المغرب في عين العاصفة التجارية "الترمبية-الأوروبية"

الاتحاد الأوروبي يفرض رسوما على أجزاء السيارات المصنعة محليا في المملكة

Shutterstock
Shutterstock
المغرب مركز المنافسة في شمال أفريقيا بين الصين والاتحاد الأوروبي وأميركا

المغرب في عين العاصفة التجارية "الترمبية-الأوروبية"

يتوسع نطاق الحرب التجارية التي أطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي والصين لتشمل دولا أخرى، على خريطة سلاسل الإمداد الصناعية العالمية، ويصنفها البنك الدولي كـ"دول الربط العالمي". هذه دول صاعدة اقتصاديا، بعضها في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وباتت تستقطب حصصا مهمة من الاستثمارات العالمية في الصناعات الجديدة، مثل قطاع السيارات، والطاقات المتجددة، وتكنولوجيا الاتصالات، والمنتجات الاستهلاكية، مستفيدة من تكلفة اليد العاملة، والتشريعات المحلية، والموقع الجغرافي.

رسوم أوروبية على صادرات مغربية

أُضيف المغرب إلى لائحة المعنيين بالصراع التجاري بين القوى الكبرى، بعدما قررت المفوضية الأوروبية في منتصف مارس/آذار فرض رسوم جمركية تعويضية على وارداتها من عجلات الألمنيوم المصنعة في المغرب، بسبب ما اعتبرته "ممارسات غير عادلة" و"تمويلات خارجية"، قالت إنها "تهدد مستقبل صناعة السيارات الأوروبية"، التي تعاني من تراجع واضح في الإنتاج، ونقص في المبيعات، نتيجة منافسة السيارات الآسيوية، خصوصا الصينية الكهربائية.

وقالت رابطة مصنعي السيارات الأوروبية (ACEA) "إن إنتاج الاتحاد الأوروبي من السيارات الجديدة انخفض عام 2024 بواقع 6 في المئة، إلى 11,4 مليون سيارة فقط، بعد تراجع الإنتاج في إيطاليا وبلجيكا، وإغلاق مصانع في فرنسا ورومانيا وألمانيا، التي تراجع إنتاجها إلى 4 ملايين سيارة (ما يوازي مبيعات كوريا الجنوبية)، تتبعها إسبانيا، ثم تشيكيا التي أنتجت 1,44 مليون سيارة.

تنتج مصانع القنيطرة شمال الرباط، وأخرى في الدار البيضاء، نحو 9 ملايين إطار من الألمنيوم سنويا، موجهة لمختلف أنواع عجلات السيارات والطرازات في العالم، بما فيها السيارات الصينية

في المقابل، أنتج المغرب، وهو دولة صاعدة في جنوب البحر الأبيض المتوسط، نحو 700 ألف سيارة عام 2024، سُوِّق معظمها داخل 71 دولة، من مجموع 75,5 مليون سيارة جديدة في العالم بيعت العام المنصرم. وتتوقع وزارة الصناعة والتجارة أن يرتفع الإنتاج إلى مليون سيارة عام 2025، 100 ألف منها كهربائية أو هجينة. وينتج المغرب حاليا موديلات من سيارات "داسيا"، و"رينو"، و"بيجو"، و"فيات"، و"أوبل"، و"سيتروين"، وقطاع غيار سيارات أميركية ويابانية وبريطانية وألمانية وغيرها.

 الحمائية التجارية الأوروبية

وقالت المفوضية الأوروبية إن الإجراءات الجمركية ضد المملكة هدفها "حماية المصنّعين الأوروبيين من إغراق السوق بعجلات مصنعة في المغرب، أصبحت تهدد 16,600 وظيفة داخل الاتحاد الأوروبي". وتعتبر بروكسيل "الدعم المغربي لقطاع السيارات غير متوافق مع قواعد منظمة التجارة العالمية"، بدعوى حصول القطاع على منح وقروض وإعفاءات ضريبية حكومية، وأيضا مساعدات ودعم خارجي، للشركات الصينية العاملة في المغرب، في إطار "مبادرة الحزام والطريق". وقال بيان المفوضية "إن هذه المنتجات تباع بأسعار أقل من قيمتها الحقيقية في السوق الأوروبية، مما يؤثر على المنافسة العادلة"، وهو ما يبرر في رأيها الحمائية التجارية، وفرض رسوم تعويضية تتراوح بين 5,6 في المئة و31,4 في المئة.

