المرجعيات الدينية والفصائل في السويداء

تأييد اللامركزية ورفض التقسيم... و"حماية الدروز"

غيتي
غيتي
ماجد رضوان أحد شيوخ عشائر السويداء يلقي قصيدة عبّر فيها عن فرحه بسقوط النظام أثناء زيارته للشيخ حكمت سلمان الهجري، الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في دمشق، سوريا، في 26 ديسمبر 2024.

المرجعيات الدينية والفصائل في السويداء

لطالما كانت محافظة السويداء جزءا فاعلا في المشاريع الوطنية الكبرى التي شهدها التاريخ السوري الحديث، حيث تميزت النخبة الدرزية بميلٍ قوي نحو الاندماج في إطار الدولة الوطنية، بعيدا عن النزعات الانفصالية. تجسد هذا الميل في مراحل مفصلية، بدءا من مقاومة الاحتلال العثماني والمشاركة في الثورة العربية الكبرى ثم السورية الكبرى بقيادة سلطان الأطرش، مرورا بمشروع الدولة الدستورية بعد الاستقلال، وصولا إلى الانخراط في المشروع القومي الناصري. كانت هذه المشاريع ذات الطابع العمومي، البيئة التي وجد فيها الدروز أنفسهم،جزءا من الكيان الوطني السوري.

إلا أن التحولات السياسية التي شهدتها سوريا بعد سقوط نظام الأسد أفرزت حالة من الغموض والتوتر داخل السويداء، انعكست في تباين مواقف المرجعيات الروحية، والزعامات التقليدية، والفصائل المسلحة، والقوى السياسية والمدنية تجاه الإدارة السورية الجديدة. لم يكن هذا التباين وليد اللحظة، بل تغذى بعوامل متعددة، أبرزها السياسات الحكومية الجديدة التي شملت قرارات التعيين وعمليات التسريح والفصل التي طالت الآلاف من موظفي القطاع العام، في ظل تدهور الأوضاع الإنسانية واستمرار الأزمات الاقتصادية والمعيشية والخدمية دون أي تحسن ملموس.

إلى جانب هذه العوامل الداخلية، كان للأحداث التي شهدها الساحل السوري أثر عميق في تشكيل مواقف فئات واسعة من أهالي السويداء. إلى جانب أعمال العنف التي شهدها الساحل السوري بين مقاتلين مرتبطين بالحكومة السورية الجديدة وقوات موالية للرئيس المخلوع بشار الأسد، وما رافقها من انتهاكات ضد المدنيين، وجرائم قتل ذات صبغة طائفية ضد العلويين، أثارت هذه الأحداث لدى الدروز قلقا وجوديا حقيقيا، مما زاد من توترهم حيال مستقبلهم واستقرارهم.

وبالإضافة إلى هذه العوامل، فقد جاء الإعلان الدستوري مخيبا لآمال البعض، ما عمق حالة القلق داخل السويداء- التي تشهد حراكا مدنيا وسياسيا يشي بذلك، في ظل غياب رؤية وطنية جامعة قادرة على استيعاب المكونات المختلفة ضمن مشروع يوحّد السوريين، ويحد من تعميق الاستقطابات القائمة.

في مجتمع السويداء كما في المجتمعات التقليدية، يلعب رجال الدين دورا محوريا في تشكيل الوعي الاجتماعي والسياسي

في هذا السياق، برز البُعد الإقليمي والدولي كعامل إضافي في تعقيد المشهد، لا سيما فيما يتعلق بالدور الإسرائيلي. إذ كشفت صحيفة "وول ستريت جورنال" عن مخطط إسرائيلي يستهدف تقسيم سوريا بما يخدم المصالح الإسرائيلية في المنطقة، وهو ما يتماشى مع استراتيجيات تل أبيب في إضعاف الدولة السورية ومنع قيام أي كيان مركزي قوي قد يشكّل تهديدا مستقبليا.

التصريحات الأخيرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، التي أشار فيها إلى استعداد إسرائيل لـ"حماية الدروز" في٤ حال تعرضهم للتهديد من قبل الإدارة السورية الجديدة، أثارت موجة من الجدل داخل السويداء وخارجها. فقد ساهمت هذه التصريحات في إذكاء حملة تجييش وتخوين غير مسبوقة ضد الدروز، حيث جرى تصويرهم كأنهم طرف في معادلة إقليمية لا تمثل بالضرورة خياراتهم الوطنية. هذا الأمر عزّز حالة الحذر داخل السويداء، وأعاد إلى الواجهة المخاوف من استغلال قضيتهم كورقة سياسية ضمن الصراع الإقليمي والدولي حول مستقبل سوريا.

