المرأة ككائن إنساني متكامل، له مشاعر وأحلام وأوجاع، وليس مجرد عنصر ثانوي في مجتمعات تحاول تقويض صوته. وبذلك، ترسخ هدى حمد موقعها ككاتبة تقاوم السكون بلغة حادة ورقيقة كأجنحة العصافير التي تصر على التحليق رغم القيود.

font change