وتنتج مصانع القنيطرة شمال الرباط، وأخرى في الدار البيضاء، نحو 9 ملايين إطار من الألمنيوم سنويا، موجهة لمختلف أنواع عجلات السيارات والموديلات في العالم، بما فيها السيارات الصينية. ويعتقد محللون أن قضية العجلات هي مقدمة لصراع تجاري أكبر، بين الاتحاد الأوروبي والصين عبر المغرب، خصوصا في مجال السيارات والبطاريات الكهربائية.

أ.ب.
سيارات جديدة أمام مصنع رينو، في ضواحي مدينة طنجة في المغرب، 29 أبريل 2024

وسبق للاتحاد الأوروبي أن فرض رسوما جمركية تراوحت بين 9 و17,5 في المئة عام 2023 على المنتجات نفسها، لمواجهة ما سماه  "الإغراق"، مما رفع التكلفة الإجمالية التي يتحملها المصدرون المغاربة لدخول السوق الأوروبية، ورفعت معها تكلفة التصنيع محليا. وتعاني صناعة السيارات في أوروبا من ارتفاع تكلفة التجميع، بسبب الرسوم على الاستيراد من الخارج.

ما هي الخيارات المغربية للرد على أوروبا؟

من جهتها أعلنت الحكومة المغربية أنها تدرس كل الخيارات المتاحة للرد على قرار المفوضية الأوروبية بفرض رسوم تعويضية إضافية "غير مبررة". ولا يستبعد مراقبون تطبيق تعريفات جمركية جديدة على سلع أوروبية، في إطار المعاملة بالمثل. وقال الناطق الرسمي باسم الحكومة مصطفى بايتاس "إن المغرب يدرس كافة التدابير المناسبة لمواجهة هذا الوضع(...) لأن الشراكة بين المغرب والاتحاد الأوروبي هي شاملة، ولا يجب أن تكون خاضعة لـمنطق إنتقائي"، في إشارة إلى الفائض المالي الذي يحققه الاتحاد الأوروبي في تجارته مع المغرب.

يتمتع المغرب داخل هياكل الاتحاد الأوروبي بموقع الشريك المميز منذ عام 2008، وهو وضع يقل عن العضوية الكاملة ويفوق الشراكة التقليدية. وتعتبر بروكسيل الرباط أقدم شركائها في مجموع المنطقة العربية منذ عام 1969

وبلغت المبادلات بين الطرفين 110 مليارات دولار عام 2023، منها 68,7 مليارا من الواردات الى المغرب و41,7 مليار دولار من صادرات (سلع وخدمات) المملكة الى أوروبا، وفق تقرير مؤسسة "ميرسك" للشحن الدولي، مما يجعل الميزان التجاري يسجل فائضا بقيمة 27 مليار دولار لصالح الطرف الأوروبي، علما أن تجارة الرباط مع بروكسيل تمثل وحدها 63,4 في المئة من المبادلات المغربية الخارجية الإجمالية. وغالبا ما تحظى الشركات الأوروبية تاريخيا بالأفضلية، مقارنة مع منافسيها من القارات الأخرى، عندما يتعلق الأمر بعقود العمل والمناقصات الدولية.

هل يشفع وضع الشريك المميز؟

يتمتع المغرب داخل هياكل الاتحاد الأوروبي بموقع الشريك المميز منذ عام 2008، وهو وضع (Statut) يقل عن العضوية الكاملة ويفوق الشراكة التقليدية. وتعتبر بروكسيل الرباط أقدم شركائها في مجموع المنطقة العربية منذ العام 1969، وسبق للمغرب أن طلب الانضمام إلى السوق الأوروبية المشتركة عام 1985، تاريخ انضمام إسبانيا والبرتغال، وكان عدد الأعضاء يومها تسع دول فقط. وقد تم رفض الطلب المغربي لأسباب جغرافية (وثقافية أيضا).