غيتي
جدارية مزالة وممزقة لحافظ الأسد وابنه بشار الأسد في إدارة المخابرات العامة بمدينة السويداء جنوب سوريا، 22 ديسمبر 2024

بينما تتجه السويداء نحو مزيد من الغموض السياسي، تبقى الأسئلة حول مستقبلها مفتوحة: هل ستتمكن من الحفاظ على استقلالية قرارها السياسي وسط هذه التعقيدات؟ وما هو الموقف الحقيقي لزعاماتها الروحية والعسكرية من مشاريع الحكم المحلي، سواء كانت لامركزية إدارية أم فيدرالية؟ وكيف ستتفاعل مع المتغيرات الإقليمية التي تضعها مجددا في دائرة الضوء؟

المرجعيات الروحية في السويداء

في مجتمع السويداء كما في المجتمعات التقليدية، يلعب رجال الدين دورا محوريا في تشكيل الوعي الاجتماعي والسياسي. فالمجتمعات العربية والإسلامية بشكل عام تعتمد في بنيتها وثقافتها على مؤسسات دينية تعتبر ركيزة أساسية للحفاظ على الاستقرار الاجتماعي والإحساس بالهوية. وبالتالي، فإن رجال الدين يشكلون شريحة هامة من حوامل هذا المجتمع، ويُعَتَبر دورهم في حياة الناس لا غنى عنه.

على مر التاريخ، كان لرجال الدين في السويداء دور بارز في التصدي للاحتلالات والاستبداد، حيث كانوا في طليعة النضال ضد الاستعمار العثماني والفرنسي، وكان لهم تأثير كبير في تعزيز روح المقاومة والوحدة الوطنية.

تتفق المرجعيات الروحية في السويداء على ضرورة الانضواء تحت مشروع دولة وطنية جامعة، حيث تعتبر الدولة المظلة التي يجب أن تضم جميع المواطنين السوريين دون استثناء

إلا أن هذا الدور لم يخلُ من تحديات وخلافات داخلية، حيث كانت السلطات السياسية المتعاقبة تحاول الاستفادة من التوترات بين المرجعيات الروحية لتقويض أي محاولة لتشكيل قوة موازية تهدد هيمنتها. فعملت سلطة نظام الأسد على استمالة الدروز كأقلية عبر تعزيز علاقتها بمشيخة عقل الطائفة، التي تضم ثلاثة شيوخ بارزين: الرئيس الروحي حكمت الهجري، ويوسف جربوع، وحمود الحناوي.

في الوقت نفسه، حرصت على أن تكون هذه الهيئة غير منسجمة أو متماسكة في قراراتها، خوفا من أي تحولات قد تهدد سلطتها أو تقود إلى انقلاب داخلي عليها. هذا التلاعب السياسي كان وما زال عاملا مهماً في تعزيز الخلافات ضمن الهيئة الروحية، في ظل تهميش الحوامل السياسية والمدنية التي لم تبلغ بعد مرحلة الحداثة. لذلك، يبقى دور رجال الدين في المجتمع حاسما في توجيه الأحداث وبلورة المواقف، وهو ما نراه جليا اليوم من خلال تأثيرهم في الساحة السياسية والاجتماعية.

المرجعيات والإدارة الجديدة

تتفق المرجعيات الروحية في السويداء على ضرورة الانضواء تحت مشروع دولة وطنية جامعة، حيث تعتبر الدولة المظلة التي يجب أن تضم جميع المواطنين السوريين دون استثناء. هذا التوجه يعكس إيمانا مشتركا بوحدة الوطن وأهمية بناء مستقبل سياسي شامل يضمن الحقوق والمساواة لجميع المكونات الطائفية والعرقية في سوريا. ورغم التوافق على هذا المبدأ، فإن هناك اختلافا في وجهات النظر حول التوقيت المناسب للانخراط في هذا المشروع، يرتبط ذلك بمدى توفر الضمانات أو المؤشرات التي تؤكد جدية بناء دولة وطنية جامعة.

 يرى الشيخ حكمت الهجري أن السلطة السورية الحالية "تحمل طابعا سلفيا جهاديا يثير قلق الأقليات" بما في ذلك الدروز، الذين يخشون أن يشكل هذا التوجه تهديدا خطيرا لهم في سوريا. ومن هنا، يدعو الهجري إلى ضرورة التريث حتى تتضح الصورة السياسية في البلاد وتُرسى أسسا دستورية شاملة تستند إلى مبادئ أساسية مثل المواطنة والديمقراطية. وقد وصف الإعلان الدستوري، الذي جاء وفقا لتخوفاته، بأنه غير منطقي.