Shutterstock
العلاقات التجارية بين المغرب والاتحاد الأوروبي على محكّ الامتحان

وفي عام 1996 جرى توقيع إتفاقية الشراكة الاقتصادية التي دخلت حيز التنفيذ عام 2000. وفي عام 2012، تم إنشاء منطقة تجارية حرة معمقة (على مدى 12عاما)، تسمح بحرية تبادل المنتجات الصناعية، دون فرض رسوم جمركية عليها، مع حصص متفق عليها في المجال الزراعي والصيد البحري. وكثيرا ما تثار خلافات بين الطرفين تُرفع إلى المحاكم الأوروبية، حول تفاصيل الاتفاقيات التجارية ومجالاتها وحصصها، وتعارضها أحيانا مع مصالح جهات نافذة. وبسبب الأزمات الأوروبية المتلاحقة، باتت بروكسيل اليوم أكثر ميلا إلى الحمائية، تحت ضغط نقابات المزارعين وجمعيات المصنعين، وصعود أحزاب راديكالية منغلقة وشوفينية.

صراع البطاريات الكهربائية

يشار الى أن السيارات الصينية، على الرغم من فرض رسوم جمركية عليها، حافظت على قوة المنافسة داخل الأسواق الأوروبية، خصوصا طرازات "بي. واي. دي." (BYD) الكهربائية، التي أزاحت غريمتها "تسلا" الأميركية. ويتحول موضوع السيارات تدريجيا إلى شأن انتخابي، في العديد من الدول الأوروبية، التي تغلق مصانعها تباعا، مع انفتاح السوق على موديلات من الشرق الأقصى. وينعكس الوضع سلبا على سوق العمل الذي يضم 14 مليون عامل في صناعات عمرها أكثر من مئة عام.

ومع توقع زيادة الطلب في السوق الأوروبية، تعمل مجموعة "غوشن هاي تيك" (Gotion High Tech) على بناء مصنع ضخم لإنتاج بطاريات السيارات الكهربائية في مجمع القنيطرة الصناعي شمال الرباط، هو الأكبر من نوعه في القارة الأفريقية، بتكلفة تناهز 1,3 مليار دولار، من حجم الاستثمارات الإجمالية بقيمة 6,5 مليارات دولار.

كشفت وثائق من المفوضية الأوروبية عن وجود دعم مالي قدمته الصين لشركاتها العاملة في المغرب، في إطار "مبادرة الحزام والطريق"، وهو ما اعتبرته بروكسيل تدخلا يؤثر على المنافسة الصناعية داخل الاتحاد الأوروبي

وأعلنت مجموعة "بي. تي. آر. نيو ماتريال" وشركة "شينزوم" استثمار 990 مليون دولار لبناء وحدات تصنيع مكونات البطاريات بشراكة استثمارية مع مجموعة "المدى" المغربية، بالاعتماد على مواد أولية محلية مثل الليثيوم والكوبالت والفوسفات.

انقسام أوروبي حول الصين

وكشفت وثائق من المفوضية الأوروبية عن وجود دعم مالي قدمته الصين لشركاتها العاملة في المغرب، في إطار "مبادرة الحزام والطريق"، وهو ما اعتبرته بروكسيل تدخلا يؤثر على المنافسة الصناعية داخل الاتحاد الأوروبي. لكن هذا الأمر فيه خلاف داخلي، لأن هناك دولا أوروبية ترحب بالاستثمارات الصينية في العديد من القطاعات والمجالات، ولا تريد تلك الدول أن تكون على خلاف في آن واحد مع روسيا في أزمة أوكرانيا، ومع ترمب في موضع التجارة والدعم العسكري، ومع الصين في مجال الاستثمارات.

.أ.ف.ب
سيارة كهربائية صينية من تصنيع شركة "BYD" في معرض باريس للسيارات، في 17 اكتوبر 2022

وكانت بروكسيل قد رفعت الرسوم الجمركية على السيارات الكهربائية الصينية إلى 46 في المئة نهاية العام المنصرم، قبل بداية الحرب التجارية التي أعلنها الرئيس ترمب مباشرة بعد حفل التنصيب في 20 يناير/كانون الثاني الماضي. وتتوجس صناعة السيارات الأوروبية من استخدام الصين للمنصات الصناعية المغربية القريبة، خصوصا السيارات والبطاريات الكهربائية، في ظل انقسام أوروبي: مثلا، إسبانيا ترحب بالاستثمارات الصينية في مجال السيارات بعد فتح شركة "شيري" مصنعا في برشلونة. كذلك السويد ترحب بالاستثمارات الصينية، بعد استحواذ "جيلي" على علامات "فولفو" التي كانت تمتلكها "فورد" الأميركية.