تشهد السويداء تنوعا في الفصائل المسلحة، منها ما تشكل قبل سقوط النظام، ومنها ما ظهر بعده. وتختلف هذه الفصائل في مواقفها وعلاقاتها

يحض الشيخ الهجري السوريين على تشكيل تيار مغاير لهذا الخط السياسي للإدارة الحالية بحيث يكون قائما على مبادئ الدولة الحديثة (دولة المواطنة المتساوية) وبناء سوريا على أسس وطنية جامعة تشمل جميع مكوناتها. ويرى أنه يجب أن تظل الجهود منصبة على إيجاد توافقات تسمح بتطوير العملية السياسية في سوريا بما يحقق العدالة والمساواة لجميع أطياف الشعب السوري، بعيدا عن أي تدخلات خارجية قد تسعى إلى تفتيت البلاد.

في المقابل، يرى كل من الشيخ يوسف جربوع والشيخ حمود الحناوي أنه يجب الانخراط في مشروع الدولة بشكل فوري، شرط أن تتوافر بعض الضمانات الأساسية التي تضمن العدالة والمساواة في سوريا. هذا الاختلاف بينهما وبين الشيخ الهجري ينبع من التحديات السياسية الحالية في سوريا، والتي تتطلب مواقف مرنة تتناسب مع تطور الأحداث السياسية.

الموقف من التدخل الإسرائيلي

وفيما يتعلق بتصريحات إسرائيل حول حماية الدروز، ففي حديثين منفصلين لقناة "العربية" أكد الشيخان يوسف جربوع وحمود الحناوي، موقفهما الرافض لتلك التصريحات حيث جاء على لسان الشيخ الحناوي، أن "نحن وطنيون ولن نساوم على القضية الوطنية"، مشددا على أنه "لم يسبق أن مددنا أيادينا لأيادٍ أجنبية". هذا التصريح يعكس رفض الهيئة الروحية لأي تدخل خارجي، بما في ذلك التدخل الإسرائيلي الذي يسعى لاستغلال التنوع العرقي والطائفي في سوريا لزرع الفتنة بين مكوناتها. وأضاف الحناوي في تأكيده على هذا الموقف: "نحن سوريون شئنا أم أبينا، فلا أحد يمكنه أن يملي علينا، ونحن لا نسمح لأي إنسان أن يعتدي علينا".

غيتي
ألبوم صور من داخل إدارة المخابرات العامة في السويداء، سوريا في 26 ديسمبر 2024

وفي هذا السياق، يبدي الهجري موقفا محايدا تجاه تلك التصريحات؛ ويقول: "إنها لعبة وتوافقات دولية ويجب أن ينصب تركيز الجهود على معالجة الوضع الداخلي لتحقيق الاستقرار في سوريا عامة".

الفصائل المسلحة ومواقفها

تشهد السويداء تنوعا في الفصائل المسلحة، منها ما تشكل قبل سقوط النظام، ومنها ما ظهر بعده. وتختلف هذه الفصائل في مواقفها وعلاقاتها وفقا لعدة عوامل، أبرزها ارتباطها بالمرجعيات الدينية، وموقفها من الإدارة السورية الجديدة، ورؤيتها للإدارة المحلية، ومدى تأثرها بالتصريحات الإسرائيلية حول دعم الدروز. ومن الجدير بالذكر أن مواقف هذه الفصائل وتحالفاتها شهدت تغيرات دراماتيكية ومتسارعة، متأثرة بالتطورات الميدانية والتغيرات السياسية التي أعقبت سقوط النظام.

ويمكن تصنيف هذه الفصائل إلى مجموعتين استنادا إلى محددات مواقفها وعلاقتها مع المرجعيات الدينية، والسلطة الجديدة، والإدارة المحلية، والتصريحات الإسرائيلية بـ"حماية الدروز".

المجموعة الأولى: تضم حركة "رجال الكرامة"، و"لواء الجبل"، و"تجمع أحرار الجبل"، و"مضافة الكرامة"، و"كتيبة سلطان الأطرش".

تحافظ هذه الفصائل على علاقات جيدة مع المرجعيات التقليدية، مثل الباشا عاطف هنيدي، والأمير حسن الأطرش، والشيخ حمود الحناوي، والشيخ يوسف جربوع. أما علاقتها مع الشيخ حكمت الهجري، فتمر أحيانا بتجاذبات، لكنها لا تصل إلى مستوى الصدام، إذ تلتزم بدعمه عند الضرورة.