"مبادرة الحزام والطريق" في جنوب المتوسط

لا يخفي الاتحاد الأوروبي صراحة انزعاجه من توسع "مبادرة الحزام والطريق" الصينية دخل منطقة شمال أفريقيا وجنوب البحر الأبيض المتوسط، من المغرب إلى مصر، ومن البحر الأحمر إلى المحيط الأطلسي. وترتبط هذه الدول العربية، باستثناء ليبيا، باتفاقيات الشراكة والتعاون الاقتصادي والتبادل التجاري مع الاتحاد الأوروبي. كما يرتبط المغرب وتونس ومصر والأردن والإمارات ولبنان وفلسطين بـ"اتفاقية أغادير للتجارة الحرة" لعام 2004.

وتسعى بكين لتعويض النقص الذي تتسبب به الرسوم الأميركية على الاقتصاد الصيني، بمزيد من الانفتاح على السوق الأوروبية التي انتقلت المبادلات معها من 96 مليار دولار عام 1995 إلى 1,46 تريليون دولار عام 2024. وترى الصين في الدول العربية القريبة من أوروبا مجالا محفزا للاستثمار. لكن الخلاف الجزائري المغربي، وتعليق العمل بـ"اتحاد المغرب العربي" يحدان من الاستفادة العربية من الموقع الجغرافي المتميز، بين مضيق جبل طارق وقناة السويس.

دور المغرب كحل بديل لشركات السيارات الكهربائية الصينية، قد يضعه في قلب منافسة القوى العظمى العالمية

معهد "تشاتام هاوس" البريطاني

وأعلن الرئيس تشي جين بينغ تخصيص مبلغ 45 مليار دولار استثمارات وتمويلات صينية في مجموع القارة، غالبيتها في شمال أفريقيا. وتراهن الصين على المواد المعدنية والنادرة، وممرات التجارية البحرية الدولية، لتعزيز موقعها في التجارة العالمية.

الصين تحلط الأوراق في البحر المتوسط

مع دخول الصين على خط العلاقات التجارية المغربية-الأوروبية، ترى بروكسيل أن انضمام الرباط إلى "مبادرة الحزام والطريق" قد يمنح الشركات الصينية منافسة قوية داخل المنطقة الأورو-متوسطية، وفي إمكانها استخدام اتفاقيات الشراكة والتجارة الحرة لتصدير صناعتها، في ظروف تعتقدها مثالية للجانب الصيني، وغير متكافئة للجانب الأوروبي. وتبني الصين حاليا أكبر منصة صناعية في البحر الأبيض المتوسط في مدينة "طنجة هاي تيك" بتكلفة 10 مليارات دولار، على بعد 9 أميال من السواحل الإسبانية.

كتب ديفيد شين من جامعة جورج واشنطن مقالا في صحيفة "ساوث تشاينا مورنينغ بوست" قال فيه "إن قرب المغرب من الأسواق الأوروبية وتوفره على احتياطي مهم من المواد الأولية لصناعة البطاريات، وقدرته على إنتاج الطاقة الخضراء (والهيدروجين)، تُعتبر عوامل جذب رئيسة للمستثمرين داخل المملكة". وتوقع معهد "تشاتام هاوس" البريطاني، أن يتحول المغرب إلى ساحة تجاذب تجاري بين أوروبا والصين، وقال "إن دور المغرب كحل بديل لشركات السيارات الكهربائية الصينية، قد يضعه في قلب منافسة القوى العظمى العالمية".

أ.ب.
تحميل سيارات للشحن بالقرب من مصنع رينو في مدينة طنجة المغربية، 29 أبريل 2024

ويُتوقع أن تقوم الولايات المتحدة لاحقا بمحاولة الضغط على المغرب، لتعديل اتفاقية المنطقة التجارية الحرة لعام 2006، حتى لا تستفيد الشركات الصينية من قواعد المنشأ (الباب الخامس من الاتفاقية). لكن بكين من جانبها، تصر على الاستثمار في المغرب، لأنه الوحيد بين العرب والمسلمين القادر على الدخول إلى أسواق العام سام، دون رسوم جمركية، أو بأقل تكلفة، وله هامش مناورة.

تدرك الرباط أن التحدي صعب لإرضاء الشركاء كافة في توازن المصالح، لكن تدرك أيضا انه يمكن الاستفادة من تنافس الكبار، على الموارد والممرات والأسواق.  

font change

مقالات ذات صلة