وفيما يتعلق بالسلطة الجديدة، لا تمانع هذه الفصائل في التواصل معها، بشرط عدم دخول عناصر تابعة للهيئة أو القوى المتشددة. كما ترحب بالدعم اللوجستي، بما في ذلك الرواتب والآليات، لكنها تشترط أن يكون الاعتماد بالكامل على كوادر محلية في الضابطة العدلية والأمن العام.

تحقيق الوحدة الوطنية يتطلب رؤية شاملة وحلولا وسطية تضمن استقرار البلاد، مع التأكيد على الشراكة والشمولية وتجنب الإقصاء

ولا تسعى هذه الفصائل إلى إقامة أي شكل من الإدارة الذاتية أو الفيدرالية، بل تؤكد أن دورها يقتصر على حفظ أمن الجبل، نظرا لعدم ثقتها بالعناصر التي تشكل الجيش الجديد والأجهزة الأمنية.

أما فيما يتعلق بمواقفها من التصريحات الإسرائيلية حول "دعم الدروز"، فهي تعتبر نفسها غير معنية بها، سواء سلبا أو إيجابا، وتؤكد أن موقفها يجب أن يظل خارج الصفقات الإقليمية والدولية.

المجموعة الثانية: تضم "المجلس العسكري" وهو القوة الحديثة والأكثر تنظيما، ويتبنى مشروعا عسكريا يقوم على مأسسة وتوحيد الفصائل العسكرية بالمحافظة والذي يعلن دعمه لمواقف الهجري، وتشمل الفصائل المرتبطة به "قوات العليا"، و"سرايا الجبل"، و"قوات شيخ الكرامة"، و"فزعة شباب الجبل"، و"درع الجبل"، و"جيش التوحيد".

هذه الفصائل ترفض التنسيق مع السلطة الجديدة، معتبرة إياها ذات فكر متطرف، كما أنها لا تعترف بشرعيتها. وتتخذ موقفا سياسيا أكثر وضوحا، حيث تطالب بنظام فيدرالي كحل سياسي لسوريا. أما فيما يتعلق بالتصريحات الإسرائيلية حول "دعم الدروز"، فلا تمتلك هذه الفصائل موقفا معلنا، سواء بالتأييد أو الرفض.

أ.ف.ب
المركز الثقافي العربي في مدينة السويداء جنوب سوريا في 29 ديسمبر 2024

إلا أنه رغم الاختلافات السياسية والعسكرية، تتفق جميع الفصائل على الوقوف صفا واحدا في حال تعرض السويداء لأي تهديد عسكري خارجي، مما يعكس أولوية الحفاظ على أمن الجبل واستقراره فوق أي خلافات داخلية.

يذكر أن فصيل "تجمع عشائر السنة"، الذي يتألف من البدو السنة في محافظة السويداء، مؤيد بالكامل للإدارة الجديدة.

بين تحديات الداخل والإقليم

تشكل السويداء نموذجا حيا للتنوع والتباين في المشهد السوري الجديد، حيث تواصل معظم القوى السياسية والثورية والمدنية الدعوة إلى وحدة وطنية شاملة تضم جميع المكونات، وتتباين مواقف قوى أخرى بين دعم التواصل مع الإدارة الجديدة ومعارضتها، وفقا لمعايير سياسية وأمنية متأثرة بالتجارب والخلفيات المختلفة. وفي ظل التدخلات الخارجية والمخططات الإسرائيلية التي تسعى إلى استغلال القضية الدرزية لتحقيق أهداف جيوسياسية، يظل التساؤل مطروحا حول كيفية ضمان مستقبل مستقل وآمن للسويداء.

إن تحقيق الوحدة الوطنية يتطلب رؤية شاملة وحلولا وسطية تضمن استقرار البلاد، مع التأكيد على الشراكة والشمولية وتجنب الإقصاء، إذ إن أي تهميش قد يوفر ذريعة للمشاريع الإسرائيلية وغيرها من التدخلات الخارجية. ويظهر أبناء السويداء توجها متزايدا نحو رفض المركزية الإدارية والميل إلى نظام أكثر لامركزية، يتيح لهم تمثيل أنفسهم بشكل أفضل والمشاركة الفاعلة في صياغة مستقبلهم.

ومع تعقيد المشهد، تبقى المسؤولية على عاتق صانعي القرار لإيجاد توافقات توازن بين متطلبات الأمن والاندماج الوطني من جهة، وحق أبناء السويداء في إدارة شؤونهم والمشاركة الفاعلة.

font change